الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإذا الفعل يستعمل على وجوه مختلفة فلا تتناقض هذه المعاني إذا فهمت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للذي ناوله التمرة خذها لو لم تأتها لأتتك أضاف الإتيان إليه وإلى التمرة ، ومعلوم أن التمرة لا تأتي على الوجه الذي يأتي الإنسان إليها وكذلك لما قال التائب أتوب إلى الله تعالى ولا أتوب إلى محمد فقال : صلى الله عليه وسلم عرف الحق لأهله فكل من أضاف الكل إلى الله تعالى فهو المحقق الذي عرف الحق والحقيقة ومن أضافه إلى غيره فهو المتجوز والمستعير في كلامه ، وللتجوز وجه كما أن للحقيقة وجها ، واسم الفاعل وضعه واضع اللغة للمخترع ولكن ظن أن الإنسان مخترع بقدرته فسماه فاعلا بحركته ، وظن أنه تحقيق وتوهم أن نسبته إلى الله تعالى على سبيل المجاز مثل نسبة القتل إلى الأمير فإنه مجاز بالإضافة إلى نسبته إلى الجلاد فلما انكشف الحق لأهله عرفوا أن الأمر بالعكس .

وقالوا : إن الفاعل قد وضعته أيها اللغوي للمخترع فلا فاعل إلا الله ، فالاسم له بالحقيقة ولغيره بالمجاز .

أي تتجوز : به عما وضعه اللغوي له ولما جرى حقيقة المعنى على لسان بعض الأعراب قصدا أو اتفاقا صدقه رسول الله : صلى الله عليه وسلم : فقال : أصدق بيت قاله الشاعر قول لبيد :


ألا كل شيء ما خلا الله باطل

أي : كل ما لا قوام له بنفسه وإنما قوامه بغيره فهو باعتبار نفسه باطل ، وإنما حقيته وحقيقته بغيره لا بنفسه فإذا لا ، حق بالحقيقة إلا الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء ، فإنه قائم بذاته وكل ما سواه قائم بقدرته فهو الحق وما سواه باطل ولذلك قال سهل يا مسكين كان ولم تكن ويكون ولا تكون فلما كنت اليوم صرت تقول : أنا وأنا ، كن الآن كما لم تكن فإنه اليوم كما كان .

التالي السابق


(فإذا الفعل يستعمل على وجوه مختلفة فلا تتناقض هذه المعاني إذا فهمت ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - للذي ناوله التمرة خذها لو لم تأتها لأتتك) قال العراقي: رواه ابن حبان في كتاب روضة العقلاء من رواية هذيل بن شرحبيل ووصله الطبراني عن هذيل عن ابن عمر، ورجاله رجال الصحيح .

(أضاف الإتيان إليه وإلى التمرة، ومعلوم أن التمرة لا تأتي على الوجه الذي يأتي الإنسان إليها) فوجوه الإتيان مختلفة ولم يقل لأتاك بها رجل إذ لا بغية في [ ص: 428 ] ذكر ذلك كما لا بغية في قول المعطى أن يبتدأ من غير أن يسأل عند إرادة إظهار العطاء: الأمير أعطاني على يد عبده فلان فإن هذا لغو لا يحتاج إلى ذكر العبد مع ذكر الملك .

(وكذلك لما قال التائب أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد فقال - صلى الله عليه وسلم - عرف الحق لأهله) وهو الأيسر الذي قال: اللهم إني أتوب إليك. رواه أحمد عن الأسود بن سريع به مرفوعا، وقد رواه كذلك الطبراني والبيهقي والحاكم والضياء وتقدم في كتاب الزكاة. قال صاحب القوت: وإنما ذكر الله تعالى الأسباب; لأن الأسماء متعلقة بها والأحكام عائدة إلى الأسماء بالثواب والعقاب فلم يصلح أن لا يذكر فتعود الأحكام على الحاكم تعالى عن ذلك إنه هو يبدئ ويعيد، يبدئ الأحكام من الحاكم ويعيدها على المحكوم، وهذا هو سبب إظهار المكان من الموت والحياة لئلا يكون تعالى محكوما وهو الجليل الحاكم ولا يكون مأمورا وهو العزيز الآمر، وتوجهت الأوامر منه قبل المأمورات .

ومن هذه قوله - عز وجل -: ما عندكم ينفد وما عند الله باق وجميعها عنده في خزائنه إلا أنه أضاف الدنيا إلينا لرجوع الأحكام علينا وليزهدنا فيها، وأضاف الآخرة إليه تخصيصا لها وتفضيلا ليرغبنا فيها، وقد قال تعالى مخبرا عن عيسى - عليه السلام -: وإذ تخلق من الطين ومثله قال: فارزقوهم منه فسماه خالقا إذ خلق الله على يده، وسماهم رازقين لما جرى على أيديهم رزق أهله، فهو عنده كقوله في مريم: وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا وقد علمت أن الرطب لم يتساقط بهزها ولا فعل ولا جعل لهزها في الرطب، ولكن أراد أن يظهر كرامتها ويجعل الآية منه بيدها .

ومثل قوله تعالى: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فركض برجله فنبعت عينان أشد من الثلج وأحلى من العسل فشرب من إحداهما فغسل ما في جوفه من البلاء واغتسل من الأخرى فزال ما في جسمه من السقم والأذى، ولا فعل لرجليه في إظهار العينين ولكن الله - عز وجل - خلق ذلك على يده وأجراه بواسطته تكرمة له وآية وهبها له .

ونحو ذلك قوله تعالى لإبراهيم: ثم ادعهن يأتينك سعيا فجعل كيفية إحياء الموتى بيده تعالى بدعوته - عليه السلام - وكان ذلك جوابا لمساءلته: أرني كيف تحيي الموتى ولا مكان له في الإحياء، وكان الله في الدعوة كيف شاء .

وكذلك الموقن العارف ينطق عن الله فيكون الله تعالى المظهر لبيانه والمجري على لسانه كما كلم موسى - عليه السلام - من الشجرة وكان هو المكلم لعبده، وصارت الشجرة حجابا أوجده، والله غالب على أمره كما ينطق الروحاني من الملائكة على ألسنة النبيين وينطق الجناني من الأرواح على ألسنة المجانين، والله من ورائهم محيط .

(فكل من أضاف الكل إلى الله تعالى فهو المحقق الذي عرف الحق والحقيقة لأهله ومن أضافه إلى غيره فهو المتجوز والمستعير في كلامه، وللتجوز وجه كما أن للحقيقة وجها، واسم الفاعل وضعه واضع اللغة للمخترع) وهو المبتدع من غير سبب .

(ولكن ظن أن الإنسان مخترع بقدرته فسماه فاعلا بحركته، وظن أنه تحقيق وتوهم أن نسبته إلى الله تعالى على سبيل المثال مثل نسبة القتل إلى الأمير فإنه مجاز بالإضافة إلى نسبته إلى الجلاد فلما انكشف الحق لأهله عرفوا أن الأمر بالعكس وقالوا: إن الفاعل قد وضعته أيها اللغوي للمخترع فلا فاعل إلا الله، فالاسم له بالحقيقة ولغيره بالمجاز، أي: تجوز به عما وضعه اللغوي له) ولفظ القوت: وعند أهل المعرفة أن لا فاعل حقيقة إلا الله; لأن حقيقة الفاعل هو الذي لا يستعين بغيره من آلة ولا سبب. انتهى .

ولا يخفى أن هذا اصطلاح لهم وكون أن واضع اللغة واضع الفعل للاختراع فيه تأمل وإنما الفعل عندهم عبارة عن الهيئة العارضة للمؤثر في غيره بسبب التأثير أولا كالهيئة الحاصلة للقاطع بسبب كونه قاطعا، وقيل: هو التأثير من جهة مؤثر، وقيل: هو ما ظهر من داعية من الموقع، فهذه حدود الفعل التي وضعها فقهاء اللغة، وأما الاختراع فهو ابتداع شيء بلا سبب ولم يظن أحد منهم أن الإنسان يخترع شيئا بلا سبب فيسمى لذلك فاعلا فضلا عن أن يظن أن نسبته إليه على الحقيقة، فتأمل ذلك .

(ولما جرى حقيقة المعنى على لسان بعض الأعراب) إما (قصدا أو اتفاقا صدقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أصدق بيت قاله شاعر) وفي نسخة قالته العرب (قول لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

)

وكل نعيم لا محالة زائل



قال العراقي: في حديث متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ: قاله الشاعر. وفي رواية لمسلم: أشعر كلمة تكلمت بها العرب [ ص: 429 ] انتهى .

قلت: لفظ الصحيحين: أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم،
ورواه كذلك أحمد وابن ماجه وفي رواية لمسلم: أشعر كلمة تكلم بها العرب كلمة لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وقد رواه الترمذي كذلك .

قال صاحب القوت: قال الشاعر ذلك وهو يعلم أن في الأشياء أواسط حق وأسباب صدق، ثم لم يمنعه ذلك أن قال هذا إيثارا منه للتوحيد وتوحيد المتوحد، هذا مع قرب عهدهم بتكذيب الرسل وإبطال الكتب، ولكن لما كانت الأشياء بعد أن لم تكن ولا تكون بعد إن كانت أشبهت الباطل الذي لا حقيقة له أولية ولا ثبات له آخرية، وكان الله تعالى الأول الأزلي والآخر الأبدي فهو الحق ولا هكذا سواه. انتهى. وقد زاده المصنف وضوحا بقوله (أي: كل ما لا قوام له بنفسه وإنما قوامه بغيره فهو باعتبار نفسه باطل، وإنما حقيته وحقيقته بغيره لا بنفسه، فإذا لا حق بالحقيقة إلا الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء، فإنه قائم بذاته وكل ما سواه قائم بقدرته فهو الحق وما سواه باطل) .

وقال المصنف في المقصد: الحق في مقابلة الباطل والأشياء قد تستبان بأضدادها، وكل ما يخبر عنه فإما باطل مطلقا وإما حق مطلقا وإما حق من وجه باطل من وجه، فالممتنع لذاته هو الباطل مطلقا والواجب لذاته هو الحق مطلقا والممكن لذاته الواجب بغيره فهو حق من وجه، باطل من وجه، فهو من حيث ذاته لا وجود له فهو باطل، وهو من جهة غيره مستفيد للوجود فهو من هذا الوجه الذي يلي مفيد الوجود موجود فهو من ذلك الوجه حق ومن جهة نفسه باطل .

فكذلك كل شيء هالك إلا وجهه وهو كذلك أزلا وأبدا ليس ذلك في حال دون حال; لأن كل ما سواه أزلا وأبدا من حيث ذاته لا يستحق الوجود، وهو من جهته تعالى يستحق، فهو باطل بذاته حق بغيره، وعند هذا تعرف أن الحق المطلق هو الموجود الحقيقي بذاته الذي منه يوجد كل حقيقة .

ثم قال: وحظ العبد من هذا الاسم أن يرى نفسه باطلا ولا يرى غير الله حقا، والعبد وإن كان حقا فليس هو حقا لنفسه بل هو حق لغيره وهو الله تعالى، فهو موجود به لا بذاته بل هو بذاته باطل لولا إيجاد الحق له .

وقوله: فإذا لا حق بالحقيقة إلا الحي القيوم. إلخ. الحي الكامل المطلق هو الذي تندرج المدركات بأسرها تحت إدراكه والموجودات جميعها تحت فعله حتى لا يشذ عن عمله مدرك ولا عن فعله مفعول وذلك هو الله تعالى، والقيوم هو الذي قوامه بذاته وقيام كل شيء به وليس ذلك إلا لله تعالى، وما كان محتاجا في قوامه إلى وجود غيره لا يكون قائما بنفسه، والقائم بنفسه مطلقا فإذا قام به كل موجود فهو القيوم; لأن قوامه بذاته وقوام كل شيء به، وليس ذلك إلا لله سبحانه وتعالى .

(ولذلك قال سهل) التستري - رحمه الله تعالى - (يا مسكين كان) الله تعالى أزلا وأبدا (ولم تكن) أنت متصفا بالوجود (ويكون) كما كان (ولا تكون) أنت بل تفنى (فلما كنت اليوم) بين العدمين صرت (تقول: أنا وأنا، كن) فيما أنت فيه (الآن كما لم تكن فإنه اليوم كما كان) في الأزل نقله صاحب القوت، وهو إشارة إلى مقام إسقاط التدبير كما سيأتي الكلام عليه عند قوله: التوكل ترك التدبير .




الخدمات العلمية