الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهذا كانقسام الخائفين إلى من يخاف معصيته وجنايته ، وإلى من يخاف الله تعالى نفسه لصفته وجلاله وأوصافه التي تقتضي الهيبة لا محالة ، فهذا أعلى رتبة ؛ ولذلك يبقى خوفه وإن كان في طاعة الصديقين . وأما الآخر فهو في عرصة الغرور والأمن

إن واظب على الطاعات ، فالخوف من المعصية خوف الصالحين والخوف من الله خوف الموحدين والصديقين وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى ، وكل من عرفه وعرف صفاته علم من صفاته ما هو جدير بأن يخاف من غير جناية ، بل العاصي لو عرف الله حق المعرفة لخاف الله ، ولم يخف معصيته ولولا أنه مخوف في نفسه لما سخره للمعصية ، ويسر له سبيلها ، ومهد له أسبابها ، فإن تيسير أسباب المعصية إبعاد ولم يسبق منه قبل المعصية معصية استحق بها أن يسخر للمعصية ، وتجري عليه أسبابها ، ولا سبق قبل الطاعة وسيلة توسل بها من يسرت له الطاعات ، ومهد له سبيل القربات ، فالعاصي قد قضي عليه بالمعصية شاء أم أبى ، وكذا المطيع فالذي يرفع محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أعلى عليين من غير وسيلة سبقت منه قبل وجوده ويضع أبا جهل في أسفل سافلين من غير جناية سبقت منه قبل وجوده ، جدير بأن يخاف منه لصفة جلاله ، فإن من أطاع الله أطاع بأن سلط عليه إرادة الطاعة وآتاه القدرة وبعد خلق الإرادة الجازمة والقدرة التامة يصير الفعل ضروريا ، والذي عصى عصى لأنه سلط عليه إرادة قوية جازمة ، وآتاه . الأسباب والقدرة ، فكان الفعل بعد الإرادة والقدرة ضروريا ، فليت شعري ما الذي أوجب إكرام هذا وتخصيصه بتسليط إرادة الطاعات عليه ، وما الذي أوجب إهانة الآخر وإبعاده بتسليط دواعي المعصية عليه ، وكيف يحال ذلك على العبد ، وإذا كانت الحوالة ترجع إلى القضاء الأزلي من غير جناية ولا وسيلة فالخوف ممن يقضي بما يشاء ، ويحكم بما يريد ، حزم عند كل عاقل ووراء هذا المعنى سر القدر لا يجوز إفشاؤه ولا يمكن أن تفهم الخوف منه في صفاته جل جلاله إلا بمثال لولا إذن الشرع لم يستجرئ على ذكره ذو بصيرة فقد جاء في الخبر أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري فهذا المثال يفهمك حاصل المعنى ، وإن كان لا يقف بك على سببه ، فإن الوقوف على سببه وقوف على سر القدر ، ولا يكشف ذلك إلا لأهله

والحاصل أن السبع يخاف لا لجناية سبقت إليه منك بل لصفته وبطشه وسطوته ، وكبره وهيبته ، ولأنه يفعل ما يفعل ولا يبالي ، فإن قتلك لم يرق قلبه ، ولا يتألم ، بقتلك وإن خلاك : لم يخلك شفقة عليك ، وإبقاء على روحك ، بل أنت عنده أخس من أن يلتفت إليك حيا كنت أو ميتا ، بل إهلاك ألف مثلك ، وإهلاك نملة عنده على وتيرة واحدة : إذ لا يقدح

ذلك في عالم سبعيته ، وما هو موصوف به من قدرته وسطوته ، ولله المثل الأعلى ولكن من عرفه عرف بالمشاهدة الباطنة ، التي هي أقوى وأوثق وأجلى من المشاهدة الظاهرة ، أنه صادق في قوله هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي ويكفيك من موجبات الهيبة والخوف المعرفة بالاستغناء وعدم المبالاة .

التالي السابق


(وهذا كانقسام الخائفين إلى من يخاف معصيته وجنايته، وإلى من يخاف الله تعالى نفسه لصفته وجلاله) وعظمته (وأوصافه التي تقتضي الهيبة لا محالة، فهذا أعلى رتبة؛ ولذلك يبقى خوفه) ويدوم ويستمر (وإن كان في طاعة الصديقين. وأما الآخر) وهو الذي يخاف معصيته وجنايته (فهو في عرصة الغرور والأمن إن واظب على الطاعات، فالخوف من المعصية) والجناية (خوف الصالحين) من المؤمنين .

(والخوف من الله خوف الموحدين والصديقين وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى، فكل من عرفه وعرف صفاته علم من صفاته ما هو جدير بأن يخاف من غير جناية، بل العاصي لو عرف الله حق المعرفة لخاف الله، ولم يخف معصيته) ومن ذلك قول عمر في صهيب رضي الله عنه: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. (ولولا أنه مخوف في نفسه لما سخره للمعصية، ويسر له سبيلها، ومهد له أسبابها، فإن تيسير أسباب المعصية إبعاد) وطرد عن الحضرة (ولم تسبق منه قبل المعصية معصية استحق بها أن يسخر للمعصية، وتجري عليه أسبابها، ولا سبق قبل الطاعة له وسيلة توسل بها من يسرت له الطاعات، ومهد له سبيل القربات، فالعاصي قد قضي عليه بالمعصية شاء أم أبى، وكذا المطيع) قد قضي عليه بالطاعة شاء أم أبى، (فالذي يرفع محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أعلى عليين من غير وسيلة سبقت منه قبل وجوده) بل هو محض عناية وفضل، (ويضع أبا جهل) وأضرابه (في أسفل سافلين من غير جناية سبقت منه قبل وجوده، جدير بأن يخاف منه لصفة جلاله، فإن من أطاع الله أطاع بأن سلط عليه إرادة الطاعة) وسهل له سبيلها (وأتاه الله القدرة) عليها .

(وبعد خلق الإرادة الجازمة والقدرة التامة يصير الفعل ضروريا، والذي عصى عصى لأنه سلط عليه إرادة قوية جازمة، وأتاه الأسباب والقدرة، وكان الفعل بعد القدرة والإرادة ضروريا، فليت شعري ما الذي أوجب إكرام هذا [ ص: 207 ] وتخصصه بتسليط إرادة الطاعات عليه، وما الذي أوجب إهانة الآخر وإبعاده بتسليط دواعي المعصية عليه، وكيف يحال ذلك على العبد، وإذا كانت الحوالة ترجع إلى القضاء الأزلي من غير جناية ولا وسيلة فالخوف ممن يقضي بما يشاء، ويحكم بما يريد، جزم عند كل عاقل) . وهذا هو الخوف الذي يراد لذاته إلى أن ينكشف عند الخاتمة بما سبق به القضاء الأزلي، وهو خوف العارفين، ويجب اعتقاد ذلك لأنه من عقود الإيمان بالله؛ إذ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون؛ لأن أحكام الرب تعالى في العباد على ما اقتضته إرادته ومشيئته لا رعاية لإصلاح العباد، وكلما زادت المعرفة بهذا زاد الخوف .

(ووراء هذا المعنى سر القدر الذي لا يجوز إفشاؤه) ، وقد جاء في الخبر: القدر سر الله فلا تفشوه. فهنا خطاب لمن كوشف به، وفي لفظ آخر: ستر الله، فهذا خطاب لمن لم يكاشف به، وهذا نهي عن السؤال عنه، وهو داخل في قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم ، أي لا تتبع نفسك علم ما لم تكلف، ولا تسأل عما لا يجعل من علمك، ولم يوكل إليك فتصنع بما لا يعينك كما كلفته، وقوله تعالى في قصة نوح عليه السلام: فلا تسألن ما ليس لك به علم ، أي عما ليس من علمك الذي جعلته علما لك، هذا هو علمي وسري في خلقي، وهو من معنى قوله: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، أي ليس هو مما يصلح أن تتعلمه وتسأل عنه؛ لأني لم أتعبدك به .

قال صاحب القوت: وليس يصلح أن يكشف سر المخاوف من الخاتمة، والسابقة؛ لأن ذلك يكون من حقائق معنى الصفات التي ظهرت عن حقيقة الذات، فأظهرت بدائع الأفعال، وغرائب المآل، وأعادت الأحكام على من أظهر بها، وجعل لها ممن حقت عليه الكلمات، وجعل نصيبه من معاني هذه السرائر من الصفات، فيؤدي ذلك منا إلى كشف باطن الأوصاف، وهو من سر القدر، وقد نهى عن إفشائه في غير خبر .

(ولا يمكن تفهم الخوف منه في صفاته إلا بمثال لولا إذن الشرع) بضرب الأمثلة (لم يستجرئ على ذكره ذو بصيرة) ولم يقدم عليه لصعوبة المقام (فقد جاء في الخبر أن الله تعالى أوحى إلى داوود عليه السلام: يا داوود خفني كما تخاف السبع الضاري) . قال العراقي: لم أجد له أصلا. ولعل المصنف قصد بإيراده أنه من الإسرائيليات فإنه عبر عنه بقوله: جاء في الخبر، وكثيرا ما يعبر بذلك عن الإسرائيليات التي هي غير مرفوعة. (فهذا المثال يفهمك حاصل المعنى، وإن كان لا يقف بك على سببه، فإن الوقوف على سببه وقوف على سر القدر، ولا يكشف ذلك إلا لأهله) ممن له علم بأسراره المخفية ممن كوشف بها. (والحاصل أن السبع يخاف لا لجناية من الإنسان سبقت إليه بل لصفته وبطشه وسطوته و) ما ألبس وجهه من (كبره، وهيبته، ولأنه يفعل ما يفعل ولا يبالي، فإن قتلك لم يرق قلبه، ولم يتألم لقتلك، وإن خلاك) أي: تركك (لم يخلك شفقة عليك، وإبقاء على روحك، بل أنت عنده أخس من أن يلتفت إليك حيا كنت أو ميتا، بل إهلاك ألف مثلك، وإهلاك نملة عنده على وتيرة واحدة) أي: طريقة واحدة (إذ لا يقدح ذلك في عالم سبعيته، وما هو موصوف به من قدرته وسطوته، ولله المثل الأعلى) وكذلك مثل النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أوصاه بالحياء، مثل له بالرجل الصالح في قوله: "استح من الله كما تستحيي من الرجل الصالح"، فإنما تستحيي من الرجل الصالح لوصفه؛ لأنه يقتضي الحياء، ويوجب على الناظر إليه الاستحياء، فالحياء أيضا وإن كان ألطف فهو باب من الخوف؛ لأنه يمنع ويردع، كما يرتدع من المخافة ويمتنع .

(ولكن من عرفه عرف بالمشاهدة الباطنة، التي هي أقوى وأوثق وأجلى من المشاهدة الظاهرة، أنه صادق في قوله) تعالى فيما رواه أحمد وابن سعد والحكيم والحاكم، من حديث عبد الرحمن بن قتادة السلمي رضي الله عنه بسند رجاله ثقات، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى خلق آدم ثم أخذ الخلق من ظهره، فقال: (هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي) قيل: يا رسول الله على ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر. وفي حديث عمر بن الخطاب: إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره بشماله فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال: إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل [ ص: 208 ] أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار. رواه مالك وأحمد وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وأبو داوود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان، والآجري في الشريعة، وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات، والضياء في المختارة، والمعنى: لا أبالي من ملامة أحد؛ إذ لا يجب على الله شيء لا من إثابة المطيع، ولا من تعذيب العاصي، أو لا أبالي من طاعة مطيع، ولا من معصية عاص، أو لا أبالي لعدم تأثير الإثابة والتعذيب في زيادة ملكي ونقصانه أو لا أبالي لأني متصرف في ملكي أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد بالعدل أو لأني متفضل غير مائل عادل غير جائر .

(ويكفيك من موجبات الهيبة والخوف المعرفة بالاستغناء وعدم المبالاة) وبالله التوفيق.



الخدمات العلمية