الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإذا انكشف لك أن جميع ما في السماوات والأرض مسخرات على هذا الوجه انصرف عنك الشيطان خائبا وأيس عن مزج توحيدك بهذا الشرك فأتاك في المهلكة الثانية وهي الالتفات إلى اختيار الحيوانات في الأفعال الاختيارية ويقول كيف ترى الكل عن الله وهذا الإنسان يعطيك رزقك باختياره فإن شاء أعطاك وإن شاء قطع عنك وهذا الشخص هو الذي يحز رقبتك بسيفه وهو قادر عليك إن شاء حز رقبتك وإن شاء عفا عنك فكيف لا تخافه ؟ وكيف لا ترجوه ؟ وأمرك بيده وأنت تشاهد ذلك ولا تشك فيه ويقول له أيضا : نعم إن كنت لا ترى القلم لأنه مسخر فكيف لا ترى الكاتب بالقلم وهو المسخر له وعند هذا زل أقدام الأكثرون إلا عباد الله المخلصين الذين لا سلطان عليهم للشيطان اللعين فشاهدوا بنور البصائر كون الكاتب مسخرا مضطرا كما شاهد جميع الضعفاء كون القلم مسخرا وعرفوا أن غلط الضعفاء في ذلك كغلط النملة مثلا لو كانت تدب على الكاغد فترى رأس القلم يسود الكاغد ولم يمتد بصرها إلى اليد والأصابع فضلا عن صاحب اليد فغلطت وظنت أن القلم هو المسود للبياض وذلك لقصور بصرها عن مجاوزة رأس القلم لضيق حدقتها ، فكذلك من لم ينشرح بنور الله تعالى صدره للإسلام قصرت بصيرته عن ملاحظة جبار السموات والأرض ومشاهدة كونه قاهرا وراء الكل . فوقف في الطريق على الكاتب وهو جهل محض ، بل أرباب القلوب والمشاهدات قد أنطق الله تعالى في حقهم كل ذرة في السموات والأرض بقدرته التي بها نطق كل شيء حتى سمعوا تقديسها وتسبيحها لله تعالى وشهادتها على نفسها بالعجز بلسان ذلق تتكلم بلا حرف ولا صوت لا يسمعه الذين هم عن السمع معزولون ولست أعني به السمع الظاهر الذي لا يجاوز بالأصوات فإن الحمار شريك فيه ولا قدر لما يشارك فيه البهائم وإنما أريد به سمعا يدرك به كلام ليس بحرف ولا صوت ولا هو عربي ولا عجمي .

فإن قلت : فهذه أعجوبة لا يقبلها العقل فصف لي كيفية نطقها وأنها كيف نطقت وبماذا نطقت وكيف سبحت وقدست وكيف شهدت على نفسها بالعجز فاعلم أن لكل ذرة في السموات والأرض مع أرباب القلوب مناجاة في السر وذلك مما لا ينحصر ولا يتناهى فإنها كلمات تستمد من بحر كلام الله تعالى الذي لا نهاية له قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر الآية ، ثم إنها تتناجى بأسرار الملك والملكوت وإفشاء السر لؤم بل صدور الأحرار قبور الأسرار وهل رأيت قط أمينا على أسرار ملك قد نوجي بخفاياه فنادى بسره على ملأ من الخلق ولو جاز إفشاء كل سر لنا لما قال : صلى الله عليه وسلم : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا بل كان يذكر ذلك لهم حتى يبكون ولا يضحكون .

ولما نهي عن إفشاء سر القدر ولما قال إذا ذكر النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا ولما خص حذيفة رضي الله عنه ببعض الأسرار فإذا عن حكايات مناجاة ذرات الملك والملكوت لقلوب أرباب المشاهدات مانعان : أحدهما : استحالة إفشاء السر والثاني خروج كلماتها عن الحصر والنهاية ولكنا في المثال الذي كنا فيه وهي حركة القلم .

نحكي من مناجاتها قدرا يسيرا يفهم به على الإجمال كيفية ابتناء التوكل عليه ، ونرد كلماتها إلى الحروف والأصوات وإن لم تكن حروفا وأصواتا ولكن هي ضرورة التفهيم فنقول : قال بعض الناظرين عن مشكاة نور الله تعالى للكاغد وقد رآه اسود وجهه بالحبر ما بال وجهك كان أبيض مشرقا والآن قد ظهر عليه السواد فلم سودت وجهك وما السبب فيه فقال الكاغد : ما أنصفتني في هذه المقالة فإني ، ما سودت وجهي بنفسي ولكن سل الحبر فإنه كان مجموعا في المحبرة التي هي مستقره ووطنه فسافر عن الوطن ونزل بساحة وجهي ظلما وعدوانا فقال صدقت فسأل الحبر عن ذلك فقال : ما أنصفتني فإني كنت في المحبرة وادعا ساكنا عازما على أن لا أبرح منها فاعتدى علي القلم بطمعه الفاسد واختطفني من وطني وأجلاني عن بلادي وفرق جمعي وبدني كما ترى على ساحة بيضاء فالسؤال عليه لا علي فقال صدقت ثم سأل القلم عن السبب في ظلمه وعدوانه وإخراج الحبر من أوطانه فقال : سل اليد والأصابع فإني كنت قصبا نابتا على شط الأنهار متنزها بين خضرة الأشجار فجاءتني اليد بسكين فنحت عني قشري ومزقت عني ثيابي واقتلعتني من أصلي وفصلت بين أنابيبي ثم برتني وشقت رأسي ثم غمستني في سواد الحبر ومرارته وهي تستخدمني وتمشيني على قمة رأسي ولقد نثرت الملح على جرحي بسؤالك وعتابك فتنح عني وسل من قهرني فقال صدقت ثم سأل اليد عن ظلمها وعدولها على القلم واستخدامها له فقالت اليد : ما أنا إلا لحم وعظم ودم وهل رأيت لحما يظلم أو جسما يتحرك بنفسه وإنما أنا مركب مسخر ركبني فارس يقال له القدرة والعزة فهي التي ترددني وتجول بي في نواحي الأرض أما ترى المدر والحجر والشجر لا يتعدى شيئا منها مكانه ولا يتحرك بنفسه إذ ؟ لم يركبه مثل هذا الفارس القوي القاهر أما ترى أيدي الموتى تساويني في صورة اللحم والعظم والدم ثم لا معاملة بينها وبين القلم فأنا أيضا من حيث أنا لا معاملة بيني وبين القلم فسل القدرة عن شأني فإني مركب أزعجني من ركبني . فقال : صدقت ثم سأل القدرة عن شأنها في استعمالها اليد وكثرة استخدامها وترديدها فقالت : دع عنك لومي ومعاتبتي فكم من لائم ملوم وكم من ملوم لا ذنب له وكيف خفي عليك أمري وكيف ظننت أني ظلمت اليد لما ركبتها وقد كنت لها راكبة قبل التحريك وما كنت أحركها ولا أستسخرها بل كنت نائمة ساكنة نوما ظن الظانون بي أني ميتة أو معدومة لأني ما كنت أتحرك ولا أحرك حتى جاءني موكل أزعجني وأرهقني إلى ما تراه مني فكانت لي قوة على مساعدته ولم تكن لي قوة على مخالفته وهذا الموكل يسمى الإرادة ولا أعرفه إلا باسمه وهجومه وصياله إذ أزعجني من غمرة النوم وأرهقني إلى ما كان لي مندوحة عنه لو خلاني ورائي فقال صدقت ، ثم سأل الإرادة ما الذي جرأك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة حتى صرفتها إلى التحريك وأرهقتها إليه إرهاقا لم تجد عنه مخلصا ولا مناصا ؟ فقالت الإرادة لا تعجل علي فلعل لنا عذرا وأنت تلوم فإني ما انتهضت بنفسي ولكني انتهضت وما أن انبعثت ولكني بعثت بحكم قاهر وأمر جازم ، وقد كنت ساكنة قبل مجيئه ولكن ورد علي من حضرة القلب رسول العلم على لسان العقل بالإشخاص للقدرة فأشخصتها باضطرار فإني مسكينة مسخرة تحت قهر العلم والعقل ولا أدري بأي جرم وقفت عليه وسخرت له وألزمت طاعته لكني أدري أني في دعة وسكون ما لم يرد علي هذا الوارد القاهر وهذا الحاكم العادل أو الظالم وقد وقفت عليه وقفا وألزمت طاعته إلزاما بل لا يبقى لي معه مهما جزم حكمه طاقة على المخالفة لعمري ما دام هو في التردد مع نفسه والتحير في حكمه فأنا ساكنة لكن مع استشعار وانتظار لحكمه فإذا انجزم حكمه أزعجت بطبع وقهر تحت طاعته وأشخصت القدرة لتقوم بموجب حكمه ، فسل العلم عن شأني ودع عني عتابك .

فإني كما قال القائل :


متى ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم

فقال صدقت وأقبل على العلم والعقل والقلب مطالبا لهم ومعاتبا إياهم على استنهاض الإرادة وتسخيرها لأشخاص القدرة ، فقال العقل : أما أنا فسراج ما اشتعلت بنفسي ولكن أشعلت ، وقال القلب : أما أنا فلوح ما انبسطت بنفسي ولكن بسطت ، وقال العلم : أما أنا فنقش نقشت في بياض لوح القلب لما أشرق سراج العقل وما انحططت بنفسي فكم كان هذا اللوح قبل خاليا عني فسل القلم عني لأن الخط لا يكون إلا بالقلم فعند ذلك تتعتع السائل ولم يقنعه جواب وقال قد طال تعبي في هذا الطريق وكثرت منازلتي ولا يزال يحيلني من طمعت في معرفة هذا الأمر منه على غيره ولكني كنت أطيب نفسا بكثرة الترداد لما كنت أسمع كلاما مقبولا لا في الفؤاد وعذرا ظاهرا في دفع السؤال فأما قولك إني خط ونقش وإنما خطني قلم فلست أفهمه فإني لا أعلم قلما إلا من القصب ولا لوحا إلا من الحديد أو الخشب ولا خطا إلا بالحبر ، ولا سراجا إلا من النار وإني لأسمع في هذا المنزل حديث اللوح والسراج والخط والقلم ولا أشاهد من ذلك شيئا أسمع جعجعة ولا أرى طحنا فقال له القلم : إن صدقت فيما قلت : فبضاعتك مزجاة وزادك قليل ومركبك ضعيف واعلم أن المهالك في الطريق التي توجهت إليها كثيرة ، فالصواب لك أن تنصرف وتدع ما أنت فيه فما هذا بعشك فأدرج عنه فكل ميسر لما خلق له وإن كنت راغبا في استتمام الطريق إلى المقصد فألق سمعك وأنت شهيد .

واعلم أن العوالم في طريقك هذا ثلاثة : عالم الملك والشهادة أولها ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد من هذا العالم وقد جاوزت تلك المنازل على سهولة ، والثاني عالم الملكوت وهو ورائي فإذا جاوزتني انتهيت إلى منازله وفيه المهامه الفيح والجبال الشاهقة والبحار المغرقة ولا أدري كيف تسلم فيها .

التالي السابق


(فإذا انكشف لك أن جميع ما في السماوات والأرض مسخرات على هذا الوجه انصرف عنك الشيطان خائبا وأيس عن مزج توحيدك بهذا الشرك) وسلمت من إغوائه (فربما يأتيك في الهلكة الثانية وهي الالتفات إلى اختيار الحيوانات في الأفعال الاختيارية ويقول) بوسوسته في الصدر: (كيف ترى الكل من الله وهذا الإنسان يعطيك رزقك باختياره فإن شاء أعطى لك وإن شاء قطع عنك و) يقول له أيضا: (هذا الشخص هو الذي يجز رقبتك بسيفه وهو قادر عليك إن شاء جز رقبتك وإن شاء عفا عنك فكيف لا تخافه؟ وكيف لا ترجوه؟ وأمرك بيده وأنت تشاهد ذلك ولا تشك فيه، فيقول: نعم) وفي نسخة: ويقول له أيضا: نعم (إن كنت لا ترى القلم أنه مسخر فكيف لا ترى الكاتب بالقلم وهو المسخر له وعند هذا زلت أقدام الأكثرين إلا عباد الله المخلصين الذين لا سلطان عليهم للشيطان) كما قال تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (فشاهدوا بنور البصائر كون الكاتب مسخرا مضطرا كما شاهد جميع الضعفاء كون القلم مسخرا وعرفوا أن غلط الضعفاء في ذلك كغلط النملة مثلا لو كانت تدب على الكاغد فترى رأس القلم يسود ولم يمتد بصرها إلى اليد والأصابع فضلا عن صاحب اليد فغلطت وظنت أن القلم [ ص: 402 ] هو المسود للبياض وذلك لقصور بصرها عن مجاوزة رأس القلم لضيق حدقتها، فكذلك من لم ينشرح بنور الله صدره) ولم ينفسح (قصرت بصيرته عن ملاحظة السماوات والأرض ومشاهدة كونه قاهرا ) وفي نسخة: قهارا (وراء الكل. فوقف في الطريق على الكاتب فهو جهل محض، بل أرباب القلوب والمشاهدات قد أنطق الله تعالى في حقهم كل ذرة في السماوات والأرض بقدرته التي نطق بها كل شيء حتى سمعوا تقديسها وتسبيحها لله تعالى وشهادتها على أنفسها بالعجز بلسان ذلق تتكلم بلا حرف ولا صوت لا يسمعه الذين هم عن السمع لمعزولون) وهم أهل الحجاب (ولست أعني بالسمع الظاهر الذي لا يجاوز الأصوات فإن الحمار) وهو أبلد الحيوانات (شريك فيه ولا قدر لما يشارك فيه البهائم وإنما أريد به سمعا) باطنا (يدرك به كلام ليس بحرف ولا بصوت ولا هو عربي ولا عجمي .

فإن قلت: فهذه أعجوبة لا يقبلها العقل فصف لي كيفية نطقها وأنها كيف نطقت وبماذا نطقت وكيف سبحت وقدست وكيف شهدت على أنفسها بالعجز فاعلم أن لكل ذرة في السماوات والأرض مع أرباب القلوب مناجاة في السر وذلك مما لا ينحصر ولا يتناهى فإنها كلمات تستمد من بحر كلام الله تعالى الذي لا نهاية له و) ذلك في قوله تعالى: ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي الآية، ثم إنها تناجي بأسرار الملك والملكوت وإفشاء السر لؤم) أي: يدل على لؤم الطبيعة بل (صدور الأحرار قبور الأسرار) كما في الأمثال السائرة (وهل رأيت قط أمينا على أسرار الملك قد نوجي فنادى بسره على ملأ من الخلق ولو جاز إفشاء كل سر لنا لما قال - صلى الله عليه وسلم -: لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) رواه أحمد والدارمي والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث أنس بلفظ: لو تعلمون ما أعلم، وقد تقدم .

(بل كان يذكر ذلك لهم حتى يبكون ولا يضحكون ولما نهي عن إفشاء سر القدر) قال العراقي: رواه ابن عدي وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر: القدر سر الله. الحديث، وهو ضعيف، وقد تقدم. انتهى .

قلت: وتمامه: فلا تفشوا الله سره .

(ولما قال - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا) رواه الطبراني وابن حبان في الضعفاء وأبو نعيم في الحلية وابن صصري في أماليه من حديث ابن مسعود بلفظ: فإذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا فقد تقدم (ولما خص) - صلى الله عليه وسلم - (حذيفة) بن اليمان - رضي الله عنه - (ببعض الأسرار) وقد تقدم .

(فإذا عن حكاية مناجاة ذرات الملك والملكوت لقلوب أرباب المشاهدات) العيانية (مانعان: أحدهما: استحالة إفشاء السر) لما ورد فيه من النهي (والثاني خروج كلماتها عن الحصر والنهاية) لكونها مستمدة من كلمات الله تعالى (ولكنا في المثال الذي كنا فيه وهي حركة القلم ومناجاته نذكر قدرا يسيرا يفهم به على) طريق (الإجمال كيفية انتهاء التوكل عليه، ونرد كلماتها إلى الحروف والأصوات وإن لم تكن هي حروفا وأصواتا) كما هو شأن الكلمات الإلهية عند أهل الحق (ولكن هذه ضرورة التفهيم فنقول: قال بعض الناظرين عن مشكاة نور الله تعالى) أي: بعين البصيرة (للكاغد وقد رآه اسود وجهه بالحبر ما بال وجهك كان [ ص: 403 ] أبيض مشرقا) أي: منيرا (والآن قد ظهر عليه السواد فلم سودت وجهك وما السبب فيه فقال الكاغد: ما أنصفتني في هذه المقالة، ما سودت وجهي بنفسي ولكن سل الحبر فإنه كان مجموعا في المحبرة التي هي مستقره ووطنه) ومحل إقامته (فسافر عن الوطن ونزل بساحة وجهي ظلما وعدوانا) ، فهذا السواد الذي تراه منه (فقال) الناظر للكاغد: (صدقت فسأل الحبر عن ذلك فقال: ما أنصفتني فإني كنت في المحبرة وادعا ساكنا عازما على أن لا أبرح عنها) أي: لا أزول عنها (فأعتدي على القلم بطمعه) وفي نسخة بطبعه (الفاسد) فأخذني (واختطفني من وطني) ومستقري (وأجلاني عن بلادي) أي: أبعدني عنها (وفرق جمعي وبددني كما ترى على ساحة بيضاء) يعني على صفحة الكاغد (فالسؤال) يتوجه (عليه لا علي فقال) الناظر (صدقت ثم سأل القلم عن السبب في ظلمه وعدوانه وإخراج القلم من أوطانه فقال: سل اليد والأصابع فإني كنت قصبا ثابتا على شط الأنهار ومتنزها بين خضرة الأشجار) متمايلا طربا عند نسائم الأسحار (فجاءتني اليد بسكين) حاد (فنحى عني ثمري) أي: أزاله (ومزق علي ثيابي) هي تلك القشور التي عليه بمنزلة الثياب (واقتلعني من أصلي وفصل بين أنابيبي) جمع أنبوب بالضم وهو ما بين الكعبين من القصب والقنا (ثم براني وشق رأسي وغمسني في سواد الحبر ومرارته) كانوا يدخلون في تركيبه شيئا مرا لئلا تقع عليه الذباب ولا تقطعه الأرضة (وهو ذا ليستخدمني ويمشيني على قمة رأسي) وقمة كل شيء أعلاه (ولقد نثرت الملح على جرحي بسؤالك وعتابك) وهو كناية عن شدة التألم (فتنح عني وسل من قهرني فقال صدقت ثم) التفت و (سأل اليد عن ظلمها وعدوانها على القلم) واقتطاعها إياه عن منبته وموضع أصله وجمعه (واستخدامها له) كيف تشاء (فقالت اليد: ما أنا إلا لحم وعظم ودم) ركبت بالعروق والأعصاب (وهل رأيت لحما يظلم) أو يعتدي (أو جسما يتحرك بنفسه) من غير محرك له (وإنما أنا مركب مسخر ركبني فارس يقال له القدرة والقوة فهي التي ترددني وتجول بي في نواحي الأرض أما ترى المدر والشجر والحجر لا يتعدى شيء منها مكانه) الذي أقيم فيه (ولا يتحرك بنفسه؟ إذا لم يركبه مثل هذا الفارس القوي القاهر أما ترى أيدي الموتى تساويني في صورة اللحم والعظم والدم ثم لا معاملة بينها وبين القلم فأنا أيضا من حيث أنا لا معاملة بيني وبين القلم فسل القدرة عن شأني فإني مركب أزعجني من ركبني. فقال: صدقت ثم سأل القدرة عن شأنها في استعمالها اليد وكثرة استخدامها وترديدها) في نواحي الأرض (فقالت: دع عنك لومي) فإن اللوم إغراء (و) دع (معاتبتي) فالعتب إزراء (فكم من لائم) غيره هو (مليم) في نفسه أو المراد كم من لائم غير مليم (وكم من ملوم لا ذنب له وكيف خفي عليك أمري وكيف ظننت أني ظلمت اليد لما ركبتها ولقد كنت راكبة إياها قبل التحريك وما كنت أحركها ولا أستسخرها بل كنت نائمة ساكنة نوما ظن الظانون بي أني ميتة أو معدومة) نظرا إلى ظاهر سكوني (لأني ما كنت أتحرك ولا أحرك حتى جاءني موكل أزعجني وأرهقني إلى ما تراه مني فكانت لي قوة على مساعدته ولم تكن لي قوة على مخالفته وهذا الموكل يسمى الإرادة ولا أعرفه إلا باسمه وهجومه وصيالته) وبطشه (إذ أزعجني من غمرة النوم وأرهقني إلى ما كان لي مندوحة) أي: سعة [ ص: 404 ] (عنه لو خلاني ورائي) أي: لو تركني وشأني (فقال صدقت، ثم سأل الإرادة ما الذي جرك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة حتى صرفتيها إلى التحريك وأرهقتيها ليد إرهاقا لم تجد عنه مخلصا ومناصا؟ فقالت الإرادة لا تعجل علي فلعل لنا عذرا وأنت تلوم) وهو مصراع بيت من غير فاء من فلعل .

(فإني ما انتهضت بنفسي ولكني انتهضت وما انبعثت ولكني بعثت بحكم قاهر وأمر جازم، وقد كنت ساكنة قبل مجيئه ولكن ورد علي من حضرة القلب رسول العلم على لسان العقل بالأشخاص للقدرة فأشخصتها باضطرار فإني) إذا (مسكينة مسخرة تحت قهر العلم والعقل ولا أدري بأي جرم وقعت عليه وسخرت له وألزمت طاعته لكني أدري أني كنت في دعة) أي: راحة (وسكون ما لم يرد علي هذا الوارد القاهر وهذا الحاكم العادل أو الظالم وقد وقفت عليه وقفة وألزمت طاعته إلزاما بل لا يبقى لي معه مهما جزم حكمه طاقة في الحكمة فإذا انجزم حكمه أزعجت بطبع وقهر تحت طاعته وأشخصت القدرة لتقوم بموجب حكمه، فسل العلم عن شأني ودع عني عتابك فإني كما قال القائل:

متى ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا أفارقهم فالراحلون هم )

وفي نسخة: أن لا تفارقهم .

(فقال صدقت فأقبل على العلم والعقل والقلب مطالبا لهم ومعاتبا إياهم على استنهاض الإرادة وتسخيرها لأشخاص القدرة، فقال العقل: أما أنا فسراج ما اشتعلت بنفسي ولكني أشعلت، وقال القلب: أما أنا فلوح ما انبسطت بنفسي ولكن بسطت، وقال العلم: أما أنا كنقش نقشت في بياض لوح القلب لما أشرق سراج العقل وما انحططت بنفسي فكم كان هذا اللوح خاليا عني فسل القلم عني فإن الخط لا يكون إلا بالقلم فعند هذا تتعتع السائل) أي: اضطرب (ولم يقنعه جوابه وقال قد طال تعبي في هذا الطريق وكثرت منازلتي ولا يزال يحيلني من طمعت به في معرفة هذا الأمر على غيره ولكني كنت أطيب نفسا بكثرة الترداد لما كنت أسمعه كان مقبولا في الفؤاد وعذرا ظاهرا في دفع السؤال فأما قولك) أيها العلم (إني خط نقش وإنما خطني قلم فلست أفهمه فإني لا أعلم قلما إلا من القصب ولا لوحا إلا من حديد أو الخشب ولا خطا إلا بالحبر، ولا سراجا إلا من النار وإني لا أسمع في هذا المنزل حديث اللوح والسراج والخط والقلم ولا أشاهد منه شيئا أسمع جعجعة ولا أرى طحنا) وهو مثل مشهور ويضرب للجبان يوعد ولا يوقع والبخيل يعد ولا ينجز، ولمن يكثر الكلام ولا يعمل، والجعجعة صوت الرحى والطحن بالكسر بمعنى المطحون .

(فقال له العلم: إن صدقت فيما قلت: فبضاعتك مزجاة) تدفع بها الأيام لقلتها (وزادك قليل ومركبك ضعيف هزيل والهلاك في الطريق الذي توجهت إليه كثير، فالصواب لك أن تنصرف وتدع ما أنت فيه فما هذا بعشك فادرج عنه) وأصل المثل ليس بعشك فادرجي (وكل ميسر لما خلق له) كما في الخبر (وإن كنت راغبا في استتمام الطريق إلى المقصد) العالي (فألق [ ص: 405 ] سمعك وأنت شهيد) أي: شاهد بقلبك (واعلم أن العوالم في طريقك هذه ثلاثة: عالم الملك والشهادة أولها) وهو عبارة عن عالم المحسوسات الطبيعية، والملك بالضم التصرف بالأمر والنهي في الجمهور والعالم كل ما سوى الله تعالى من الموجودات، وسمي عالم الشهادة بالإضافة إلى الملكوت الذي هو عالم الغيب .

(ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد من هذا العالم وقد جاوزت تلك المنازل على سهولة، والثاني عالم الملكوت) وهو فعلوت من الملك وهو عالم الغيب المختص بأرواح النفوس كما تقدم مرارا (وهو ورائي فإذا جاوزتني انتهيت إلى منازله وفيه المهامه الفيح) جمع أفيح وهو الواسع (والجبال الشاهقة) أي: المرتفعة (والبحار المغرقة) لتلاطم أمواجها (ولا أدري كيف تسلم فيها) وإليه الإشارة بقول القائل:


كيف الوصول إلى سعاد ودونها قلل الجبال دونهن حتوف






الخدمات العلمية