الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان أن الأفضل هو غلبة الخوف أو غلبة الرجاء أو اعتدالهما

اعلم أن الأخبار في فضل الخوف والرجاء قد كثرت وربما ينظر الناظر إليهما فيعتريه شك في أن الأفضل أيهما ، وقول القائل :

الخوف أفضل أم الرجاء سؤال فاسد يضاهي قول القائل : الخبز أفضل أم الماء ؟ وجوابه أن يقال : الخبز أفضل للجائع ، والماء أفضل للعطشان ، فإن اجتمعا نظر إلى الأغلب ، فإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل ، وإن كان العطش أغلب فالماء أفضل ، وإن استويا فهما متساويان ، وهذا لأن كل ما يراد لمقصود ففضله يظهر ، بالإضافة إلى مقصوده لا إلى نفسه ، والخوف والرجاء دواءان يداوى بهما القلوب ، ففضلهما بحسب الداء الموجود ، فإن كان الغالب على القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والاغترار به ، فالخوف أفضل ، وإن كان الأغلب هو اليأس والقنوط من رحمة الله، فالرجاء أفضل ، وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية فالخوف أفضل ، ويجوز أن يقال : مطلقا الخوف أفضل على التأويل الذي يقال فيه الخبز أفضل من السكنجبين ؛ إذ يعالج بالخبز مرض الجوع ، وبالسكنجبين مرض الصفراء ، ومرض الجوع أغلب وأكثر ؛ فالحاجة إلى الخبز أكثر ، فهو أفضل فبهذا الاعتبار غلبة الخوف أفضل ؛ لأن المعاصي والاغترار على الخلق أغلب وإن نظر إلى مطلع الخوف والرجاء فالرجاء أفضل لأنه مستقى من بحر الرحمة ، ومستقي الخوف من بحر الغضب ومن لاحظ من صفات الله تعالى ما يقتضي اللطف والرحمة كانت المحبة عليه أغلب وليس وراء المحبة مقام

وأما الخوف فمستنده الالتفات إلى الصفات التي تقتضي العنف فلا تمازجه المحبة ممازجتها للرجاء ، وعلى الجملة فما يراد لغيره ينبغي أن يستعمل فيه لفظ الأصلح لا لفظ الأفضل ، فنقول : أكثر الخلق الخوف لهم أصلح من الرجاء ، وذلك لأجل غلبة المعاصي

فأما التقي الذي ترك ظاهر الإثم وباطنه ، وخفيه وجليه ، فالأصلح أن يعتدل خوفه ورجاؤه ؛ ولذلك قيل : لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا

وروي أن عليا كرم الله وجهه قال لبعض ولده يا بني خف الله خوفا ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك ، وارج الله رجاء ترى أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك ولذلك قال عمر رضي الله عنه : لو نودي : ليدخل النار كل الناس إلا رجلا واحدا لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل ولو نودي ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلا واحدا لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل ، وهذا عبارة عن غاية الخوف والرجاء ، واعتدالهما ، مع الغلبة والاستيلاء ، ولكن على سبيل التقاوم والتساوي فمثل عمر رضي الله عنه ينبغي أن يستوي خوفه ورجاؤه ، فأما العاصي إذا ظن أنه الرجل الذي استثني من الذين أمروا بدخول النار كان ذلك دليلا على اغتراره ، فإن قلت : مثل عمر رضي الله عنه لا ينبغي أن يتساوى خوفه ورجاؤه بل ينبغي أن يغلب رجاؤه كما سبق في أول كتاب الرجاء ، وأن قوته ينبغي أن تكون بحسب قوة أسبابه كما مثل بالزرع والبذر ومعلوم أن من بث البذر الصحيح في أرض نقية وواظب على تعهدها وجاء بشروط الزراعة جميعها غلب على قلبه رجاء الإدراك ، ولم يكن خوفه مساويا لرجائه ، فهكذا ينبغي أن تكون أحوال المتقين ، فاعلم أن من يأخذ المعارف من الألفاظ ، والأمثلة ، يكثر زلله : وذلك وإن أوردناه مثالا فليس يضاهي ما نحن فيه من كل وجه ؛ لأن سبب غلبة الرجاء العلم الحاصل بالتجربة ؛ إذ علم بالتجربة صحة الأرض ونقاؤها وصحة البذر ، وصحة الهواء ، وقلة الصواعق المهلكة في تلك البقاع وغيرها ، وإنما مثال مسألتنا بذر لم يجرب جنسه ، وقد بث في أرض غريبة لم يعهدها الزارع ، ولم يختبرها ، وهي في بلاد ليس يدري أتكثر الصواعق فيها أم لا ، فمثل هذا الزارع ، وإن أدى كنه مجهوده : وجاء بكل ، مقدوره فلا يغلب رجاؤه على خوفه ، والبذر في مسألتنا هو الإيمان ، وشروطه صحته دقيقة ، والأرض القلب ، وخفايا خبثه وصفائه من الشرك الخفي ، والنفاق ، والرياء ، وخفايا الأخلاق فيه غامضة ، والآفات هي الشهوات ، وزخارف الدنيا ، والتفات القلب إليها في مستقبل الزمان ، وإن سلم في الحال وذلك مما لا يتحقق ولا يعرف بالتجربة ؛ إذ قد تعرض من الأسباب ما لا يطاق مخالفته ، ولم يجرب مثله ، والصواعق هي أهوال سكرات الموت ، واضطراب الاعتقاد عنده ، وذلك مما لم يجرب ، مثله ثم الحصاد والإدراك عند المنصرف من القيامة إلى الجنة ، وذلك لم يجرب ، فمن عرف حقائق هذه الأمور فإن كان ضعيف القلب جبانا في نفسه غلب خوفه على رجائه لا محالة ، كما سيحكى في أحوال الخائفين من الصحابة والتابعين وإن كان قوي القلب ، ثابت الجأش ، تام المعرفة ، استوى خوفه ورجاؤه فأما أن يغلب رجاؤه فلا ، ولقد كان عمر رضي الله عنه يبالغ في تفتيش قلبه ، حتى كان يسأل حذيفة رضي الله عنه أنه هل يعرف به من آثار النفاق شيئا ؛ إذ كان قد خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم المنافقين

.

التالي السابق


(بيان أن الأفضل هو غلبة الخوف أو غلبة الرجاء أو اعتدالهما)

( اعلم) هداك الله تعالى (أن الأخبار في فضل الخوف والرجاء قد كثرت وربما ينظر الناظر إليهما [ ص: 217 ] فيعتريه شك في أن الأفضل أيهما، وقول القائل: الخوف أفضل أم الرجاء سؤال فاسد) فإن أعمال المقامات إذا اتحدت فلا يصبح التفاضل فيها إلا بأسبابها وأحوالها التي هي حواث على الأعمال، بل (يضاهي) قوله (قول القائل: الخبز أفضل أم الماء؟ وجوابه أن يقال: الخبز أفضل للجائع، والماء أفضل للعطشان، فإن اجتمعا نظر إلى الأغلب، فإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل، وإن كان العطش أغلب فالماء أفضل، وإن استويا فهما متساويان، وهذا لأن كل ما يراد لمقصود ففضله يظهر، بالإضافة إلى مقصوده لا إلى نفسه، والخوف والرجاء دواءان يداوى بهما القلوب، ففضلهما بحسب الداء الموجود، فإن كان الغالب على القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والاغترار به، فالخوف أفضل، وإن كان الأغلب هو اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى فالرجاء أفضل، وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية فالخوف أفضل، ويجوز أن يقال: مطلق الخوف) الذي يراد لذاته هو (أفضل) مطلقا (على التأويل الذي يقال فيه الخبز أفضل من السكنجبين؛ إذ يعالج بالخبز مرض الجوع، وبالسكنجبين مرض الصفراء، ومرض الجوع أغلب وأكثر؛ فالحاجة إلى الخبز أكثر، فبهذا الاعتبار غلبة الخوف أفضل؛ لأن المعاصي والاغترار على الخلق أغلب) فالخوف يربط زمام ابتهاج المحبين وانبساطهم عن الإفراط إلى الاعتدال .

(فإن نظر إلى مطلع الخوف والرجاء فالرجاء) أفضل (لأنه مستق من بحر الرحمة، ومستقي الخوفين من بحر الغضب) وشتان بينهما (لأن من لاحظ من صفات الله تعالى ما يقتضي اللطف والرحمة كانت المحبة عليه أغلب) وموجبات الرحمة في الوجود أكثر من موجبات الغضب، (وليس وراء المحبة مقام) لأنها من الغايات .

(وأما الخوف فمستنده الالتفات إلى الصفات التي تقتضي العنف فلا تمازجه المحبة ممازجتها للرجاء، وعلى الجملة فما يراد لغيره ينبغي أن يستعمل فيه لفظ الأصلح لا الأفضل، فنقول: أكثر الخلق الخوف لهم أصلح من الرجاء، وذلك لأجل غلبة المعاصي) وكثرة الاغترار (فأما التقي الذي ترك ظاهر الإثم وباطنه، وخفيه وجليه، فالأصلح أن يعتدل خوفه ورجاؤه؛ ولذلك قيل: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا) هو قول مطرف بن عبد الله، رواه أبو نعيم في الحلية حدثنا أبو حامد بن جبلة حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن الصباح حدثنا سفيان قال قال مطرف: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لوجدا سواء لا يزيد أحدهما على صاحبه. (وروي أن عليا كرم الله وجهه قال لبعض ولده) يعظه: يا بني (خف الله خوفا ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك، وارج الله رجاء ترى أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك) . وكما أوصى لقمان ابنه فقال: يا بني خف الله خوفا لا تيأس فيه من رحمته، وارجه رجاء لا تأمن مكره. وفي لفظ آخر: وارجه رجاء أشد من خوفك، فقال: وكيف أستطيع ذلك وإنما لي قلب واحد؟! قال: أما علمت أن المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما، ويرجو بالآخر. وفي القوت: وكان علي رضي الله عنه يقول: عليكم بالنمط الأوسط، يرجع إليه العالي، ويرتفع عنه الداني .

وهذا قول فصل غير شطط، ولا هزل، وهو طريق أهل السنة، ومذهب أولي المعرفة، فصدق الرجاء، واعتدال الخوف به، من حقيقة العلم بالله، والمؤمن حقا هو المعتدل بين الرجاء والخوف، (ولذلك قال عمر رضي الله عنه: لو نودي: ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلا واحدا لخشيت أن أكون ذلك الرجل، ولو نودي ليدخل النار كل الناس [ ص: 218 ] إلا رجلا واحدا لرجوت أن أكون ذلك الرجل) . رواه أبو نعيم في الحلية عن محمد بن معمر حدثنا أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي حدثنا الأوزاعي حدثنا يحيى بن كثير عن عمر بن الخطاب قال: لو نادى مناد من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم أجمعون إلا رجلا واحدا؛ لخفت أن أكون أنا هو، ولو نادى مناد: أيها الناس إنكم داخلون النار إلا رجلا واحدا؛ لرجوت أن أكون أنا هو. (وهذا عبارة عن غاية الخوف والرجاء، واعتدالهما، مع الغلبة والاستيلاء، ولكن على سبيل التقاوم والتساوي) لأنهما لا يبنيان على سابقة، ولا وسيلة، بل على كمال العلم والإرادة، بخفي المكر والألطاف، والشك فيما يصدر عنهما متساو، فلا يغلب أحدهما الآخر (فمثل عمر رضي الله عنه ينبغي أن يستوي خوفه ورجاؤه، فإن قلت: مثل عمر رضي الله عنه ينبغي أن يساوي خوفه رجاءه بل ينبغي أن يغلب رجاؤه كما سبق أول كتاب الرجاء، وأن قوته ينبغي أن تكون بحسب قوة أسبابه كما مثل بالبذر والزرع) ومر في كتاب الرجاء .

(ومعلوم أن من بث البذر الصحيح) عن التسويس (في أرض نقية) صالحة (وواظب على تعهدها) ومراعاتها (وجاء بشروط الزراعة جميعها غلب على قلبه رجاء الإدراك، ولم يكن خوفه مساويا لرجائه، فهكذا ينبغي أن تكون أحوال المتقين، فاعلم أن من يأخذ المعارف من الألفاظ، والأمثلة، يكثر زلله) أي: خطؤه (وذلك وإن أوردناه مثالا فليس يضاهي ما نحن فيه من كل وجه؛ لأن سبب غلبة الرجاء العلم الحاصل بالتجربة؛ إذ علم بالتجربة صحة الأرض ونقاؤها) عن المؤذيات، (وصحة البذر، وصحة الهواء، وقلة الصواعق المهلكة في تلك البقاع وغيرها، وإنما مثال مسألتنا بذر لم يجرب جنسه، وقد بث في أرض غريبة لم يعهدها الزارع، ولم يختبرها، وهي في بلاد ليس يدري أتكثر بها الصواعق أم لا، فمثل هذا الزارع، وإن أدى كنه مجهوده) أي: خالصه (وجاء بكل مقصوده، فلا يغلب رجاؤه على خوفه، والبذر في مسألتنا هو الإيمان، وشروط صحته دقيقة، والأرض القلب، وخفايا خبثه وصفاؤه من الشرك الخفي، والنفاق، والرياء، وخفايا الأخلاق فيه غامضة، والآفات هي الشهوات، وزخارف الدنيا، والتفات القلب إليها في مستقبل الزمان، وإن سلم في الحال فذلك مما لا يتحقق ولا يعرف بالتجربة؛ إذ قد يعرض من الأسباب ما لا تطاق مخالفته، ولم يجرب مثله، والصواعق هي أهوال سكرات الموت، واضطراب الاعتقاد عنده، وذلك مما لم يجرب، ثم الحصاد والإدراك عند المنصرف من القيامة إلى الجنة، وذلك مما لا يجرب، فمن عرف حقائق هذه الأمور فإن كان ضعيف القلب جبانا في نفسه غلب خوفه على رجائه لا محالة، كما سنحكي في أحوال الخائفين من الصحابة والتابعين) ومن بعدهم .

(وإن كان قوي القلب، ثابت الجأش، تام المعرفة، استوى خوفه ورجاؤه) فصار في الاعتدال، (فأما أن يغلب رجاؤه) على خوفه (فلا، ولقد كان عمر رضي الله عنه يبالغ في تفتيش قلبه، حتى كان يسأل حذيفة) بن اليمان (رضي الله عنه أنه هل يعرف به من آثار النفاق شيئا؛ إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصه بعلم المنافقين) . قال العراقي: روى مسلم من حديث [ ص: 219 ] حذيفة: في أصحابي اثنا عشر منافقا ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط... الحديث اهـ .

قلت: ورواه كذلك أحمد.




الخدمات العلمية