الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والقلب إذا تجافى عما سوى الله تعالى وكان مؤمنا بالله انصرف لا محالة إلى الله ، إذ لا يتصور قلب فارغ وليس في الوجود إلا الله تعالى وغيره ، فمن أقبل على غيره فقد تجافى عنه ، ومن أقبل عليه تجافى عن غيره ، ويكون إقباله على أحدهما بقدر تجافيه عن الآخر وقربه من أحدهما بقدر بعده من الآخر ، ومثلهما مثل المشرق والمغرب فإنهما جهتان ، فالمتردد بينهما بقدر ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر ، بل عين القرب من أحدهما هو عين البعد من الآخر ، فعين حب الدنيا هو عين بغض الله تعالى ، فينبغي أن يكون مطمح نظر العارف قلبه في عزوفه عن الدنيا وأنسه بها فإذا . فضل الفقير والغني بحسب تعلق قلبيهما بالمال فقط فإن ، تساويا فيه تساوت درجتهما ، إلا أن هذا مزلة قدم وموضع غرور ، فإن الغني ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال ويكون حبه دفينا في باطنه وهو لا يشعر به ، وإنما يشعر به إذا فقده ، فليجرب نفسه بتفريقه أو إذا ، سرق منه ، فإن وجد لقلبه إليه التفاتا فليعلم أنه كان مغرورا فكم من رجل باع سرية له لظنه أنه منقطع القلب عنها فبعد لزوم البيع وتسليم الجارية اشتعلت من قلبه النار التي كانت مستكنة فيه فتحقق إذا أنه كان مغرورا وأن العشق كان مستكنا في الفؤاد استكنان النار تحت الرماد وهذا حال كل الأغنياء إلا الأنبياء والأولياء وإذا كان ذلك محالا أو بعيدا فلنطلق القول بأن الفقر أصلح لكافة الخلق وأفضل ؛ لأن علاقة الفقير وأنسه بالدنيا أضعف وبقدر ضعف علاقته يتضاعف ثواب تسبيحاته وعباداته فإن حركات اللسان ليست مرادة لأعيانها بل ليتأكد بها الأنس بالمذكور ولا يكون تأثيرها في إثارة الأنس في قلب فارغ من غير المذكور كتأثيرها في قلب مشغول ولذلك قال بعض السلف : مثل من تعبد وهو في طلب الدنيا مثل من يطفئ النار بالحلفاء ومثل من يغسل يده من الغمر بالسمك .

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة غني ألف عام .

وعن الضحاك قال : من دخل السوق فرأى شيئا يشتهيه فصبر واحتسب كان خيرا له من ألف دينار ينفقها كلها في سبيل الله تعالى .

وقال رجل لبشر بن الحارث رحمه الله ادع الله لي فقد أضر بي العيال فقال إذا قال لك عيالك : ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع الله لي في ذلك الوقت ، فإن دعاءك أفضل من دعائي وكان يقول : مثل الغني المتعبد مثل روضة على مزبلة ومثل الفقير المتعبد مثل عقد الجوهر في جيد الحسناء وقد كانوا يكرهون سماع علم المعرفة من الأغنياء وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : اللهم إني أسألك الذل عند النصف من نفسي والزهد فيما جاوز الكفاف .

وإذا كان مثل الصديق رضي الله عنه في كماله يحذر من الدنيا ووجودها فكيف يشك في أن فقد المال أصلح من وجوده هذا مع أن أحسن أحوال الغني أن يأخذ حلالا وينفق طيبا ، ومع ذلك فيطول حسابه في عرصات القيامة ويطول انتظاره ، ومن نوقش الحساب فقد عذب ولهذا تأخر عبد الرحمن بن عوف عن الجنة إذ كان مشغولا بالحساب كما رآه رسول الله : صلى الله عليه وسلم : ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه ما أحب أن لي حانوتا على باب المسجد ولا تخطئني فيه صلاة وذكر وأربح كل يوم خمسين دينارا وأتصدق بها في سبيل الله تعالى ، قيل وما تكره ؟ قال : سوء الحساب ولذلك قال سفيان رحمه الله اختار الفقراء ثلاثة أشياء ، واختار الأغنياء ثلاثة أشياء ، اختار الفقراء راحة النفس وفراغ القلب وخفة الحساب ، واختار الأغنياء تعب النفس ، وشغل القلب ، وشدة الحساب وما ذكره ابن عطاء من إن الغنى وصف الحق فهو بذلك أفضل فهو صحيح ، ولكن إذا كان العبد غنيا عن وجود المال وعدمه جميعا بأن يستوي عنده كلاهما ، فأما إذا كان غنيا بوجوده ومفتقرا إلى بقائه فلا يضاهي غناه غنى الله تعالى لأن الله تعالى غني بذاته لا بما يتصور زواله والمال يتصور زواله بأن يسرق وما ذكر من الرد عليه بأن الله ليس غنيا بالأعراض والأسباب صحيح في ذم غني يريد بقاء المال وما ذكر من أن صفات الحق لا تليق بالعبد غير صحيح بل العلم من صفاته وهو أفضل شيء للعبد بل منتهى العبد أن يتخلق بأخلاق الله تعالى وقد سمعت بعض المشايخ يقول : إن سالك الطريق إلى الله تعالى قبل أن يقطع الطريق تصير الأسماء التسعة والتسعون أوصافا له أي: يكون له من كل واحد نصيب .

وأما التكبر فلا يليق بالعبد فإن التكبر على من لا يستحق التكبر عليه ليس من صفات الله تعالى وأما التكبر على من يستحقه كتكبر المؤمن على الكافر وتكبر العالم على الجاهل والمطيع على العاصي فيليق به نعم ، قد يراد بالتكبر الزهو والصلف والإيذاء وليس ذلك من وصف الله تعالى ، وإنما وصف الله تعالى أنه أكبر من كل شيء وأنه ، يعلم أنه كذلك والعبد مأمور بأنه يطلب أعلى المراتب إن قدر عليه ولكن بالاستحقاق كما هو حقه لا بالباطل والتلبيس ، فعلى العبد أن يعلم أن المؤمن أكبر من الكافر ، والمطيع أكبر من العاصي ، والعالم أكبر من الجاهل ، والإنسان أكبر من البهيمة والجماد والنبات ، وأقرب إلى الله تعالى منها ، فلو رأى نفسه بهذه الصفة رؤية محققة لا شك فيها لكانت صفة التكبر حاصلة له ولائقة به ، وفضيلة في حقه إلا أنه لا سبيل له إلى معرفته فإن ذلك موقوف على الخاتمة وليس يدري الخاتمة كيف تكون وكيف تتفق ، فلجهله بذلك وجب أن لا يعتقد لنفسه رتبة فوق رتبة الكافر إذ ربما يختم للكافر بالإيمان وقد يختم له بالكفر فلم يكن ذلك لائقا به لقصور علمه عن معرفة العاقبة ولما تصور أن يعلم الشيء على ما هو به كان العلم كمالا في حقه لأنه في صفات الله تعالى ، ولما كانت معرفة بعض الأشياء قد تضره صار ذلك العلم نقصانا في حقه ، إذ ليس من أوصاف الله تعالى علم يضره ، فمعرفة الأمور التي لا ضرر فيها هي التي تتصور في العبد من صفات الله تعالى فلا جرم هو منتهى الفضيلة وبه فضل الأنبياء والأولياء والعلماء فإذا ، لو استوى عنده وجود المال وعدمه فهذا نوع من الغنى يضاهي بوجه من الوجوه الغنى الذي يوصف به الله سبحانه وتعالى فهو فضيلة أما الغنى بوجود المال فلا فضيلة فيه أصلا . فهذا بيان نسبة حال الفقير القانع إلى حال الغني الشاكر .

التالي السابق


(والقلب إذا تجافى عما سوى الله تعالى وكان مؤمنا بالله انصرف لا محالة إلى الله، إذ لا يتصور قلب فارغ) عن شغل (وليس في الوجود إلا الله تعالى وغيره، فمن أقبل على غيره فقد تجافى عنه، ومن أقبل عليه تجافى عن غيره، ويكون إقباله على أحدهما بقدر تجافيه عن الآخر وقربه من أحدهما بقدر بعده عن الآخر، ومثلهما مثل المشرق والمغرب فإنهما جهتان متقابلتان، فالمتردد بينهما بقدر ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر، بل عين القرب من أحدهما هو عين البعد عن الآخر، فعين حب الدنيا هو عين بغض الله، فينبغي أن يكون مطمح نظر العارف قلبه في عزوفه عن الدنيا وأنسه بها .

فإذا فضل الفقير والغني بحسب تعلق قلبيهما بالمال فقط، فإذا تساويا فيه تساوت درجتهما، إلا أن هذا مزلة القدم وموضع غرور، فإن الغني ربما يظن) في نفسه (أنه منقطع القلب عن المال ويكون حبه دفينا في باطنه) كامنا (وهو لا يشعر به، وإنما يشعر به إذا فقده، فليجرب نفسه بتفريقه، وإذا سرق منه، فإن وجد لقلبه إليه التفاتا) ولنفسه ميلا (فليعلم أنه إذا كان مغرورا فكم من رجل باع سرية له) أي: جارية (لظنه أنه منقطع القلب عنها) وقد سلا حبها (فبعد لزوم البيع وتسليم الجارية اشتعلت من قلبه النار التي كانت مستكنة فيه فتحقق أنه إذا كان مغرورا وأن العشق كان مستكنا في الفؤاد استكنان النار تحت الرماد) أو استكنانها في قلب (الزناد وهذا حال كل الأغنياء إلا الأنبياء والأولياء) فقد عصمهم الله تعالى عن الغرور .

(وإن كان ذلك محالا أو بعيدا فلنطلق القول بأن الفقر أصح لكافة الخلق وأفضل; لأن علاقة الفقير وأنسه بالدنيا أضعف وبقدر ضعف علاقته) بها (يتضاعف ثواب تسبيحاته وعباداته فإن حركات اللسان) بالأذكار (ليست مرادة لأعيانها بل ليتأكد بها الأنس بالمذكور فلا يكون تأثيره في إثارة الأنس في قلب فارغ عن غير المذكور كتأثيره في قلب مشغول) وهذا هو المراد من الخبر: أن تموت ولسانك رطب بذكر الله.

(ولذلك قال بعض السلف: مثل من تعبد وهو هو في طلب الدنيا مثل من يطفئ النار بالحلفاء) ، وكان يحيى بن معاذ يقول: إذا كان التعبد والاجتهاد على غير زهد لم يكن للعمل ميراث، يعني: من حكمة ولا معرفة (و) قال آخر: من زهد في الدنيا مع التنعم فيها (مثل من يغسل يده من الغمر بالسمك) كذا في القوت (وعن الضحاك) بن مزاحم الهلالي المفسر المشهور صدوق كثير الإرسال، روى له أصحاب السنن الأربعة، مات بعد المائة (قال: من دخل السوق فرأى شيئا يشتهيه فصبر واحتسب كان خيرا له من ألف دينار ينفقها كلها في سبيل الله تعالى، وقال رجل لبشر بن الحارث) الحافي - رحمه الله [ ص: 291 ] تعالى - (ادع الله لي فقد أضر بي العيال فقال) بشر (إذا قال لك عيالك: ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع الله لي في ذلك الوقت، فإن دعاءك أفضل من دعائي) كذا في القوت، (وكان) بشر (يقول: مثل الغني المتعبد مثل روضة على مزبلة ومثل الفقير المتعبد مثل عقد الجوهر في جيد الحسناء)كذا في القوت .

(وقد كانوا يكرهون سماع علم المعرفة من الأغنياء) لأنهم ليسوا أهلا لأن يؤخذ عنهم ذلك (وقد قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: اللهم إني أسألك الذل عند النصف من نفسي) النصف محركة اسم من الانتصاف، (والزهد فيما جاوز الكفاف) نقله صاحب القوت (وإذا كان مثل الصديق) - رضي الله عنه - (في حال كماله) ومع شدته وقوته (يحذر من الدنيا وجودها فكيف يشك أن فقد المال أصلح من وجوده) أو يتردد فيه (هذا مع أن أحسن أحوال الغني أن يأخذ حلالا وينفق طيبا، ومع ذلك فيطول حسابه في عرصات القيامة ويطول انتظاره، ومن نوقش الحساب عذب) كما ورد في الخبر وتقدم (ولهذا تأخر عبد الرحمن بن عوف) - رضي الله عنه - (عن الجنة إذ كان مشغولا بالحساب كما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة، وقد تقدم قريبا .

(ولهذا قال أبو الدرداء) - رضي الله عنه - (ما أحب أن لي حانوتا على باب المسجد ولا تخطئني فيه صلاة ولا ذكر وأربح كل يوم خمسين دينارا وأتصدق بها في سبيل الله، قيل وما تكره؟ قال: سوء الحساب) رواه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أبو عمرو بن حمدان، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن عبد الله، حدثنا عمر بن زرارة، حدثنا المحاربي عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة قال: قال أبو الدرداء: والذي نفس أبي الدرداء بيده ما أحب أن لي اليوم حانوتا على باب المسجد لا تخطئني فيه صلاة أربح فيه كل يوم أربعين دينارا وأتصدق بها كلها في سبيل الله، قيل له: يا أبا الدرداء وما تكره من ذلك؟ قيل: شدة الحساب، رواه محمد بن جنيد التمار عن المحاربي، فقال: عن عمرو بن مرة عن أبيه .

(ولذلك قال شقيق) بن إبراهيم البلخي - رحمه الله تعالى - (اختار الفقراء ثلاثة أشياء، واختار الأغنياء ثلاثة أشياء، اختار الفقراء راحة النفس وفراغ القلب وخفة الحساب، واختار الأغنياء تعب النفس، وشغل القلب، وشدة الحساب) ، فإن الفقراء فقدوا المال فارتاحت نفوسهم وتفرغت قلوبهم لله تعالى وسيخفف حسابهم غدا بخلاف الأغنياء الواجدي المال فإنهم أتعبوا أنفسهم في حفظه وتنميته وشغلوا قلوبهم بحبه وسيشتد حسابهم غدا .

(وما ذكره بن عطاء) - رحمه الله تعالى - في جواب السائل لما سأله: أي الوصفين أفضل؟ (من أن الغنى وصف الحق) تعالى (فهو بذلك أفضل) لأن أوصاف الحق كلها مفضلة (صحيح، ولكن إذا كان العبد غنيا عن وجود المال وعدمه جميعا بأن يستوي عنده كلاهما فيكون كالماء، فأما إذا كان غنيا بوجوده ومفتقرا إلى بقائه فلا يضاهي غناه غنى الله تعالى) لأن الله تعالى (غني بذاته لا بما يتصور زواله والمال يتصور أن يسرق) أو يفرق أو يصيبه غير ذلك من حوادث الدهر .

(وما ذكر في الرد عليه) أي: على ابن عطاء (بأن الله ليس غنيا بالأسباب والأعراض) هو أيضا (صحيح) لكن (في ذم غني يريد بقاء المال و) أما (ما ذكر من أن صفات الحق تعالى لا تليق بالعبد) فهذا (غير صحيح بل العلم من صفاته وهو أفضل شيء للعبد بل منتهى) كمال (العبد) وسعادته (أن يتخلق بأخلاق الله تعالى) وأن يتخلق بمعاني صفاته وأسمائه بقدر ما يتصور في حقه، ومن لم يكن له منها حظ إلا بأن يسمع لفظا ويفهم في اللغة تفسيره ووصفه ويعتقد [ ص: 292 ] بالقلب وجود معناه لله تعالى فهو مبخوس نازل الدرجة ليس يحسن أن يتبجح بما ناله .

فقد روى الطيالسي والحكيم وأبو يعلى من حديث عثمان بإسناد ضعيف: أن لله مائة خلق وسبعة عشر خلقا، فمن أتى الله بخلق واحد منها دخل الجنة، وحظوظ المقربين من معاني أسماء الله تعالى ثلاثة: الأول: أن ينكشف لهم اتصاف الله تعالى بها انكشافا يجري مجرى اليقين الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة التي يدركها بمشاهدة باطنة. الثاني: استعظامهم ما ينكشف لهم من صفات الجلال على وجه ينبعث منه شوقهم إلى الاتصاف بما يمكنهم من تلك الصفات ليتقربوا بها من الحق قربا بالصفة لا بالمكان. الثالث: السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات، والتخلق بها، والتحلي بمحاسنها وبه يصير العبد ربانيا رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة .

(وقد سمعت بعض المشايخ يقول: إن سالك الطريق إلى الله تعالى قبل أن يقطع الطريق تصير الأسماء التسعة والتسعون أوصافا له) أي: يكون له من كل واحد نصيب ولفظ المصنف في خاتمة المقصد الأسنى: ولقد سمعت الشيخ أبا علي الفارمدي يحكي عن شيخه أبي القاسم الكركاني - قدس الله روحهما - أنه قال: إن الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافا للعبد السالك وهو بعد في السلوك غير واصل، ثم قال: وهذا الذي ذكره إن أراد به شيئا يناسب ما أوردناه في التنبيهات يعني في أول المقصد الأسنى فهو صحيح، ولا يظن به إلا ذلك ويكون في اللفظ نوع من التوسع والاستعارة وإلا فإن معاني الأسماء هي صفات الله تعالى، وصفاته لا تصير صفة لغيره، ولكن معناه من يحصل ما يناسب تلك الصفات ومن أراد غير ذلك فهو باطل; لأن قول القائل: إن أسماء الله تعالى صارت أوصافا له، لا يخلو إما أن عني به عين تلك الصفات أو مثلها، فإن عني به مثلها فأما ما عني به مثلها مطلقا من كل وجه وإما أن عني به مثلها من حيث الاسم والمشاركة في عموم الصفات دون خواص المعاني، وهذان قسمان، وإن عني به عينها فإما أن يكون بطريق الانتقال لصفات الرب إلى العبد أولا بالانتقال، فإن لم يكن بالانتقال فإما أن يكون باتحاد ذات العبد بذات الرب حتى يكون هو هو فتكون صفاته صفاته، وإما أن يكون بطريق الحلول .

وهذه أقسام ثلاثة: وهو الانتقال والاتحاد والحلول، وقسمان متقدمان فهذه خمسة أقسام، الصحيح منها قسم واحد وهو أن يثبت للعبد من هذه الصفات أمور تناسبها على الجملة وتشاركها في الاسم، ولكن لا تماثلها مماثلة تامة، وبقية الأقسام كلها محال وباطل، وحيث يطلق الاتحاد ويقول هو ولا يكون إلا بطريق التوسع اللائق بعادة الصوفية، وعليه ينبغي أن يحمل قول الشيخ أبي يزيد حيث قال: انسلخت نفسي عن نفسي كتسلخ الحية عن جلدها فنظرت فإذا أنا هو، ويكون معناه: أن ينسلخ من شهوات نفسه وهواها وهمها فلا يبقى فيه متسع لغير الله تعالى ولا يكون همه سوى الله، وإذا لم يجد في القلب الإجلال لله وجماله حتى صار مستقر قلبه، يصير كأنه هو، لا أنه هو تحقيقا .

وفرق بين قولنا: هو هو، وبين قولنا: كأنه هو، وهذه مزلة قدم فإن من ليس له قدم راسخ في المعقولات ربما لم يتميز له أحدهما عن الآخر، هذا حاصل ما ذكره المصنف في خاتمة المقصد الأسنى .

(وأما التكبر فلا يليق بالعبد فإن التكبر على من لا يستحق التكبر عليه ليس من صفات الله تعالى) بل اللائق منه في صفات الله تعالى رؤية الكل حقيرا بالإضافة إلى ذاته، ولا يتصور ذاته على الإطلاق إلا لله تعالى (وأما التكبر على من يستحق كتكبر المؤمن على الكافر وتكبر العالم على الجاهل والمطيع على العاصي يليق به نعم، قد يراد بالتكبر الزهو والصلف) والتيه (والإيذاء وليس ذلك من وصف الله تعالى، وإنما وصف الله تعالى أنه أكبر من كل شيء، وإنه يعلم أنه كذلك) ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد .

(والعبد مأمور بأن يطلب أعلى المراتب إن قدر عليه ولكن بالاستحقاق كما هو حقه لا بالباطل والتلبيس، فعلى العبد أن يعلم أن المؤمن أكبر من الكافر، والمطيع أكبر من العاصي، والعالم أكبر من الجاهل، والإنسان أكبر من البهيمة والجماد والنبات، وأقرب إلى الله منها، فلو رأى نفسه بهذه الصفة رؤية محققة لا شك فيها لكان صفة التكبر حاصلة له ولائقة به، وفضيلة في حقه إلا أنه لا سبيل له [ ص: 293 ] إلى معرفته فإن ذلك موقوف على الخاتمة وليس يدري الخاتمة كيف تكون وكيف تتفق، فلجهله بذلك وجب ألا يعتقد لنفسه رتبة فوق رتبة الكافر) ولا يفضل نفسه عليه (إذ ربما يختم للكافر بالإيمان) فينجو (ويختم له بالكفر) فيهلك (فلم يكن ذلك لائقا به لقصور علمه عن معرفة العاقبة) .

وقال المصنف في المقصد الأسنى: حظ العبد من اسمه تعالى المتكبر أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق، ويتكبر على كل شيء سوى الحق تعالى، فيكون مستحقرا للدنيا والآخرة مترفعا عن كل ما يشغله عن الحق تعالى (ولو يتصور أن يعلم الشيء على ما هو به كان العلم كمالا في حقه لأنه من صفات الله تعالى، ولما كان معرفة بعض الأشياء قد تضره صار ذلك نقصا في حقه، إذ ليس من أوصاف الله تعالى علم يضره، فمعرفة الأمور التي لا ضرر فيها هي التي تتصور في العبد من صفات الله تعالى فلا جرم هو منتهى الفضيلة) وغاية الكمال (وبه فضل الأنبياء والأولياء هو العلم، فإذا لو استوى عنده وجود المال وعدمه فهو نوع من الغنى يضاهي بوجه من الوجوه الغنى الذي يوصف به الله سبحانه فهو فضيلة) وكمال .

(أما الغنى بوجود المال فلا فضيلة فيه أصلا. فهذا بيان نسبة حال الفقير الطائع إلى حال الغني الشاكر) وبه تم بيان المقال الأول .




الخدمات العلمية