الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفن الثالث في مباشرة الأسباب الدافعة للضرر المعرض للخوف اعلم أن الضرر قد يعرض للخوف في نفس أو مال ، وليس من شروط التوكل ترك الأسباب الدافعة رأسا أما في النفس فكالنوم في الأرض المسبعة ، أو في مجاري السيل من الوادي ، أو تحت الجدار المائل والسقف المنكسر فكل ذلك منهي عنه ، وصاحبه قد عرض نفسه للهلاك بغير فائدة نعم تنقسم هذه الأسباب إلى مقطوع بها ، ومظنونة وإلى موهومة ، فترك الموهوم منها من شرط التوكل وهي التي نسبتها إلى دفع الضرر نسبة الكي والرقية فإن الكي والرقية قد تقدم به على المحذور دفعا لما يتوقع ، وقد يستعمل بعد نزول المحذور للإزالة ورسول الله : صلى الله عليه وسلم : لم يصف المتوكلين إلا بترك الكي والرقية والطيرة ولم يصفهم بأنهم إذا خرجوا إلى موضع بارد لم يلبسوا جبة ، والجبة تلبس دفعا للبرد المتوقع ، وكذلك كل ما في معناها من الأسباب نعم الاستظهار بأكل الثوم مثلا عند الخروج إلى السفر في الشتاء تهييجا لقوة الحرارة من الباطن ربما يكون من قبيل التعمق في الأسباب والتعويل عليها ، فيكاد يقرب من الكي بخلاف الجبة ، ولترك الأسباب الدافعة وإن كانت مقطوعة وجه إذا ، ناله الضرر من إنسان فإنه إذا أمكنه الصبر ، وأمكنه الدفع والتشفي فشرط التوكل الاحتمال والصبر ، قال الله تعالى فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون ، وقال تعالى ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال : عز وجل ودع أذاهم وتوكل على الله وقال سبحانه تعالى : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وقال تعالى: نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وهذا في أذى الناس ، وأما الصبر على أذى الحيات والسباع والعقارب ، فترك دفعها ليس من التوكل في شيء ؛ إذ لا فائدة فيه ، ولا يراد السعي ، ولا يترك السعي لعينه ، بل لإعانته على الدين وترتب ، الأسباب ههنا كترتبها في الكسب وجلب المنافع ، فلا نطول بالإعادة .

التالي السابق


* (الفن الثالث في بيان مباشرة الأسباب الدافعة للضرر المعرض للخوف) *

(اعلم) وفقك الله تعالى (أن الضرر قد يعرض للخوف في نفس أو مال، وليس من شرط التوكل ترك الأسباب الدافعة) للضرر (رأسا أما في النفس فكالنوم في أرض مسبعة) ، أي: ذات سباع (أو في مجاري السيل من الوادي، أو تحت الجدار المائل إلى السقوط أو) تحت (السقف المنكسر فكل ذلك منهي عنه، وصاحبه قد عرض نفسه للهلاك بغير فائدة) ، ولا يصح توكله في شيء من ذلك، ولو مات مات عاصيا (نعم تنقسم هذه الأسباب إلى مقطوع بها، ومظنونة وإلى موهومة، فترك الموهوم فيها من شرط التوكل) ، ومن أعمال المتوكلين (وهي التي نسبتها إلى دفع الضرر نسبة الكي والرقية) والطيرة، فإنها أسباب مسبباتها عنها موهومة لا مقطوع بها ولا مظنونة؛ (فإن الكي والرقية قد يقدم بهما على المحذور دفعا لما يتوقع) ، أي: يتوهم من الشفاء .

(وقد يستعمل بعد نزول المحذور للإزالة) والدفع (ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يصف المتوكلين) في قصة عكاشة (إلا بترك الكي والرقية والطيرة) فقال: هم الذين لا يكتوون ولا يرقون ولا يتطيرون (ولم يصفهم بأنهم إذا خرجوا إلى موضع لم يلبسوا جبة، والجبة تلبس للبرد المتوقع، وكذلك كل ما في معناها من الأسباب) فالكي والرقي والطيرة من الدرجات المتوسطة بين الدرجتين والمتوسط بين طرفين مشكل في كل حال، وظاهر سياق المصنف دال على بطلان التوكل بذلك تبعا لصاحب القوت، وقال الكمال محمد بن إسحاق الصوفي: الصحيح عندي أنه يبطل، كماله لا أصله؛ لأن الحديث ورد في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب (نعم الاستظهار بأكل الثوم مثلا عند الخروج إلى السفر في الشتاء تهيجا لقوة الحرارة من الباطن ربما يكون من قبيل التعمق في الأسباب والتعويل عليها، فيكاد يقرب من الكي بخلاف الجبة، ولترك الأسباب الدافعة) من الضرر (وإن كانت مقطوعة) بها (وجه، فإذا ناله الضرر من إنسان فإنه إذا أمكنه الصبر، وأمكنه الدفع والتشفي) والانتصاف منه (فشرط التوكل الاحتمال والصبر) على الأذى من الفعل، وترجيح جانبه على جانب الدفع، (وهذا هو توكل الخصوص، قال الله تعالى) لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: ( فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون ) ، أي: توكل عليه واستعمل الصبر (وقال تعالى) حكاية عن الرسول -عليه السلام- ( ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال: عز وجل) حين أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالتأسي بهم في قوله: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فقال: ( ودع أذاهم وتوكل على الله ) [ ص: 507 ] لقوله -عز وجل- ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك من التكذيب والأذى (وقال سبحانه وتعالى: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) وقال: بعض العارفين: لا يثبت لأحد مقام في التوكيل حتى يستوي عنده المدح والذم من الخلق، فيسقطان، وحتى يؤذى فيصبر على الأذى، يستخرج بذلك منه رفع السكون إلى الخلق، والنظر إلى علم الخالق الذي سبق، ثم التوكل في الصبر على حسن المعاملة، وترك الطلب للمعاوضة حياء من الله تعالى، وإجلالا له، وخوفا منه وحبا له .

(و) قد وصفهم الله تعالى بذلك ظاهرا، وباطنا، فالظاهر (قال) الله (تعالى نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ) فلما عملوا صبروا على عملهم، ثم توكلوا عليه في صبرهم فأجزل ذخرهم عنده منه، وأنعم أجرهم، والباطن فيما أخبر عنهم: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا فقطعهم الخوف عن الطلب، (وهذا في أذى الناس، وأما الصبر على أذى الحيات والسباع والعقارب، فترك دفعها ليس من التوكل في شيء؛ إذ لا فائدة فيه، ولا يراد السعي، ولا يترك السعي لعينه، بل لإعانته على الدين، وترتيب الأسباب هنا كترتيبها في الكسب وجلب المنافع، فلا نطول بالإعادة) ، وهذا كله في الأسباب الدافعة عن النفس .




الخدمات العلمية