الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد ذكرنا هل الأفضل إظهار الأخذ أو إخفاؤه في كتاب أسرار الزكاة مع جملة من أحكام الفقر فليطلب من موضعه .

وأما امتناع أحمد بن حنبل عن قبول عطاء سري السقطي رحمهما الله فإنما كان لاستغنائه عنه ، إذ كان عنده قوت شهر ، ولم يرض لنفسه أن يشتغل بأخذه وصرفه إلى غيره ، فإن في ذلك آفات وأخطارا والورع يكون حذرا من مظان الآفات إذ . لم يأمن مكيدة الشيطان على نفسه .

وقال بعض المجاورين بمكة : كانت عندي دراهم أعددتها للإنفاق في سبيل الله ، فسمعت فقيرا قد فرغ من طوافه وهو يقول بصوت خفي أنا جائع كما ترى عريان كما ترى ، فما ترى فيما ترى يا من يرى ولا يرى ؟ فنظرت فإذا عليه خلقان لا تكاد تواريه فقلت في نفسي : لا أجد لدراهمي موضعا أحسن من هذا فحملتها إليه فنظر إليها ثم أخذ منها خمسة دراهم وقال : أربعة ثمن مئزرين ، ودرهم أنفقه ثلاثة فلا حاجة بي إلى الباقي ، فرده قال : فرأيته الليلة الثانية وعليه مئزران جديدان فهجس في نفسي منه شيء فالتفت إلي فأخذ بيدي فأطافني معه أسبوعا كل شوط منها على جوهر من معادن الأرض يتخشخش تحت أقدامنا إلى الكعبين منها ذهب وفضة وياقوت ولؤلؤ وجوهر ولم يظهر ذلك للناس ، فقال هذا كله قد أعطانيه فزهدت فيه وآخذ من أيدي الخلق ؟ لأن هذه أثقال وفتنة وذلك للعباد فيه رحمة ونعمة والمقصود من هذا أن الزيادة على قدر الحاجة إنما تأتيك ابتلاء وفتنة لينظر الله إليك ماذا تعمل فيه ، وقدر الحاجة يأتيك رفقا بك فلا تغفل عن الفرق بين الرفق والابتلاء .

قال الله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا حق لابن آدم إلا في ثلاث : طعام يقيم صلبه ، وثوب يواري عورته ، وبيت يكنه فما زاد فهو حساب فإذا أنت في أخذ قدر الحاجة من هذه الثلاث مثاب وفيما زاد عليه إن لم تعص الله متعرض للحساب وإن عصيت الله فأنت متعرض للعقاب .

ومن الاختبار أيضا أن تعزم على ترك لذة من اللذات تقربا إلى الله تعالى وكسرا لصلة النفس فتأتيك عفوا صفوا لتمتحن بها قوة عقلك فالأولى الامتناع عنها ، فإن النفس إذا رخص لها في نقض العزم ألفت نقض العهد وعادت لعادتها ولا يمكن قهرها فرد ذلك مهم وهو الزهد فإن أخذته وصرفته إلى محتاج فهو غاية الزهد ولا يقدر عليه إلا الصديقون وأما إذا كانت حالك السخاء والبذل والتكفل بحقوق الفقراء وتعهد جماعة من الصلحاء فخذ ما زاد على حاجتك فإنه غير زائد على حاجة الفقراء وبادر به إلى الصرف إليهم ولا تدخره فإن إمساكه ولو ليلة واحدة فيه فتنة واختبار فربما يحلو في قلبك فتمسكه فيكون فتنة عليك وقد تصدى لخدمة الفقراء جماعة اتخذوها وسيلة إلى التوسع في المال والتنعم في المطعم والمشرب وذلك هو الهلاك ومن كان غرضه الرفق وطلب الثواب به فله أن يستقرض على حسن الظن بالله لا على اعتماد السلاطين الظلمة فإن ، رزقه الله من حلال قضاه ، وإن مات قبل القضاء قضاه الله تعالى عنه وأرضى غرماءه ، وذلك بشرط أن يكون مكشوف الحال عند من يقرضه فلا يغر المقرض ولا يخدعه بالمواعيد بل يكشف حاله عنده ليقدم على إقراضه على بصيرة ودين مثل هذا الرجل واجب أن يقضى من مال بيت المال ومن الزكاة وقد قال تعالى : ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله قيل : معناه ليبع أحد ثوبيه .

وقيل : معناه فليستقرض بجاهه فذلك مما آتاه الله .

وقال بعضهم إن : لله تعالى عبادا ينفقون على قدر بضائعهم ولله عباد ينفقون على قدر حسن الظن بالله تعالى .

ومات بعضهم فأوصى بماله لثلاث طوائف : الأقوياء والأسخياء والأغنياء ، فقيل من هؤلاء ؟ فقال : أما الأقوياء فهم أهل التوكل على الله تعالى ، وأما الأسخياء فهم أهل حسن الظن بالله تعالى ، وأما الأغنياء فهم أهل الانقطاع إلى الله تعالى فإذا مهما وجدت هذه الشروط فيه ، وفي المال ، وفي المعطي فليأخذه وينبغي أن يرى ما يأخذه من الله لا من المعطي لأن المعطي واسطة قد سخر للعطاء وهو مضطر إليه بما سلط عليه من الدواعي والإرادات والاعتقادات وقد حكي أن بعض الناس دعا شقيقا في خمسين من أصحابه فوضع الرجل مائدة حسنة ، فلما قعد قال لأصحابه : إن هذا الرجل يقول من لم يرن صنعت هذا الطعام وقدمته فطعامي عليه حرام ، فقاموا كلهم وخرجوا إلا شابا منهم كان دونهم في الدرجة فقال صاحب المنزل لشقيق ما : قصدت بهذا ؟ قال : أردت أن أختبر توحيد أصحابي كلهم .

وقال موسى عليه السلام : يا رب جعلت رزقي هكذا على أيدي بني إسرائيل يغديني هذا يوما ، ويعشيني هذا ليلة ، فأوحى الله تعالى إليه : هكذا أصنع بأوليائي أجري أرزاقهم على أيدي البطالين من عبادي ليؤجروا فيهم .

فلا ينبغي أن يرى المعطي إلا من حيث أنه مسخر مأجور من الله تعالى نسأل الله حسن التوفيق لما يرضاه .

التالي السابق


(وقد ذكرنا هل الأفضل إظهار الأخذ وإخفاؤه في كتاب أسرار الزكاة مع جملة من أحكام الفقر فليطلب من موضعه، وأما امتناع أحمد عن قبول عطاء سري السقطي - رحمهما الله تعالى - فإنما كان لاستغنائه عنه، إذ كان عنده قوت شهر، ولم ير لنفسه أن يشتغل بأخذه وصرفه إلى غيره، فإن في ذلك آفات وأخطارا) أعظمها الاشتغال بغير الله تعالى (والورع) من شأنه (يكون حذرا من مظان الأخطار) وفي نسخة: الآفات، فيتجنب عنها (إذا لم يأمن مكيدة الشيطان على نفسه) ، ومن يكون في الورع مثل أحمد - رحمه الله تعالى - (وقال بعض المجاورين بمكة: كانت عندي دراهم أعددتها للإنفاق في سبيل الله، فسمعت) مرة (فقيرا قد فرغ من طوافه) وصلاته وتعلق بأستار الكعبة (وهو يقول بصوت خفي) : يا رب إني (جائع كما ترى) ، يا رب، إني (عريان كما ترى، فما ترى فيما ترى يا من يرى ولا يرى؟ ) قيل: إنه كان من فقراء العجم ودعا بالعجمية وهذه ترجمته (فنظرت فإذ عليه خلقان) أي: ثياب رثة (لا تكاد تواريه) لقصرها وتقطعها (فقلت في نفسي: لا أرى لدراهمي موضعا أحسن من هذا فحملتها إليه فنظر إليها ثم أخذ منها خمسة دراهم وقال: أربعة ثمن مئزرين، ودرهم أنفقه ثلاثا ولا حاجة لي إلى الباقي ، فرده ) إلي، (قال: فرأيته الليلة الثانية يطوف وعليه مئزران جديدان فهجس في نفسي شيء) أي: ساء ظني فيه، (فالتفت إلي فأخذ بيدي فأطافني معه أسبوعا كل شوط منها على جوهر من معادن الأرض يتخشخش) أي: يتحرك مع صوت (تحت أقدامنا إلى الكعبين منها ذهب وفضة وياقوت ولؤلؤ وجوهر ولم يظهر ذلك للناس، فقال) لي: (هذا كله قد أعطانيه) ربي، (فزهدت فيه وآخذ من أيدي الخلق؟ لأن هذه أثقال وفتنة) وامتحان (وذلك) أي: الأخذ من أيدي الخلق (للعباد فيه رحمة ونعمة) ، أورده صاحب القوت في كتاب التوكل وفيه: ثم قال لهم: نحن مكاشفون بسر الملك، وظاهر لنا كنوز الأرض، ولكن لا نأخذ منه شيئا زهدا فيه، ولأن له أثقالا، فتركه أفضل، ونأخذ أرزاقنا من أيدي الناس وبالأسباب; لأنه أحب إلى الله لمنافع العباد، ولأن الحكمة والأحكام في هذا أكثر (والمقصود من ذكر هذا أن الزيادة على قدر الحاجة إنما تأتيك ابتلاء ) واختبارا (وفتنة لينظر الله إليك ماذا تعمل فيه، وقدر الحاجة يأتيك) من حيث كان (رفقا بك) وشفقة عليك (فلا تغفل عن الفرق بين الرفق والابتلاء قال تعالى: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم ) أي: نختبرهم ( أيهم أحسن عملا ) أيهم أزهد في الدنيا .

(وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا حق لابن آدم إلا في ثلاث: طعام يقيم صلبه، وثوب يواري عورته، وبيت يقيه من الحر والبرد، فما زاد فهو حساب) قال العراقي: رواه الترمذي من حديث عثمان بن عفان إلا أنه قال: [ ص: 301 ] وجلف الخبز والماء بدل قوله: طعام يقيم صلبه، وقال: صحيح. انتهى .

قلت: لفظه في جامعه: ليس لابن آدم حق فيما سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء. وقال: حسن صحيح، وهكذا رواه ابنه عبد بن حميد والحاكم والضياء. وروى ابن النجار من حديث ثوبان: يكفيك من الدنيا ما سد جوعتك ووارى عورتك فإن كان لك شيء يظلك فذاك، وإن كان لك دابة تركبها فبخ.

(فإذا أنت في أخذ قدر الحاجة من هذه الثلاث مثاب) لأن لك فيه حقا، وقد أذن الله لك في أخذها (وفيما زاد عليه إن لم تعص الله متعرض للحساب) فيما أخذته وفيما صرفته (وإن عصيت الله فأنت متعرض للعقاب) فهذا معنى قوله: حلالها حساب وحرامها عقاب (ومن الاختبار أيضا أن تعزم على ترك لذة من اللذات) الدنيوية (تقربا إلى الله تعالى وكسرا لصفة النفس) أي: لثورتها (فتأتيك) تلك اللذة (عفوا صفوا) من غير تبعة ولا كدورة (ليمتحن بها قوة عقلك) هل تلابسها أو تتركها؟ (فالأولى الامتناع عنها، فإن النفس إذا رخص لها في نقض العزم ألفت نقض العهد وعادت لعادتها) القديمة (ولا يمكن قهرها) بعد ألفتها، (فرد ذلك مهم) من آكد المهمات (وهو الزهد فإن أخذته) في العلانية (وصرفته إلى محتاج) سرا (فهو غاية الزهد) ويسمى زهد الزهد (ولا يقدر عليه إلا الصديقون) من الزاهدين، وقد أشرنا إلى ذلك في أول الفصل .

(وأما إذا كان حالك السخاء والبذل والتكفل بحقوق الفقراء وتعهد جماعة من الصلحاء) بالخدمة وقضاء الحوائج (فخذ ما زاد على حاجتك فإنه غير زائد على حاجة الفقراء) إذ حاجتهم كثيرة (وبادر به إلى الصرف إليهم ولا تدخر لغد فإن إمساكه ولو لليلة واحدة فيه فتنة واختبار) من الله تعالى (فربما يحلو في قلبك فتمسكه ويكون فتنة عليك) إلا لأمر ضروري لا بد منه، (وقد تصدى لخدمة الفقراء) في الربط (والزوايا جماعة اتخذوها وسيلة في التوسع في المال والتنعم في المطعم والمشرب) والملبس (وذلك هو) عين (الهلاك) ويليه أن يتخذه وسيلة إلى تحصيل الجاه (ومن كان غرضه الرفق) بالفقراء (وطلب الثواب) من الله تعالى (فله أن يستقرض على حسن الظن بالله لا على اعتماد السلاطين الظلمة أن يأتي منهم شيء فيؤديه منه، فإن رزقه الله من حلال قضاه، وإن مات قبل القضاء قضى الله تعالى عنه وأرضى عنه غرماءه، وذلك بشرط أن يكون مكشوف الحال على من يقرضه فلا يغر المقرض ولا يخدعه بالمواعيد بل يكشف حاله عنده) أي: يظهره له بأنه لا يملك شيئا من متاع الدنيا، والذي يستقرض إنما هو لأجل الصرف على مواضع الثواب، وإن سداده إنما هو الفيض المطلق لا عن جهة معلومة معينة (ليقدم) المقرض (على إقراضه) وهو (على بصيرة) ويقين من أمره (ودين مثل هذا الرجل) إذا عجز أو مات (واجب أن يقضى من بيت المال ومن الزكاوات) بعد أن يرفع أمره لولي الأمر (فقد قال تعالى: ومن قدر عليه رزقه ) أي: ضيق وحبس ( فلينفق مما آتاه الله قيل: معناه ليبع أحد ثوبيه) ويكتف بالثوب الواحد (وقيل: معناه فليستقرض بجاهه فذلك) مما (قد آتاه الله، وقال بعضهم: لله تعالى عباد ينفقون على قدر بضائعهم) الموجودة عندهم (ولله عباد ينفقون على قدر حسن الظن بالله تعالى) وهؤلاء أعلى مقاما (ومات بعضهم فأوصى بماله) أي: ثلثه (لثلاث طوائف: الأقوياء والأسخياء والأغنياء، فقيل) له: (من هؤلاء؟ فقال: أما الأقوياء فهم أهل التوكل على الله تعالى، وأما الأسخياء فهم أهل حسن الظن بالله تعالى، وأما الأغنياء فهم أهل الانقطاع إلى الله تعالى) انقطعوا إلى الله تعالى فأغناهم عن غيره (فإذا مهما وجدت هذه الشروط [ ص: 302 ] فيه، وفي المال، وفي المعطى فليأخذ) وهو الأفضل (وينبغي أن ما يأخذه من الله) تعالى (لا من المعطي إنما المعطي) في الظاهر (واسطة قد سخر للعطاء وهو مضطر إليه بما سلط عليه من الدواعي) والبواعث (والإرادات والاعتقادات) ، والمعطي الحق في الحقيقة هو الله تعالى هذا هو التوحيد الكامل، وقد تقدم تحقيق ذلك في أسرار الزكاة .

(وقد حكي أن بعض الناس) من المعتقدين (دعا شقيقا) ابن إبراهيم البلخي - رحمه الله تعالى - (في خمسين من أصحابه) فأتى بهم إلى منزله (فوضع الرجل مائدة حسنة، فلما قعد) شقيق (قال لأصحابه: إن هذا الرجل يقول) - يعني صاحب المائدة -: (من لم يرني صنعت هذا الطعام وقدمته فطعامي عليه حرام، فقاموا كلهم) ولم يأكلوا (وخرجوا) من المنزل وكانوا ممن ينظرون إلى الحقائق (إلا شابا كان دونهم في الدرجة فقال صاحب المنزل لشقيق: ماذا قصدت بهذا؟ قال: أردت أن أختبر توحيد أصحابي كلهم) هل كمل توحيدهم أم لا؟ فإن كمال التوحيد أن لا يرى في الوجود فاعلا إلا الله ولا ينكر الوسائط، فإنهم مستمرون بإذن الله تعالى، ولما كان الشاب لم يكمل في معرفته بعد، أكل من الطعام ولم يقم، فإن مقامه يعطي أن الذي صنع الطعام وقدمه إليه هو صاحب المنزل ولا يعدو علمه ذلك .

(وقال موسى - عليه السلام -: يا رب جعلت رزقي هكذا على أيدي بني إسرائيل يغديني هذا يوما، ويعشيني هذا ليلة، فأوحى الله تعالى إليه: هكذا أصنع بأوليائي أجري أرزاقهم على أيدي البطالين) وفي لفظ: العاصين (من عبادي ليؤجروا فيهم) نقله صاحب القوت، وقال: فعلم هذا للمتوكلين، ومعرفة هذه الحكمة لمن أوصل إليهم، قسمهم من المؤملين مقام للجمع في المعرفة واليقين، فهو حال المعطي الموصل، وطريق للآخذ المتوكل (فلا ينبغي أن يرى المعطي إلا من حيث إنه مسخر مأجور من الله تعالى) لا أنه المعطي حقيقة، والله الموفق .




الخدمات العلمية