الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان الرد على من قال : ترك التداوي أفضل بكل حال .

فلو قال قائل : إنما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسن لغيره وإلا فهو حال الضعفاء ، ودرجة الأقوياء توجب التوكل بترك الدواء فيقال ينبغي أن يكون من شروط التوكل ترك الحجامة والفصد عند تبيغ الدم .

فإن قيل : إن ذلك أيضا شرط فليكن من شرطه أن تلدغه العقرب ، أو الحية فلا ينحيها عن نفسه إذ الدم يلدغ الباطن ، والعقرب تلدغ الظاهر ، فأي فرق بينهما ، فإن قال ، وذلك أيضا شرط التوكل فيقال : ينبغي أن لا يزيل لدغ العطش بالماء ولدغ الجوع بالخبز ، ولدغ البرد بالجبة ، وهذا لا قائل به .

ولا فرق بين هذه الدرجات ، فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه وتعالى ، وأجرى بها سنته ، ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن عمر رضي الله عنه : وعن الصحابة في قصة الطاعون فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن به موتا عظيما ووباء ذريعا ، فافترق الناس فرقتين فقال بعضهم : لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة ، وقالت طائفة أخرى : بل ندخل ونتوكل ولا نهرب من قدر الله تعالى ، ولا نفر من الموت فنكون كمن قال الله تعالى فيهم : ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه فقال : نرجع ولا ندخل على الوباء ، فقال له المخالفون في رأيه : أنفر من قدر الله تعالى ؟ قال عمر نعم : نفر من قدر الله إلى قدر الله ، ثم ضرب لهم مثلا فقال : أرأيتم لو كان لأحدكم غنم فهبط واديا له شعبتان إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة أليس إن رعى المخصبة رعاها بقدر الله تعالى ، وإن رعى المجدبة رعاها بقدر الله تعالى ؟ فقالوا : نعم ، ثم طلب عبد الرحمن بن عوف ليسأله عن رأيه وكان غائبا ، فلما أصبحوا جاء .

عبد الرحمن فسأله عمر عن ذلك فقال : عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : الله أكبر ، فقال عبد الرحمن : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا سمعتم بالوباء في أرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه .

ففرح عمر بذلك وحمد الله تعالى ؛ إذ وافق رأيه ورجع من الجابية بالناس فإذا كيف اتفق الصحابة كلهم على ترك التوكل ، وهو من أعلى المقامات إن كان أمثال هذا من شروط التوكل ، فإن قلت : فلم نهى عن الخروج من البلد الذي فيه الوباء وسبب الوباء في الطب الهواء ، وأظهر طرق التداوي الفرار من المضر ، والهواء هو المضر فلم لم يرخص فيه ؟ فاعلم أنه لا خلاف في أن الفرار من المضر غير منهي عنه ، إذ الحجامة والفصد فرار من المضر ، وترك التوكل في أمثال هذا مباح ، فهذا لا يدل على المقصود ، ولكن الذي ينقدح فيه والعلم عند الله تعالى أن الهواء لا يضر من حيث إنه يلاقي ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق له ، فإنه إذا كان فيه عفونة ووصل إلى الرئة والقلب وباطن الأحشاء أثر فيها بطول الاستنشاق ، فلا يظهر الوباء على الظاهر إلا بعد طول التأثير في الباطن فالخروج من البلد لا يخلص غالبا من الأثر الذي استحكم من قبل ، ولكن يتوهم الخلاص فيصير هذا من جنس الموهومات كالرقى والطيرة وغيرهما ، ولو تجرد هذا المعنى لكان مناقضا للتوكل ولم يكن منهيا عنه ولكن صار منهيا عنه لأنه انضاف إليه أمر آخر ، وهو أنه لو رخص لأصحابه في الخروج لما بقي في البلد إلا المرضى الذين أقعدهم الطاعون فانكسرت قلوبهم وفقدوا المتعهدين ولم يبق في البلد من يسقيهم الماء ويطعمهم الطعام وهم يعجزون عن مباشرتهما بأنفسهم فيكون ذلك سعيا في إهلاكهم تحقيقا وخلاصهم منتظر ، كما أن خلاص الأصحاء منتظر فلو أقاموا لم تكن الإقامة قاطعة بالموت ، ولو خرجوا لم يكن الخروج قاطعا بالخلاص ، وهو قاطع في إهلاك الباقين ، والمسلمون كالبنيان يشد بعضهم بعضا والمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى إليه سائر الأعضاء فهذا هو الذي ينقدح عندنا في تعليل النهي وينعكس هذا فيمن لم يقدم بعد على البلد ، فإنه لم يؤثر الهواء في باطنهم ولا بأهل البلد حاجة إليهم نعم لو لم يبق في البلد إلا مطعون ، وافتقروا إلى المتعهدين وقدم عليهم قوم فربما كان ينقدح استحباب الدخول ههنا لأجل الإعانة ولا ينهى عن الدخول ؛ لأنه تعرض لضرر موهوم على رجاء دفع ضرر عن بقية المسلمين ، وبهذا شبه الفرار من الطاعون في بعض الأخبار بالفرار من الزحف ؛ لأن فيه كسرا لقلوب بقية المسلمين وسعيا في إهلاكهم فهذه أمور دقيقة ، فمن لا يلاحظها وينظر إلى ظواهر الأخبار والآثار يتناقض عنده أكثر ما سمعه ، وغلط العباد والزهاد في مثل هذا كثير ، وإنما شرف العلم وفضيلته لأجل ذلك .

التالي السابق


(بيان الرد على من قال: ترك التداوي أفضل بكل حال)

(فلو قال قائل: إن التداوي إنما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لغيره) ، أي: ليجعله سنة للأمة، (وإلا فهو حال الضعفاء، ودرجة الأقوياء توجب التوكل بترك الدواء فيقال) على ذلك: (ينبغي أن يكون من شرط التوكل ترك الحجامة والفصد عند تبيغ الدم) ، أي: هيجانه (فإن قيل: إن ذلك أيضا شرط فيكون من شرطه أن تلدغه العقرب، أو الحية فلا ينحيها) ، أي: لا يزيلها (عن نفسه إذ الدم يلدغ الباطن، والعقرب تلدغ الظاهر، فأي فرق بينهما، فإن قال، وذلك أيضا شرط التوكل فيقال: ينبغي أن لا يزيل لدغ العطش بالماء ولدغ الجوع بالخبز، ولدغ البرد بالجبة، وهذا لا قائل به ولا فرق بين هذه الدرجات، فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه وتعالى، وأجرى بها سنته، ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن عمر -رضي الله عنه- وعن الصحابة) رضوان الله عليهم (في قصة الطاعون) المشهورة، (فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية) ، وهو موضع بالقرب من دمشق (بلغهم الخبر أن به موتا ذريعا) ، أي: كثيرا (ووباء عظيما، فافترق الناس فرقتين فقال بعضهم: لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة، وقالت طائفة أخرى: بل ندخل ونتوكل ولا نهرب من قدر الله تعالى، ولا نفر من الموت فنكون كمن قال الله تعالى فيهم: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ) الآية (فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه فقال: نرجع ولا ندخل على الوباء، فقال له المخالفون في رأيه: أنفر من قدر الله تعالى؟ قال عمر: نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم ضرب لهم مثلا فقال: أرأيتم لو كان لأحدكم غنم فهبط واديا له شعبتان إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة) ، أي: لا كلأ بها، (أليس إن رعى المخصبة رعاها بقدر الله تعالى، وإن رعى المجدبة رعاها بقدر الله تعالى؟ فقالوا: نعم، ثم طلب عبد الرحمن بن عوف) -رضي الله عنه- (ليسأله عن رأيه) في ذلك (وكان غائبا، فلما أصبحوا جاء عبد الرحمن فسأله عمر عن ذلك فقال: عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: الله أكبر، فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ ص: 531 ] إذا سمعتم الوباء بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه . ففرح عمر بذلك وحمد الله تعالى; إذ وافق رأيه ورجع من الجابية بالناس) .

رواه مالك وأحمد والشيخان من حديث ابن عباس أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خرج إلى الشام حتى إذا كان بصرغ لقيه أمراء الأجناد; أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس: فقال عمر بن الخطاب: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن نرجع عنه، وقال: بعضهم: معك بقية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال عمر: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار فدعوتهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة، وهو إذ ذاك أمير الشام أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، وكان عمر يكره خلافه، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل كثيرة فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة ألست إن رعيت في الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيتها في الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبا في بعض حاجاته فقال: إن عندي من هذا لعلما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، قال: فحمد الله عمر ثم انصرف . زاد ابن خزيمة قي صحيحه: بالناس . وذكر سيف في الفتوح عن مشايخه: إن الطاعون وقع بالشام في المحرم وصفر ومات فيه الناس ثم ارتفع، فكتبوا إلى عمر بذلك، فخرج حتى إذا كان قريبا من الشام بلغه أنه كان أشد ما كان، فقال الصحابة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا عليكم، فرجع عمر حتى ارتفع الطاعون منها، قلت: أما حديث عبد الرحمن بن عوف المتقدم فقد روي أيضا من حديث أسامة بن زيد، ورواه الطيالسي وأحمد والشيخان، ومن حديث ابن عباس رواه أبو داود، ومن حديث زيد بن ثابت رواه الطبراني والضياء، ومن حديث سعد بن أبي وقاص رواه الطيالسي والبزار، وقد وردت أخبار كثيرة موافقة لحديث عبد الرحمن بن عوف، وفي لفظ من حديث أسامة: الطاعون بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل، فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها . هكذا رواه الشيخان والترمذي وقال: حسن صحيح . وابن خزيمة، وفي رواية لمسلم: الطاعون آية الرجز ابتلى الله به أناسا من عباده، فإذا سمعتم به فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تفروا منه، ورواه الطبراني بلفظ: إذا وقع الطاعون ببلد وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تدخلوا عليه . ورواه أحمد والطبراني والبغوي وابن قانع من حديث عكرمة بن خالد عن أبيه، أو عمه عن جده: إذا وقع الطاعون في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإن كنتم بغيرها فلا تقدموا عليها، وأما الآية التي استدل بها بعض الصحابة وهي قوله تعالى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم الآية، قال الكلبي: كانوا ثمانية آلاف، وقال قتادة: وقع الطاعون فخرج منهم الثلثان وبقي الثلث، ثم أصابهم فخرجوا كلهم فأماتهم الله عقوبة، وقال الحسن: ماتوا قبل آجالهم ثم أحياهم إلى آجالهم. وقيل: إن خروجهم كان لغير ذلك . قال الزمخشري: ومن بديع التفسير أن معنى ألوف، أي: قلوبهم مؤتلفة، إنما خرجوا فرارا، وأنه جمع آلف مثل شهود وشاهد، وقال الفخر الرازي: يمكن أن يكون المراد أن كل واحد منهم آلفا لحياته محبا لهذه الدنيا، (فإذا كيف اتفق الصحابة كلهم على ترك التوكل، وهو من أعلى المقامات إن كان أمثال هذا من شروط التوكل، فإن قلت: فلم نهى عن الخروج من البلد الذي فيه الوباء وسبب الوباء في الطب الهواء، وأظهر طرق التداوي الفرار من المضر، والهواء هو المضر فلم لم يرخص فيه؟ فاعلم أنه لا خلاف في أن الفرار من المضر غير منهي عنه، إذ الحجامة والفصد فرار من المضر، وترك التوكل في أمثال هذا مباح، فهذا لا يدل على المقصود، ولكن [ ص: 532 ] الذي ينقدح فيه والعلم عند الله تعالى أن الهواء لا يضر من حيث إنه يلاقي ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق له، فإنه إذا كان فيه عفونة) وتغير (ووصل إلى الرئة والقلب وباطن الأحشاء أثر فيها بطول الاستنشاق، فلا يظهر الوباء على الظاهر إلا بعد طول التأثير في الباطن) قال ابن سينا وغيره من حذاق الأطباء: الطاعون مادة سمية تحدث ورما قاتلا يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإبط وخلف الأذن وعند الأرنبة، قال: وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد يستحيل إلى جوهر يفسد العضو ويغير ما يليه، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسة، ثم قال: والطواعين تكثر عند الوباء وفي البلاد الوبيئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء، وبالعكس قال: وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده، ولذلك لا يمكن حياة الإنسان بل جميع الحيوان بدون استنشاقه، بل متى عدم الحيوان استنشاق الهواء مات، وقال ابن نفيس في الموجز: الوباء ينشأ عن فساد يعرض لجوهر الجواهر بأسباب سماوية أو أرضية، فمن الأرضية الماء الآسن والجيف الكثيرة، كما يقع في مواضع المعركة إذا لم تدفن القتلى، والتربة الكثيرة التعفن وكثرة الحشرات والضفادع، ومن السماوية كثرة السيب والرجوم في آخر الصيف، وكثرة الجنوب والضياء في ... الكافونين، وإذا كثر المطر في الشتاء ولم تمطر (فالخروج من البلد لا يخلص غالبا من الأثر الذي استحكم من قبل، ولكن يتوهم الخلاص فيصير هذا من جنس الموهومات كالرقى والطيرة وغيرهما، ولو تجرد هذا المعنى لكان مناقضا للتوكل ولم يكن منهيا عنه) ; لأنه غير متيقن (ولكن صار منهيا عنه) ، كما في الأخبار السابقة (لأنه انضاف إليه أمر آخر، وهو أنه لو رخص لأصحابه في الخروج) من البلد (لما بقي في البلد إلا المرضى الذين أقعدهم الطاعون فانكسرت قلوبهم وفقدوا المتعهدين) القائمين بخدمتهم من تحريض وتجهيز، (ولم يبق في البلد من يسقيهم الماء ويطعمهم الطعام وهم يعجزون عن مباشرتهما بأنفسهم فيكون ذلك) الخروج (سعيا في إهلاكهم تحقيقا وخلاصهم منتظر، كما أن خلاص الأصحاء منتظر فلو أقاموا لم تكن الإقامة قاطعة بالموت، ولو خرجوا لم يكن الخروج قاطعا بالخلاص، وهو قاطع في إهلاك الباقين، والمسلمون كالبنيان يشد بعضهم بعضا) ، وقد روى الشيخان والترمذي والنسائي وابن حبان من حديث أبي موسى والرامهرمزي في الأمثال من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا .

(والمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى إليه سائر الأعضاء) ، رواه مسلم من حديث النعمان بن بشير بلفظ: المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه تداعى إليه سائر الجسد بالحمى والسهر . وفي لفظ له: المسلمون كرجل واحد، ورواه أحمد وأبو نعيم في الحلية بلفظ: إن اشتكى رأسه اشتكى كله، ورواه الرامهرمزي في الأمثال بلفظ: المسلمون كالرجل والواحد إن اشتكى عضو من أعضائه تداعى له سائر جسده، وقد روي نحوه من حديث سهل بن سعد: المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان، كما يألم الجسد لما في الرأس . رواه ابن المبارك وأحمد والروياني والطبراني، وأبو نعيم في الحلية والضياء، (فهذا هو الذي ينقدح عندنا في تعليل النهي) اعلم أن بعض أهل العلم ذكر أن النهي عن الخروج من البلد الذي وقع فيه الطاعون فرارا منه أمر تعبدي لا يعقل معناه; إذ الفرار من المهالك مأمور به، وقد صح النهي هنا فكان السر فيه لا تعلم حقيقته فالأولى فيه التسليم والامتثال * وذهب كثيرون إلى التعليل وذكروا لذلك حكما منها ما ساقه المصنف هنا، وحاصله أنهم لو تواردوا على الخروج لبقي من وقع به عاجزا عن الخروج فضاعت مصالح المرضى لفقد من يتعهدهم، والموتى لفقد من يجهزهم، ولما في خروج الأقوياء من كسر قلوب من لا قدرة لهم على الخروج، ومنها أن الطاعون في الغالب يكون عاما في البلد الذي يقع به، فإذا وقع والشخص بها فالظاهر مداخلة سببه له فلا يفيده الفرار منه، بل إن كان أجله حضر فهو ميت سواء أقام، أو رحل، وكذا بالعكس، ولهذا رجح من رجح أن تصرفات الصحيح في البلد الذي يقع فيه الطاعون كتصرفات المريض مرض الموت، ومنها أن الخارج يقول: لو لم أخرج لمت ويقول المقيم: لو خرجت كما خرج فلان [ ص: 533 ] لسلمت فيقع في اللو المنهي عنها، ولهذا قال ابن عبد البر: وروي عن ابن مسعود أن الطاعون فتنة للمقيم والخارج، ومنها زعم بعض أهل الطب أن الذي يقع به الوباء تتكيف أرواح أهله بكيفية هواء تلك الأماكن وتألفها أمزجتهم، وتصير لهم بمنزلة الأهوية الصحيحة لغيرهم، فإذا انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة الهواء لم يوافقهم، بل إذا الهواء الصحيح استصحب معه إلى القلب ما يجده من الأبخرة الردية التي حصل تكيف بدنه بها فيصل إلى القلب، فيقع ذلك المرض الذي فر منه، فمنع من الفرار منه من هذه الحيثية، وهذا فيه نظر، والمعتمد ما تقدم، (وينعكس هذا فيمن لم يقدم بعد على البلد، فإنه لا يؤثر الهواء في باطنهم ولا بأهل البلد حاجة إليهم) في تعهد مرضاهم وموتاهم، أي: فليس له الدخول في ذلك البلد (نعم لو لم يبق في البلد إلا مطعون، وافتقروا إلى المتعهدين وقدم عليهم قوم فربما كان ينقدح استحباب الدخول ههنا) نظرا إلى افتقادهم (لأجل الإعانة) لهم (أولا ينهى عن الدخول; لأنه تعرض لضرر موهوم على رجاء دفع ضرر عن بقية المسلمين، ولهذا شبه الفرار من الطاعون في بعض الأخبار بالفرار من الزحف; لأن فيه كسرا لقلوب بقية المسلمين وسعيا في إهلاكهم) .

قال العراقي: رواه أحمد من حديث عائشة بإسناد جيد، ومن حديث جابر بإسناد ضعيف، وقد تقدم اهـ . قلت: أما حديث عائشة فلفظه عنده: الطاعون غدة كغدة البعير، المقيم بها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف . ورواه ابن عدي والطبراني في الأوسط بلفظ: الطاعون شهادة لأمتي ووخز أعدائكم من الجن يخرج في آباط الرجال مراقها الفار منه كالفار من الزحف، ومن صبر فيه كان له أجر شهيد، ورواه هو أيضا وعبد بن حميد وابن خزيمة بلفظ: والصابر فيه كالصابر في الزحف، (فهذه أمور دقيقة، فمن لا يلاحظها وينظر إلى ظواهر الأخبار والآثار يتناقض عنده أكثر ما سمعه، وغلط العباد والزهاد يكثر في مثل هذا، وإنما شرف العلم وفضل لأجل ذلك) ثم اعلم أن العلماء اختلفوا في أن النهي عن الخروج من البلد الذي يقع به الطاعون هل هو على ظاهره من التحريم، أو هو للتنزيه على قولين، وربما استدل من قال إنه نهي تحريم في بعض طرق الخبر السابق، والفار منها كالفار من الزحف . قال ابن عبد البر: الطاعون موت شامل لا يحل لأحد أن يفر من أرض نزل فيها إذا كان من ساكنيها، ولا أن يقدم عليه إذا كان خارجا عن الأرض التي نزل بها .

وقال التاج السبكي في الجزء الذي جمعه في الطاعون: مذهبنا وهو الذي عليه الأكثر: أنه للتحريم قال: وقال بعض العلماء: هو للتنزيه، واتفقوا على جواز الخروج لشغل عرض غير الفرار، قال: وليس محل النزاع فيمن خرج فارا من قضاء الله تعالى فذلك لا سبيل إلى القول بأنه غير محرم، بل الظاهر أن محل النزاع فيما إذا خرج للتداوي، ورد عليه الحافظ ابن حجر في بذل الماعون بأن هذا ليس بظاهر; لأن الخروج للتداوي ليس حراما في مذهب الشافعي وجماعة، وهو قد صحح أن الخروج حرام فكيف يجعل محله ما إذا خرج للتداوي، والخروج للتداوي ليس بحرام، بل العبارة الصحيحة أن يقول: محل النزاع فيما إذا خرج فارا من المرض الواقع مع اعتقاده أنه لو قدره الله عليه لأصابه، وأن فراره منه لا ينجيه من قدر الله لكن يخرج مؤملا أن ينجو قال الحافظ واحتج من أجاز الفرار بأمور: الأول: قال الطحاوي بعد أن أورد حديث: لا يورد مريض على مصح، ذهب قوم لهذا، وقالوا: إنما كره ذلك مخافة الأعداء، وأقروا باجتناب ذي الداء والفرار منه، واحتجوا برجوع عمر من سرغ بسبب الطاعون خشية أن يعديه من دخل عليه، ثم أجاب الطحاوي بأن الأمر بترك القدوم عليه لو كان للخوف من أن يعدى كان لأهل الموضع الذي وقع فيه أيضا الخروج، فلما منعوا ثبت أن المعنى الذي منعوا من القدوم عليه غيره، وهو خوف أن يصيبه بتقدير الله فيقول: لولا أني قدمت هذه الأرض لما أصابني، فأمر أن لا يقدم حسما للمادة، وكذلك أمر أن لا يخرج من الأرض التي نزل بها البلاء ليسلم فيقول: لو أقمت في تلك الأرض لأصابني ما أصاب أهلها، ولعله لو كان أقام بها ما أصابه من ذلك شيء، فأمر بترك القدوم على الطاعون للمعنى الذي وصفنا .

الثاني: قال التاج السبكي: احتجوا بالقياس على الفرار من الأسد والعدو الذي لا يقدر على دفعه، فإن الكفار وقطاع الطريق إذا قصدوا من لا طاقة لهم بهم جاز التنحي من بين أيديهم، ونقل فيه إلكيا الهراسي الاتفاق فقال: لا نعلم خلافا في الجواز، وإن كانت الآجال لا تزيد ولا تنقص . والجواب أن السلامة من الأسد والعدو [ ص: 534 ] نادر، والهلاك معهما كالمتيقن فصار كإلقاء الإنسان نفسه في النار بخلاف الفرار من البلد الذي يقع به الطاعون، فإن السلامة فيه كثيرة وإن لم تكن غالبة .

الثالث: القياس على الخروج من الأرض المستوخمة كقصة العرنيين، والجواب أن ذلك من باب التداوي وترك ما لا يوافق المريض من الأغذية والأهوية في تأثير المرض، فكان الخروج من الأرض التي لا توافق مزاج المريض من باب التداوي . قال التاج السبكي: وعندي في هذا الجواب نظر . قال الحافظ ابن حجر: كان وجهه لقائل أن يقول: إن الطاعون أيضا ينشأ من فساد الأهوية، فالخروج من البلد الذي يقع بها ينبغي أن يكون جائزا مطلقا، كما جاز للعرنيين، وهذا يتمشى على القول بأن الطاعون من طعن الجن، والحق أن خروج العرنيين لم يكن لقصد الفرار أصلا، وإنما كان لمحض التداوي، كما تقدم عن الطحاوي، وكان خروجهم من ضرورة الواقع; لأن الإبل ما كان تتهيأ إقامتها في البلد، وإنما كانت في مراعيها ودواؤهم كان بألبانها وأبوالها واستنشاق تلك الروائح، فكان الخروج عن البلد ضمنا لأمر محقق الوجود بخلاف الخروج من البلد الذي يقع فيه الطاعون إلى بلد آخر، فإنه خروج إليه بالقصد لأمر مظنون; إذ لا يؤمن من وقوع الطاعون في البلد الآخر .

الرابع: قال الزركشي: احتجوا بالقياس على الفرار من المجذوم فروى البخاري من حديث أبي هريرة: وفر من المجذوم كما تفر من الأسد، والجواب من وجهين أحدهما قال ابن الصلاح تبعا لغيره جامعا بين ما ظاهره التعارض من حديث أبي هريرة، وهو لا يورد ممرض على مصح، وحديث: فر من المجذوم فرارك من الأسد مع حديث: لا عدوى أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن الله تعالى جعل مخالطة المرض بها للصحيح سببا لإعدائه مرضه ثم قد يتخلف ذلك عن مسببه كسائر الأسباب، ثانيهما ذكره ابن خزيمة والطحاوي، وأصله لأبي عبيدة القاسم بن سلام، وهو أن المصح قد يصيبه ذلك المرض، فيقول الذي أورده لو أني ما أوردته عليه لم يصبه من هذا المرض شيء، والواقع أنه لو لم يورده لأصابه بتقدير الله عليه، فنهى عن إيراده لهذه العلة التي لا يؤمن على الناس غالبا من وقوعها في قلوبهم، والله أعلم .




الخدمات العلمية