الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الأهل والولد الصالح فلا يخفى وجه الحاجة إليهما إذ قال صلى الله عليه وسلم : نعم العون على الدين المرأة الصالحة وقال صلى الله عليه وسلم : في الولد : إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث ؛ ولد صالح يدعو له . الحديث وقد ذكرنا فوائد الأهل والولد في كتاب النكاح .

وأما الأقارب فمهما كثر أولاد الرجل وأقاربه كانوا له مثل الأعين والأيدي فيتيسر له بسببهم من الأمور الدنيوية المهمة في دينه ما لو انفرد به لطال شغله وكل ما يفرغ قلبك من ضرورات الدنيا فهو معين لك على الدين فهو إذا نعمة وأما العز والجاه فبه يدفع الإنسان عن نفسه الذل والضيم ولا يستغني عنه مسلم فإنه لا ينفك عن عدو يؤذيه وظالم يشوش عليه علمه وعمله وفراغه ويشغل قلبه وقلبه . رأس ماله وإنما تندفع هذه الشواغل بالعز والجاه ولذلك قيل : الدين والسلطان توأمان قال تعالى : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولا معنى للجاه إلا ملك القلوب كما لا معنى للغنى إلا ملك الدراهم ، ومن ملك الدراهم تسخرت له أرباب القلوب لدفع الأذى عنه فكما يحتاج إلى سقف يدفع عنه المطر وجبة تدفع عنه البرد وكلب يدفع الذئب عن ماشيته فيحتاج أيضا إلى من يدفع الشر به عن نفسه وعلى هذا القصد كان الأنبياء الذين لا ملك لهم ولا سلطنة يراعون السلاطين ويطلبون عندهم الجاه وكذلك علماء الدين لا على قصد التناول من خزائنهم والاستئثار والاستكثار في الدنيا بمتابعتهم ولا تظنن أن نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث نصره وأكمل دينه وأظهره على جميع أعدائه ومكن في القلوب حبه حتى اتسع به عزه وجاهه كانت أقل من نعمته عليه حيث كان يؤذى ويضرب حتى افتقر إلى الهرب والهجرة .

فإن قلت كرم : العشيرة وشرف الأهل هو من النعم أم لا ؟ فأقول : نعم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : الأئمة من قريش ولذلك كان صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس أرومة في نسب آدم عليه السلام .

وقال صلى الله عليه وسلم تخيروا لنطفكم الأكفاء وقال صلى الله عليه وسلم : إياكم وخضراء الدمن ، فقيل : وما خضراء الدمن ؟ قال : المرأة الحسناء في المنبت السوء فهذا أيضا من النعم ، ولست أعني به الانتساب إلى الظلمة ، وأرباب الدنيا ، بل الانتساب إلى شجرة صلى الله عليه وسلم ، وإلى أئمة العلماء ، وإلى الصالحين والأبرار المتوسمين في العلم والعمل .

فإن قلت فما معنى الفضائل البدنية فأقول : لا خفاء بشدة الحاجة إلى الصحة والقوة ، وإلى ، طول العمر ، إذ لا يتم علم وعمل إلا بهما : ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله تعالى وإنما يستحقر من جملته : أمر الجمال ، فيقال يكفي أن يكون البدن سليما من الأمراض الشاغلة عن تحري الخيرات ولعمري الجمال قليل الغناء ، ولكنه من الخيرات أيضا ، أما في الدنيا فلا يخفى نفعه فيها ، وأما في الآخرة فمن وجهين .

أحدهما أن القبيح مذموم ، والطباع عنه نافرة ، وحاجات الجميل إلى الإجابة أقرب وجاهه في الصدور أوسع ، فكأنه من هذا الوجه جناح مبلغ كالمال والجاه إذ هو نوع قدرة إذ يقدر الجميل الوجه على تنجيز حاجات : لا يقدر عليها القبيح ، وكل معين على قضاء حاجات الدنيا فمعين على الآخرة بواسطتها والثاني أن الجمال في الأكثر يدل على فضيلة النفس لأن نور النفس إذ أتم ، إشراقه تأدى إلى البدن فالمنظر والمخبر كثيرا ما يتلازمان ، ولذلك عول أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيآت البدن فقالوا : الوجه والعين مرآة الباطن ولذلك يظهر فيه : أثر الغضب والسرور والغم ولذلك قيل : طلاقة الوجه عنوان ما في النفس وقيل : ما في الأرض قبيح إلا ووجهه الأحسن ما فيه واستعرض ، المأمون جيشا فعرض عليه رجل قبيح فاستنطقه فإذا هو ألكن فأسقط اسمه : من الديوان : وقال : الروح إذا أشرقت على الظاهر فصباحة أو على الباطن ففصاحة ، وهذا ليس له ظاهر ، ولا باطن . وقد قال صلى الله عليه وسلم : اطلبوا الخير عند صباح الوجوه .

وقال عمر رضي الله تعالى عنه : إذا بعثتم رسولا فاطلبوه حسن الوجه حسن الاسم وقال الفقهاء : إذا تساوت درجات المصلين فأحسنهم وجها أولاهم بالإمامة وقال تعالى ممتنا بذلك : وزاده بسطة في العلم والجسم ولسنا نعني بالجمال ما يحرك الشهوة فإن ذلك أنوثة وإنما نعني به ارتفاع القامة على الاستقامة مع الاعتدال في اللحم وتناسب الأعضاء ، وتناصف خلقة الوجه ، بحيث لا تنبو الطباع عن النظر إليه .

فإن قلت فقد أدخلت المال ، والجاه ، والنسب ، والأهل ، والولد ، في حيز النعم .

التالي السابق


(وأما الأهل) كالزوجة والأقارب (والولد الصالح) وتقييده به موافقة لما في الحديث (فلا يخفى وجه الحاجة إليهما) فالمرأة مزرعة الرجل قيضها الله ليزرع فيها زرعه كما قال تعالى: نساؤكم حرث لكم (إذ قال صلى الله عليه وسلم: نعم العون على الدين المرأة الصالحة) .

قال العراقي : لم أجد له إسنادا، ولمسلم من حديث عبد الله بن عمر: والدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة، اهـ .

قلت: ورواه كذلك أحمد وهناد والنسائي، ورواه أبو نعيم وابن عساكر من حديث جابر، وروى أيضا أحمد ومسلم وأبو يعلى والحارث بن أبي أسامة من حديث عبد الله بن عمر بلفظ: وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة، (وقال) صلى الله عليه وسلم (في الولد) أي: في نفعه: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ ولد صالح يدعو له.. الحديث) رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، وقد تقدم في كتاب النكاح. (وقد ذكرنا فوائد الأهل والولد في كتاب [ ص: 88 ] النكاح) فلتراجع هناك .

(وأما الأقارب) فنعم العون على بلوغ السعادة (فمهما كثر أولاد الرجل وأقاربه) وخالصوه (كانوا له مثل الأعين) والآذان (والأيدي فيتيسر له بسببهم من الأمور الدنيوية المهمة في دينه ما لو انفرد به لطال شغله) ، وقد قال تعالى حاكيا عن لوط عليه السلام: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ، وقال الشاعر:


ألم تر أن جمع القوم يخشى وأن حريم واحدهم مباح

(وأما العز والجاه فيه يدفع الإنسان عن نفسه الذل والضيم) ويتأبى عن تحملهما، ومن لا عز له لا يمكنه أن يذود عن حريمه (ولا يستغنى عنه مسلم فإنه لا ينفك) في دهره (عن عدو يؤذيه و) إن لم يكن له عدو فلا يخلو عن (ظالم) غشوم (يشوش عليه علمه وعمله وفراغه ويشغل قلبه. و) من المعلوم أن (قلبه رأس ماله) الذي يتجر به (وإنما تندفع هذه الشواغل بالعز والجاه ولذلك قيل: الدين والسلطان) أخوان (توأمان) وقريبان مؤتلفان ومؤديان إلى عمارة البلاد وصلاح العباد وقيل أيضا: الدين أس والسلطان حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع، وسمى الله تعالى الحجة سلطانا لقهرها أولي البصائر (قال الله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولا معنى للجاه إلا ملك القلوب) كما تقدم في كتاب ذم الجاه، (كما لا معنى للغنى إلا ملك الدراهم، ومن ملك الدراهم تسخرت له أرباب القلوب لدفع الأذى عنه) فإذا الجاه تبع للمال (فكما يحتاج الإنسان) في تعيشه (إلى سقف) يظله من حر الشمس و (يدفع عنه المطر و) إلى (جبة و) هي المقطعة من الصوف (تدفع عنه البرد) إذا لبسها (وكلب يدفع الذئب) العادي (عن ماشيته) إن كان من أصحاب المواشي (فيحتاج أيضا إلى من يدفع الشر به عن نفسه) ويحكى أن الشافعي رحمه الله تعالى لما ودعه مالك رحمه الله تعالى أوصاه بكلمات منها: واتخذ لنفسك جاها لئلا تطأك الأراذل .

(وعلى هذا القصد كان الأنبياء) عليهم السلام (الذين لا ملك لهم ولا سلطنة يراعون السلاطين ويطلبون عندهم الجاه) لتمشية أمورهم الدينية (وكذلك علماء الدين) سلفا وخلفا (لا على قصد التناول من خزائنهم أو الاستئثار والاستكثار في الدنيا بمتابعتهم) حاشاهم الله عن ذلك (ولا تظنن أن نعمة الله) تعالى (على رسوله) صلى الله عليه وسلم (حيث نصره وأكمل دينه) وأتم عليه نعمته (وأظهره على جميع أعدائه ومكن له في القلوب حتى اتسع به عزه وجاهه كانت) تلك (أقل من نعمته عليه حيث كان يؤذى ويضرب حتى افتقر إلى الهرب والهجرة) من محل مولده. قال العراقي : رواه الشيخان من حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل. الحديث، وللترمذي وصححه وابن ماجه من حديث أنس : لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتى علي ثلاثون ما بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال. قال الترمذي : يعني هذا حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ومعه بلال، وللبخاري عن عروة قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فجاء أبو بكر فدفعه عنه، الحديث. وللبزار وأبي يعلى من حديث أنس قال: لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غشي عليه، فقام أبو بكر ينادي: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله. وإسناده صحيح على شرط مسلم.

(فإن قلت: فكرم العشيرة وشرف الآباء من النعم أم لا؟ فأقول: نعم) والمراد بكرم العشيرة الحسب والشرف، والشرف أخص مآثر الآباء والعشيرة، ولذلك قيل للعلوية أشراف (ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش) . قال العراقي : رواه النسائي والحاكم من حديث أنس بإسناد صحيح اهـ. [ ص: 89 ] قلت: ورواه كذلك ابن أبي شيبة والبيهقي وروياه أيضا من حديث علي ورواه أحمد وأبو يعلى والطبراني من حديث أبي برزة بزيادة في آخره، ورواه الطيالسي وأحمد والنسائي والطبراني وأبو نعيم والبيهقي والضياء من حديث أنس أيضا بزيادة في آخره، ورواه الحاكم من حديث علي بزيادة في آخره .

(ولذلك كان صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس أرومة في نسب آدم) الأرومة بالضم الأصل، قال العراقي : وهذا معلوم، فروى مسلم من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعا: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم. وفي رواية الترمذي: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، وله من حديث العباس وحسنه، وابن عباس والمطلب بن ربيعة وصححه، والمطلب بن أبي وداعة وحسنه: إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، وفي حديث ابن عباس : إن الله خلق الخلق قسمين فجعلني في خيرهم قسما، وللبزار من حديث ابن عباس : ما بال أقوام يبتذلون أصلي فوالله لأنا أفضلهم أصلا، وخيرهم موضعا.

واعلم أن الأخلاق نتائج الأمزجة، ومزاج الأب كثيرا ما يتأدى إلى الابن كالألوان والخلق والصور، (ولذلك قال صلى الله عليه وسلم تخيروا لنطفكم) وانكحوا (الأكفاء) وانكحوا إليهم. رواه ابن ماجه من حديث عائشة ، وقد تقدم في كتاب النكاح، وفي لفظ: اطلبوا مواضع الأكفاء لنطفكم فإن الرجل ربما أشبه أخواله، (وقال:) صلى الله عليه وسلم (إياكم وخضراء الدمن، فقيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء) رواه الدارقطني في الإفراد، والرامهرمزي والعسكري في الأمثال، وابن عدي والقضاعي والخطيب في إيضاح الملتبس، والديلمي من حديث أبي سعيد، وقد تقدم أيضا في كتاب النكاح. (فهذا أيضا من النعم، ولست أعني به الانتساب إلى الظلمة، وأرباب الدنيا، بل الانتساب إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى أئمة العلماء، وإلى الصالحين الأبرار المتوسمين بالعلم والعمل) . ومن الناس من لا يعد شرف الأصل فضيلة، وقال كما يأتي للمصنف: يعد المرء بنفسه لا بأبيه، واستدل بقول علي رضي الله عنه: "الناس أبناء ما يحسنون، وقيمة كل امرئ ما يحسنه"، وقول الشاعر:


كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول هاأنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي

وقول الآخر:


بجد كل جد لا بمجد وهل جد بلا جد بمجد

وقول الحكيم: "الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية"، وليس كما ظن لأن كرم الأعمام والأخوال مخيلة لكرم المرء، ومظنة له، فالفرع وإن كان قد يفسد أحيانا فمعلوم أن أصله يورثه الفضيلة والرذيلة، وأنه لا يكون من النخل الحنظل، ولا من الحنظل النخل، ولذلك قال الشاعر:


وما يك من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطمي إلا وشيجه وتغرس إلا في منابتها النخل

وقيل:


إن السري إذا سرى فبنفسه وابن السري إذا سرى إسراهما

وما ذكر من نحو قول علي رضي الله عنه: "الناس أبناء ما يحسنون، وقيمة كل امرئ ما يحسنه"، فحث للناس على اقتباس العلم، ونهي عن الاقتصار على مآثر الآباء، فإن المآثر الموروثة قليلة الفناء مما لم يضامها فضيلة النفس لأن ذلك إنما يحمد لكي يوجد الفرع مثله، ومتى اختلف الفرع وتخلف فإنه يخبر بأحد شيئين إما بتكذيب من يدعي الشرف لعنصره أو بتكذيبه في انتسابه إلى ذلك العنصر وما فيهما حظ لمختار فالمحمود أن يكون الأصل في الفصل راسخا، والفرع به شامخا، كما قال الشاعر:


زانوا قديمهم بحسن حديثهم وكريم أخلاق وحسن خصال

ومن لم يجتمع له الأمران فلأن يكون المرء شريف النفس دنيء الأصل أولى من أن يكون دنيء النفس شريف الأصل، قال الشاعر:

[ ص: 90 ]

فما الشرف الموروث لا در دره بمحتسب إلا بآخر مكتسب
إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة من المثمرات اعتده الناس في الحطب

ومتى كان عنصره في الحقيقة سنيا، وهو في نفسه دنيا، فذلك آت إما من إهماله نفسه وشؤمها، وإما لتعوده عادات قبيحة وصحبة أشرار وغير ذلك من العوارض المفسدة للعناصر الكريمة، فليس سبب الرذيلة شيئا واحدا، (فإن قلت فما غناء الفضائل البدنية) وهي الصحة، والقوة، والجمال، وطول العمر، وقد ذكرت أنه لا سبيل إلى تحصيل الفضائل النفسية إلا بها، وأنها لا تغني عنها فما غناؤها، (فأقول: لا خفاء بشدة الحاجة إلى الصحة، وإلى القوة، وإلى طول العمر، إذ لا يتم علم ولا عمل إلا بها) أي: بهذه الثلاثة، فأما الحاجة إلى الأولين فواضح، وأما طول العمر فلولاه لقل حظ الإنسان من السعادات الدنيوية التي لولاها لما نيلت السعادات الأخروية، (ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله) وفي بعض النسخ: "أفضل السعادة طول العمر في عبادة الله"، قال العراقي : غريب بهذا اللفظ، وللترمذي من حديث أبي بكر أن رجلا قال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: من طال عمره، وحسن عمله. وقال حسن صحيح، اهـ .

قلت: ورواه كذلك أحمد وابن زنجويه والطبراني والحاكم والبيهقي وفي آخره زيادة: "وشر الناس من طال عمره، وساء عمله"، والجملة الأولى فقط رواها أيضا عبد الله بن بسر مرفوعا أخرجه أحمد وعبد بن حميد والترمذي وقال: حسن غريب، والطبراني والبيهقي والضياء.

واعلم أنه قد استهان قوم بذلك، وقالوا: كفى بالمرء أن يكون صحيح البدن بريئا عن الأمراض الشاغلة عن تحري الفضائل العقلية، وليس كذلك فالبدن للنفس بمنزلة الآلة للصانع، والسفينة للربان، اللتين بهما صار صانعا وربانا، وجميع أجزاء البدن بالقول المجمل أربعة: العظام التي تجري للبدن مجرى الألواح للسفينة، والعصب الذي يجري مجرى الرباط الذي تشد به الألواح، واللحم الذي يجري مجرى الحشو للرباطات، والجلد الذي يجري مجرى الغشاء لجميعها، فإذا اعتدلت هذه الأربعة بأن تعتدل فيها القوى الأربع وهي الجاذبة، والممسكة، والهاضمة، والدافعة، سمي ذلك الصحة، ولولا صحة البدن لما حصل انتفاع به. وأما القوة فهي جودة تركيب هذه الأركان الأربعة، وهي: العظام، والعصب، واللحم، والجلد، وما يتبعها، وبها يصلح البدن للسعي والتصرف في أمور الدنيا والآخرة، (وإنما يستحقر من جملته) أي: من جملة هذا النوع (أمر الجمال، فيقال يكفي أن يكون البدن) صحيحا قويا (سليما من الأمراض الشاغلة عن تحري الخيرات) والفضائل النفسية (ولعمري الجمال قليل الغنى، ولكنه من الخيرات أيضا، أما في الدنيا فلا يخفى نفعه فيها، وأما في الآخرة فمن وجهين، أحدهما أن القبيح مذموم، والطباع عنه نافرة، وحاجات الجميل إلى الإجابة أقرب وجاهة في الصدور أوسع، فكأنه من هذا الوجه جناح مبلغ كالمال والجاه إذ هو نوع قدرة إذ يقدر الجميل الوجه على تنجيز حاجات) أي: تيسيرها (لا يقدر عليها القبيح، وكل معين على قضاء حاجات الدنيا فهو معين على الآخرة بواسطتها) فبهذا الاعتبار صار الجمال ينتفع به في أمور الآخرة .

(والثاني أن الجمال في الأكثر يدل على فضيلة النفس، لأن نور النفس إذا تم إشراقه) بالإيمان (تأدى إلى البدن) إشراقها، وكل شخص فله حكمان أحدهما من قبل جسمه وهو منظره، والآخر من قبل نفسه وهو مخبره، (فالمخبر والمنظر كثيرا ما يتلازمان، ولذلك عول أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس) وأحوالها الباطنة (على هيئات البدن) وفزعوا إليها (أولا فقالوا: الوجه والعين مرآة الباطن) أي: تظهر فيها آثار النفس كالمرآة يستدل بها عليها، (ولذلك يظهر فيه) أي: في كل من الوجه والعين والأولى فيهما ليرجع الضمير إليهما (أثر الغضب والسرور والغم) والرضا والسخط، ولذلك عبر بالوجه عن الجملة وعن أنفس القوم فقيل فلان وجه القوم وعينهم، وحتى قال الله تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه ، وكون الوجه المقبول في دلالته على فضيلة النفس، وإن لم يكن حكما لازما، فهو على الأعم والأكثر، (ولذلك قيل: طلاقة الوجه عنوان ما في النفس) وقل صورة حسنة تتبعها نفس رديئة، فنقش الخواتيم تبدو من [ ص: 91 ] الطين، (وقيل: ما في الأرض قبيح إلا ووجهه أحسن ما فيه، و) حكي أنه (استعرض المأمون) هو عبد الله بن هارون العباسي (جيشا فعرض عليه رجل قبيح) الوجه (فاستنطقه فإذا هو ألكن فأسقط اسمه) أي: أمر بإسقاطه (من الديوان) أي: من جريدة الخراج (وقال: إن الروح إن أشرقت على الظاهر فصباحة أو على الباطن ففصاحة، وهذا) أراه (ليس له ظاهر، ولا باطن. وقد قال صلى الله عليه وسلم: اطلبوا الخير عند حسان الوجوه) . قال العراقي : رواه أبو يعلى من رواية إسماعيل بن عياش عن جبرة بنت محمد بن سباع عن أمها عن عائشة ، وجبرة وأمها لا أعرف حالهما، ورواه ابن حبان من وجه آخر في الضعفاء من حديثها، ورواه البزار والطبراني وابن عدي وابن حبان في الضعفاء، والبيهقي في الشعب من حديث ابن عمر ، وله طرق كلها ضعيفة اهـ .

قلت: وجدت بخط تلميذه الحافظ ابن حجر في هامش الكتاب ما لفظه: جبرة بفتح الجيم وسكون الموحدة قاله الذهبي، وقال مشهورة، وهي من أتباع التابعين. والحديث المذكور أخرجه أبو يعلى والدارقطني في المؤتلف في ترجمة جبرة في حرف الجيم من طريق إسماعيل بن عياش عنها عن أبيها محمد بن ثابت، وليس لأمها في هذا الحديث رواية، وكأنه وقع في النسخة التي نقل منها شيخنا تصحيف أبيها فصار عن أمها، وأمها غير معروفة كما قال شيخنا، وقول الذهبي: إن جبرة مشهورة، يريد برواية الحديث لأنها معروفة بالتوثيق، اهـ.قلت: ورواه البخاري في التاريخ فقال: حدثني إبراهيم هو المنذر حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي عن امرأته جبرة ابنة محمد بن ثابت بن سباع عن أبيها عن عائشة ، والمليكي صدوق لكنه ينفرد بما لا يتابع عليه مما لا يحتمل، حتى قيل: إنه متروك، ولكنه لم يتهم بالكذب بل توبع فرواه أبو يعلى في مسنده فقال: حدثنا داود بن رشيد حدثنا إسماعيل عن جبرة به، ومن طرق هذا الحديث ما رواه تمام والطبراني والبيهقي والخطيب من طريق سفيان الثوري عن طلحة بن عمر عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رفعه: اطلبوا الخير عند حسان الوجوه، ولفظ تمام: التمسوا، وطلحة متروك الحديث إلا أنه لم يتهم بكذب، وقيل: عنه عن عطاء عن أبي هريرة بدل ابن عباس إلا أن ذلك أثبت، وأخرج الطبراني حديث ابن عباس من طريق مجاهد عنه، وقال أراه رفعه ورجاله موثقون إلا عبد الله بن خراش بن حوشب مع أن ابن حبان وثقه ولكنه ربما أخطأ وضعفه غيره. وبما ذكرنا ظهر أنه لا يتهيأ الحكم على المتن بالوضع كما أشار إليه الحافظ ابن حجر، ومن طرق هذا الحديث ما رواه الطبراني من طريق يزيد بن خصيفة عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ: التمسوا، وكذا هو عند أبي يعلى، وله طرق عن أنس وجابر وابن عمر ويزيد المستملي وأبي بكرة وأبي هريرة.

ولفظ أكثرهم: اطلبوا الخير عند حسان الوجوه، ولفظ المستملي: إذا طلبتم الحاجات فاطلبوها إلى الحسان الوجوه، فحديث أنس أخرجه ابن عساكر، وحديث جابر أخرجه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر، وحديث ابن عمر رواه ابن عدي، وحديث أبي بكرة رواه تمام في فوائده، وحديث أبي هريرة رواه تمام والخطيب في رواة مالك، وفي لفظ: اطلبوا الحوائج إلى حسان الوجوه. رواه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمرو، ورواه الخرائطي في اعتلال القلوب، وتمام عن جابر، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، ورواه الخرائطي من حديث عائشة ، ويروى من الزيادة على لفظ الباب: وتسموا بخياركم، وإذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. رواه ابن عساكر من حديث عائشة بسند ضعيف، وعند ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج عن عمرو بن دينار مرسلا: اطلبوا حوائجكم عند حسان الوجوه فإن قضى حاجتك قضاها بوجه طليق، وإن ردك ردك بوجه طليق، فرب حسن الوجه ذميمه عند طلب الحاجة، ورب ذميم الوجه حسنه عند طلب الحاجة، ونحوه قيل لابن عباس : كم من رجل قبيح الوجه قضاء للحوائج، قال: إنما نعني حسن الوجه عند الطلب .

(وقال عمر رضي الله عنه: إذا بعثتم رسولا فاطلبوا حسن الوجه حسن الاسم) وقد روي معنى ذلك مرفوعا، رواه البزار من حديث قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه: "إذا أبردتم إلي بريدا فابعثوه حسن الوجه، حسن الاسم". وقال: لا نعلم رواه بهذا الإسناد إلا قتادة، وله [ ص: 92 ] أيضا من حديث عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رفعه: "إذا بعثتم إلي رجلا فابعثوه حسن الوجه، حسن الاسم". ومن الأشعار القديمة في معنى الحديث السابق ما يروى عن ابن عباس أنه أنشد قول الشاعر:


أين شرط النبي إذ قال يوما اطلبوا الخير في صباح الوجوه

ولابن رواحة: أو حسان، كما رواه العسكري في الأمثال:


قد سمعنا نبينا قال قولا هو لمن يطلب الحوائج راحة
اغتدوا واطلبوا الحوائج ممن زين الله وجهه بصباحه

وأنشد ابن عائشة أبياتا منها:


دل على معروفه وجهه يدرك هذا هاديا من دليل

ومنها:


يدل على معروفه حسن وجهه وما زال حسن الوجه إحدى الشواهد

(وقال الفقهاء: إذا تساوت درجات المصلين) في الأقرأ، والأعلم، والأصلح (فأحسنهم وجها أولاهم بالإمامة) . فكل من كان أكمل فهو أفضل، لأن المقصود كثرة الجماعة، ورغبة الناس فيه أكثر، واجتماعهم أوفر، وفي سياق كتب أصحابنا: الأحق بالإمامة الأعلم بالسنة ثم الأقرأ ثم الأورع ثم الأسن، فإن استووا في السن فأحسنهم خلقا، فإن استووا فأصبحهم وجها. (وقال تعالى ممتنا بذلك:) إن الله اصطفاه عليكم (وزاده بسطة في العلم والجسم ) وقال: وزادكم في الخلق بسطة، فكفاك هذا من البيان في فضل كمال الجسم .

(ولسنا نعني بالجمال) ههنا (ما يحرك الشهوة) أي: ما يتعلق به شهوة الرجال والنساء، (فإن ذلك أنوثة) وفي بعض النسخ: أنثوية (وإنما نعني به) معنيين أخريين أحدهما (ارتفاع القامة) وامتدادها (على الاستقامة) الذي يكون من الحرارة الغريزية، فإن الحرارة إذا حصلت رفعت أجزاء الجسم إلى العلو، كالنبات إذا نجم كلما كان أطلب للعلو في منبته كان أشرق في جنسه، ولذلك كثر المدح بطول القامة نحو قوله:


كان درور القنطرية علقت علائقها فيه بجذع مقوم

وقول الآخر:


أشم طويل الساعدين كأنما نياط نجادا سيفه بلواء

والثاني أن يكون مقددا، قوي العصب، طويل الأطراف، الذراع ممتدها رحب (مع الاعتدال في اللحم) والشحم بأن لا يكون مثقلا بهما، ولا فارغا عنهما (وتناسب الأعضاء، وتناصف خلقة الوجه، بحيث لا تنبو الطباع عن النظر إليه) كما قال الشاعر:


فتى قد قد السيف لا متضائل ولا دهل لباته ومبادنه

(فإن قلت فقد أدخلت المال، والجاه، والنسب، والأهل، والولد، في حيز النعم) وجعلتها من الخيرات والفضائل .




الخدمات العلمية