الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان تمييز ما يحبه الله تعالى عما يكرهه .

اعلم أن فعل الشكر ، وترك الكفر ، لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه عما يكرهه ، إذ معنى الشكر استعمال نعمه تعالى في محابه ومعنى الكفر نقيض ذلك إما بترك الاستعمال أو باستعمالها في مكارهه ولتمييز ما يحبه الله تعالى مما يكرهه مدركان : أحدهما السمع ، ومستنده الآيات والأخبار والثاني بصيرة القلب ، وهو النظر بعين الاعتبار ، وهذا الأخير عسير وهو لأجل ذلك عزيز فلذلك أرسل الله تعالى الرسل ، وسهل بهم الطريق على الخلق ، ومعرفة ذلك تنبني على معرفة جميع أحكام الشرع في أفعال العباد فمن لا يطلع على أحكام الشرع في جميع أفعاله لم يمكنه القيام بحق الشكر أصلا وأما الثاني وهو النظر بعين الاعتبار فهو إدراك حكمة الله تعالى في كل موجود خلقه إذ ما خلق شيئا في العالم إلا وفيه حكمة وتحت الحكمة مقصود ، وذلك المقصود هو المحبوب ، وتلك الحكمة منقسمة إلى جلية وخفية ، أما الجلية فكالعلم بأن الحكمة في خلق الشمس أن يحصل بها الفرق بين الليل والنهار فيكون النهار معاشا والليل لباسا : فتتيسر الحركة عند الإبصار والسكون عند الاستتار فهذا من جملة حكم الشمس لا كل الحكم فيها ، بل فيها حكم أخرى كثيرة دقيقة وكذلك معرفة الحكمة في الغيم ونزول الأمطار وذلك لانشقاق الأرض بأنواع النبات مطعما للخلق ومرعى للأنعام . وقد انطوى القرآن على جملة من الحكم الجليلة التي تحتملها أفهام الخلق دون الدقيق الذي يقصرون عن فهمه إذ قال تعالى أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا الآية .

التالي السابق


(بيان تمييز ما يحبه الله تعالى عما يكرهه)

(اعلم) أرشدك الله تعالى (أن فعل الشكر، وترك الكفر، لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه) الله (تعالى عما يكرهه، إذ معنى الشكر استعماله نعمة في محابه) ومراضيه، قال القشيري في الرسالة: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن نضير يقول: سمعت الجنيد يقول: كان السري إذا أراد أن ينفعني سألني فقال لي يوما: يا أبا القاسم إيش الشكر؟ فقلت: أن لا يستعان بشيء من نعم الله تعالى على معاصيه، فقال: من أين لك هذا؟ فقلت: من مجالستك. (ومعنى الكفر نقيض ذلك) إذ حقيقته ستر نعمة المنعم فترك أداء شكرها (إما بترك الاستعمال) فيدعها معطلة (أو باستعماله) إياها (في مكارهه) ومساخطه .

(ولتمييز ما يحبه الله) تعالى (عما يكرهه مدركان: أحدهما السمع، ومستنده الآيات والأخبار) من كلام الله تعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، (والثاني بصيرة القلب، وهو النظر بعين الاعتبار، وهذا الأخير عسير) صعب المنال، (وهو لأجل ذلك عزيز) الوجود (فلذلك أرسل الله الرسل، وسهل بهم الطريق على الخلق، ومعرفة ذلك تنبني على معرفة جميع أحكام الشرع في أفعال العباد فمن لا يطلع على أحكام الشرع في جميع أفعاله لم يمكنه القيام بحق الشكر أصلا) لعدم إحاطته بجميع الأحكام .

(وأما الثاني وهو النظر بعين الاعتبار فهو إدراك حكمة الله تعالى في كل موجود خلقه إذ ما خلق شيئا في العالم إلا وفيه حكمة وتحت الحكمة مقصود، وذلك المقصود هو المحبوب، وتلك الحكمة منقسمة إلى جلية وخفية، أما الجلية فكالعلم بأن الحكمة في خلق الشمس أن يحصل به الفرق بين الليل والنهار فيكون النهار معاشا) أي: ظرفا للحركة في المعيشة أي: وقت معاش ينقلبون لتحصيل المعيشة أو حياة يبعثون فيها عن النوم، (والليل لباسا) أي: غطاء يستر بظلمته من أراد الاختفاء، (فتتيسر الحركة عند الإبصار) بنور النهار (والسكون عند الاستتار) بظلمة الليل (فهذا من جملة حكمة الشمس لا كل الحكم فيها، بل فيها حكم أخرى كثيرة دقيقة) لا يطلع عليها إلا أهل البصيرة. (وكذلك معرفة الحكمة في الغيم) وهو السحاب المسخر بين السماء والأرض (ونزول الأمطار) منه وذلك (كانشقاق الأرض بأنواع النبات مطعما للخلق ومرعى للأنعام. وقد انطوى القرآن على جملة من الحكم الجلية التي تحتملها أفهام الخلق دون الدقيق الذي يقصرون عن فهمه إذ قال تعالى) في تعداد النعم الخارجية: فلينظر الإنسان إلى طعامه (أنا صببنا الماء صبا) أي من السحب، (ثم شققنا الأرض شقا) أي: بالنبات أو بالكرات وأسند الشق إلى نفسه، وهو من إسناد الفعل إلى السبب (فأنبتنا فيها حبا) كالحنطة والشعير (وعنبا وقضبا) يعني الرطبة (وزيتونا ونخلا. الآية) وتمامها: [ ص: 64 ] وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم ، أي: فإن الأنواع المذكورة بعضها طعام وبعضها علف .




الخدمات العلمية