الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الدرجة الثالثة ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة ، كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه ، وذلك يخرج بالكلية عن درجات التوكل كلها وهو الذي فيه الناس كلهم أعني من يكتسب بالحيل الدقيقة اكتسابا مباحا لمال مباح فأما أخذ الشبهة أو اكتساب بطريق فيه شبهة فذلك غاية الحرص على الدنيا والاتكال على الأسباب فلا يخفى أن ذلك يبطل التوكل وهذا مثل الأسباب التي نسبتها إلى جلب النافع مثل نسبة الرقية والطيرة والكي ، بالإضافة إلى إزالة الضار فإن النبي : صلى الله عليه وسلم : وصف المتوكلين بذلك ولم يصفهم بأنهم لا يكتسبون ، ولا يسكنون الأمصار ، ولا يأخذون من أحد شيئا ، بل وصفهم بأنهم يتعاطون هذه الأسباب وأمثال هذه الأسباب التي يوثق بها في المسببات مما يكثر ، فلا يمكن إحصاؤها ، وقال سهل في التوكل إنه ترك التدبير وقال إن الله خلق الخلق ولم يحجبهم عن نفسه وإنما حجابهم بتدبيرهم ، ولعله أراد به استنباط الأسباب البعيدة بالفكر فهي التي تحتاج إلى التدبير دون الأسباب الجلية فإذا قد ظهر أن الأسباب منقسمة إلى ما يخرج التعلق بها عن التوكل ، وإلى ما لا يخرج وأن ، الذي يخرج ينقسم إلى مقطوع به ، وإلى مظنون وأن المقطوع به لا يخرج عن التوكل عند وجود حال التوكل وعلمه ، وهو الاتكال على مسبب الأسباب ، فالتوكل فيها بالحال والعلم لا بالعمل ، وأما المظنونات .

فالتوكل فيها بالحال والعلم والعمل جميعا ، والمتوكلون في ملابسة هذه الأسباب على ثلاثة مقامات : الأول مقام الخواص ونظرائه وهو الذي يدور في البوادي بغير زاد ثقة بفضل الله تعالى عليه في تقويته على الصبر أسبوعا وما فوقه أو تيسير حشيش له أو قوت أو تثبيته على الرضا بالموت إن لم يتيسر شيء من ذلك ، فإن الذي يحمل الزاد قد يفقد الزاد ، أو يضل بعيره ، ويموت جوعا ، فذلك ممكن مع الزاد ، كما أنه يمكن مع فقده .

التالي السابق


(الدرجة الثالثة ملابسة الأسباب التي) مسبباتها عنها موهومة لا مظنونة، ولا مقطوع بها، وهي التي (يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة، كالذي يستقصى في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه، وذلك يخرج بالكلية عن درجات التوكل كلها) أولها وأوسطها وغايتها، (وهو الذي الناس فيه) قد اعتادوه وألفوه طريقة (أعني من يكتسب بالحيل الدقيقة اكتسابا مباحا لمال مباح) وكل ذلك يناقض التوكل، وتركه من أعمال المتوكلين (فإما أخذ الشبهة أو اكتساب بطريق فيه شبهة) ، أو مفضية إلى شبهة (فذلك غاية الحرص على الدنيا والاتكال على الأسباب فلا يخفى أن ذلك يبطل) أصل (التوكل) فإن قلت: قد زعمت أن التوكل واجب، وقلت: إن الاستقصاء في الأسباب الموهمة مبطل له، ولا يبطل الواجب إلا بفعل حرام، فمن زاد على بابه قفلا ثانيا وثالثا كان فعله حراما، وما ذهب إلى هذا أحد من العلماء، قلنا: هنا ثلاث درجات: طرفان، وواسطة، الدرجة الأولى: الدخول في الأسباب المحظورة كالسعاية والشرطية وترويج الزيف والغش بستر عيب العين المعيبة [ ص: 479 ] طلبا لزيادة الثمن، وادخار الأقوات، وما أشبهه، فالإجماع قائم على أن التوكل يبطل بهذه الأسباب، الدرجة الثانية كزيادة قفل، وتدقيق حيلة وادخار قوت يزيد على سنة، فقد رأى بعض العلماء بطلان التوكل بذلك، كما سيأتي قريبا، والذي يظهر، كما قاله محمد بن إسحاق الصوفي أنه يبطل كماله لا أصله، وسيأتي الكلام عليه في الدرجة الثالثة، وهي المتوسطة بين الطرفين، وإليها أشار المصنف بقوله: (وهذا مثل الأسباب التي نسبتها إلى جلب النافع مثل نسبة الرقية والطيرة والكي، بالإضافة إلى إزالة الضار) ، وقد ذهب الخواص في كتاب التوكل إلى ذلك، وتبعه صاحب القوت وإياه تبع المصنف، وتنوسي الخواص وأبو طالب المكي حتى صارت المقالة منسوبة إلى المصنف، واحتج الخواص على ذلك بقوله: (فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف المتوكلين بذلك) .

يشير إلى حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره آنفا، وفيه قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: "الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون (ولم يصفهم بأنهم لا يتكسبون، ولا يجلسون في الأمصار، ولا يأخذون من أحد شيئا، بل وصفهم بأنهم يتعاطون مع الأسباب) .

وقد فضلهم -صلى الله عليه وسلم- ومدحهم بما تقدم، ثم سأله عكاشة أن يجعله منهم ففعل؛ لأنه رأى ذلك طريقه، ورأى معه زاده، وشهد فيه القوة والتحقيق، فأهله لذلك، ولما قال له الآخر ادع الله أن يجعلني منهم احتذاء له، ولم ير ذلك فيه، ولا وجده منه لم يؤهله، ولم يعززه به؛ إذ المقامات لا يقتدى بها، ولا يمثل فيها، كما لا تدعى لأنها مواجيد قلوب بإيجاد قريب، ومشاهدات غيوب بإشهاد حبيب، فمن سما إليها بغير قوة بتسور فإنه ينكص عنها قبل البلوغ، فيتهور لأنها تنهار به لما يرد إليه من نفسه وطبعه، فلما لم يشهد -صلى الله عليه وسلم- ذلك مقامه، ولم ير منه قوته وإعلامه أوقفه على حده، وحكم عليه بوجده، ورده إلى ضعفه، ومنعه من تصوره وعسفه، فرده ردا جميلا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- حبيبا كريما، فقال: "قد سبقك بها عكاشة".

والذي ذهب إليه محمد بن إسحاق الصوفي أن هذا أيضا يدل على بطلان كمال التوكل لا أصله؛ لأنه الذي ورد في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وإذا عرفت التوكل انكشف لك ذلك وذلك؛ لأن التوكل يراد لذاته ولغيره، أما كونه مرادا لذاته فلأن أصله الإيمان بالله، وأما كونه مرادا لغيره فلوجهين: أحدهما واجب، والآخر مستحب، أما الواجب فلكفه عن الأسباب المحظورة والمكروهة القريبة من المحظورة، وأما المستحب فلحثه على الإجمال في الطلب، وتفريغ القلب عن كل شاغل من الأكوان، ولو لم يكن فيه إلا عز الانتماء إلى الله، وتعلق القلب به، وهو المقصد الأسنى من بعثة الأنبياء لكفى، فإذا فهمت هذا نزلت على هذين الوجهين تلك الدرجات، والله أعلم .

(وأمثال هذه الأسباب التي يوثق بها في المسببات مما تكثر، فلا يمكن إحصاؤها، وقال) أبو محمد (سهل) التستري -رحمه الله تعالى- (في) حقيقة (التوكل أنه ترك التدبير) وأصل كل تدبير من الرغبة، وأصل كل رغبة من طول الأمل، وطول الأمل من حب البقاء، وهذا هو الشرك، يعني أنك شاركت الربوبية في حب وصف البقاء .

(وقال) أيضا: إن الله -عز وجل- (خلق الخلق ولم يحجبهم عن نفسه وإنما) جعل (حجابهم بتدبيرهم، ولعله أراد به استنباط الأسباب البعيدة بالفكر فهي التي تحتاج إلى التدبير دون الأسباب الجلية) ، وقال صاحب القوت: بعد أن نقل القولين ما نصه: قد كثر قوله -رحمه الله تعالى- في ترك التدبير، وينبغي أن يعرف معناه، ليس يعني بترك التدبير ترك التصرف فيما وجه العبد فيه، وقد أبيح له، كيف وهو يقول: من طعن على التكسب فقد طعن على التوحيد، وقد كان له أرض يزرعها، فكان يدبر شأنها ثم رأى بيعها في آخر أمره وفرق ثمنها، إنما يعني بترك التدبير ترك الأماني، وقول: لم كان هذا إذا وقع الأمر، ولم لا يكون كذا، ولو كان كذا فيما لم يقع؛ لأن ذلك اعتراض وجهل بسبق العلم، وذهاب عن نفاذ القدرة، وشهادة الحكمة، وغفلة عن رؤية المشيئة وجريان الحكم، ويعني ترك التدبير فيما بقي، وما يأتي بعد، أي لأن في مثل هذا يقول: لا تشتغل بالفكر فيه، والتدبير له بعقلك وعملك فيقطعك عن حالك في الوقت الذي هو ألزم لك، وأوجب عليك، حتى تكون فيما يأتي من الأحكام والتصريف في ترك التدبير والتقدير لها بالزيادة والنقصان، أو نقلها من وقت إلى غيره، أو من عبد إلى آخر بالتقديم والتأخير تكون في ذلك، كما كنت فيما قد مضى فالأقرب أن الإنسان لا يدبر ما قد مضى، قال: فينبغي أن يكون فيما يستقبل تاركا التدبير له [ ص: 480 ] تاركا للإقامة فيه بمعاني ما قد ذكرنا، كتركه إياه فيما مضى، فيستوي عنده الحالات؛ لأن الله أحكم الحاكمين، وإن العبد مسلم للأحكام والأفعال، راض عن مولاه بالأقدار، مع جهله بعواقب المآل، فترك التدبير بهذه المعاني هو من اليقين، واليقين هو شهادة المعرفة بحقيقة الحق المبين، فإذا جعل تعالى قلب المؤمن مكانا لذلك، كمن فيه على قدر المكان ما يليق به، بهذا تفسير قوله الذي كان يقوله ومقتضاه يا مسكين، كان ولم تكن ويكون، ولا تكون، فلما كنت اليوم قلت: أنا وأنا كن فيما أنت الآن، كما لم تكن فإنه اليوم كما كان، وتقدم في التوحيد .

وقد كان يقول أيضا: الزاهد إنما هو ترك التدبير، وهذا يعني الأسباب التي توجب التدبير، أو إخراج السبب الذي يجب تدبيره لا أنه يكون متسببا متيقنا للأسباب، وهو ترك تدبيرها؛ لأن التدبير في هذا الموضع إنما هو التمييز والقيام بالأحكام، ووضع الأشياء مواضعها، فكيف لا يكون العبد كذلك مع وجود الأشياء، وهو عاقل متميز متعبد بالعلم، مطالب بالأحكام مع إمساكه، وإنما يقول: اترك الأشياء المدبرة، وازهد في الأسباب المميزة، حتى يسقط عنك التدبير لسقوط أحكامها عنك ولاستراحتك من القيام بها والنظر فيها، فهذا هو تفصيل جملة قوله رحمه الله في ترك التدبير، وهذا هو حال المتوكلين .

(فإذا قد ظهر أن الأسباب منقسمة إلى ما يخرج التعلق بها عن التوكل، وإلى ما لا يخرج، وإن الذي لا يخرج ينقسم إلى مقطوع به، وإلى مظنون) به (وإن المقطوع به لا يخرج عن التوكل عند وجود حال التوكل وعلمه، وهو الاتكال على مسبب الأسباب، فالتوكل فيها بالحال والعلم لا بالعمل، وأما المظنونات فالتوكل فيها بالحال والعلم والعمل جميعا، والمتوكلون في ملابسة هذه الأسباب على ثلاث مقامات: الأول مقام) إبراهيم بن أحمد (الخواص) -رحمه الله تعالى- (ونظرائه) الذين تقدم ذكرهم، (وهو الذي يدور في البوادي بغير زاد) يحمله ويتكل عليه، بل (ثقة بفضل الله تعالى في تقويته على الصبر) على التوكل (أسبوعا وما فوقه) بيوم، أو يومين، (أو تيسير حشيش له) من حشائش الأرض، (أو قوت) من يد آدمي، (أو تثبيته على الرضا بالموت إن لم يتيسر شيء من ذلك، فإن الذي يحمل الزاد) معه (قد يفقد زاده، أو يضل بعيره، ويموت جوعا، فذلك ممكن مع الزاد، كما أنه يمكن فقده) ، وقد أنكر عليه ابن القيم وجماعة في تقريره على هذه الحالة، وتقدم الجواب عنه في مقدمة كتاب العلم .




الخدمات العلمية