الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهذه ثلاثة من النعم خاصة يعترف بها كل عبد إما مطلقا ، وإما في بعض الأمور ، فلننزل عن هذه الطبقة إلى طبقة أخرى أعم منها قليلا ، فنقول : ما من عبد إلا وقد رزقه الله تعالى في صورته أو شخصه أو أخلاقه أو صفاته أو أهله أو ولده أو مسكنه أو بلده أو رفيقه أو أقاربه أو عزه أو جاهه أو في سائر محابه أمورا

لو سلب ذلك منه ، وأعطي ما خصص به غيره ، لكان لا يرضى به ، وذلك مثل أن جعله مؤمنا لا كافرا ، وحيا لا جمادا ، وإنسانا لا بهيمة ، وذكرا لا أنثى ، وصحيحا لا مريضا ، وسليما لا معيبا ، فإن كل هذه خصائص ، وإن كان فيها عموم أيضا ، فإن هذه الأحوال لو بدلت بأضدادها لم يرض بها بل له أمور لا يبدلها بأحوال الآدميين أيضا ، وذلك إما أن يكون بحيث لا يبدله بما خص به أحد من الخلق أو لا يبدله بما خص به الأكثر ، فإذا كان لا يبدل حال نفسه بحال غيره فإذا حاله أحسن من حال غيره ، وإذا كان لا يعرف شخص يرتضي لنفسه حالة بدلا عن حال نفسه إما على الجملة وإما في أمر خاص ، فإذا لله عليه نعم ليست له على أحد من عباده سواه ، وإن كان يبدل حال نفسه بحال بعضهم دون البعض فلينظر إلى عدد المغبوطين عنده ، فإنه لا محالة يراهم أقل ، بالإضافة إلى غيرهم ، فيكون من دونه في الحال أكثر بكثير مما هو فوقه ، فما باله ينظر إلى من فوقه ليزدري : نعم الله تعالى على نفسه ، ولا ينظر إلى من دونه ليستعظم نعم الله عليه ، وما باله لا يسوي دنياه بدينه أليس إذا لامته نفسه على سيئة يقارفها يعتذر إليها بأن في الفساق كثرة ، فينظر أبدا في الدين إلى من دونه لا إلى من فوقه ، فلم لا يكون نظره في الدنيا كذلك ؟! فإذا كان حال أكثر الخلق في الدين خيرا منه ، وحاله في الدنيا خير من حال أكثر الخلق فكيف لا يلزمه الشكر ؟!

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : من نظر في الدنيا إلى من هو دونه ، ونظر في الدين إلى من هو فوقه ، كتبه الله صابرا وشاكرا ، ومن نظر في الدنيا إلى من هو فوقه ، وفي الدين إلى من هو دونه ، لم يكتبه الله صابرا ولا شاكرا

.

التالي السابق


(فهذه ثلاث من النعم خاصة يعترف بها كل عبد إما مطلقا، وإما في بعض الأمور، فلننزل عن هذه الطبقة إلى طبقة أخرى أعم منها قليلا، فنقول: ما من عبد إلا وقد رزقه الله تعالى في صورته أو شخصه أو أخلاقه أو صفاته أو أهله أو ولده أو مسكنه أو بلده أو رقيقه وأقاربه أو عزه أو جاهه أو في سائر محابه) الدنيوية (أمورا لو أسلب ذلك منه، وأعطي ما خصص به غيره، لكان لا يرضى به، وذلك مثل أن جعله مؤمنا لا كافرا، وحيا لا جمادا، وإنسانا لا بهيمة، وذكرا لا أنثى، وصحيحا لا مريضا، وسليما لا معيبا، فإن كل هذه خصائص، وإن كان فيها عموم أيضا، فإن هذه الأحوال لو بدلت بأضدادها لم يرض به) . وفي القوت: وأول نعمة عقلناها أن جعلنا موجودين دون سائر المعدومات، ثم جعلنا حيوانا دون سائر الموات، ثم جعلنا بشرا دون سائر الحيوان، ثم أن جعلنا ذكورا دون الإناث، ثم تصويرنا في أحسن تقويم ثم عوافي القلب من الزيغ عن السنة، ومن الميل إلى دواعي النفس الأمارة بالسوء، ثم صحة الأجسام، ثم كثيف الستر ثم حسن الكفاية للحاجات ثم صنوف ما أظهر من الأزواج للأوقات .

(بل له أمور لا يبدلها بأحوال الآدميين أيضا، وذلك إما أن يكون بحيث لا يبدله بما خص به أحد من الخلق أو لا يبدله بما خص به الأكثر، فإذا كان لا يبدل حال نفسه بحال غيره فإذا حاله أحسن من حال غيره، فإن كان لا يعرف شخصا يرتضي لنفسه حاله بدلا عن حال نفسه إما على الجملة وإما في أمر خاص، فإذا لله تعالى نعم ليست له على أحد من عباده سواه، وإن كان يبدل حال نفسه بحال بعضهم دون البعض فلينظر إلى عدد المغبوطين عنده، فإنه لا محالة يراهم أقل، بالإضافة إلى غيرهم، فيكون من دونه في الحال أكثر بكثير ممن هو فوقه، فما باله ينظر إلى من هو فوقه ليزدري) أي: يحتقر (نعم الله على نفسه، ولا ينظر إلى من هو دونه ليستعظم نعم الله عليه، وما باله لا يسوي [ ص: 132 ] دنياه بدينه أليس) هو (إذا لامته نفسه) وعاتبته (على سيئة يفارقها يعتذر إليها بأن في الفساق كثرة، فينظر أبدا في الدين إلى من دونه لا إلى من فوقه، فلم لا يكون نظره في الدنيا كذلك؟! فإذا كان حال أكثر الخلق في الدين خيرا منه، وحاله في الدنيا خيرا من حال أكثر الخلق فكيف لا يلزمه الشكر؟!) .

وفي القوت: "وفي الشكر مقامات عن مشاهدين، أعلاهما الذي يشكر على المكاره والبلاء والشدائد واللأواء، والمقام الثاني أن ينظر إلى من هو دونه ممن فضل هو عليه في أمور الدنيا، وفي أحوال الدين، فيعظم نعمة الله عليه بسلامة قلبه وعافيته مما ابتلي الآخر به، ويعظم نعمة الدنيا عليه لما أغناه الله وكفاه فيما أحوج إليه وألجأه، فليشكر على ذلك، ثم ينظر إلى من هو فوقه في الدين ممن فضل عليه بعلم الإيمان، وبحسن اليقين، فيمقت نفسه ويزري عليها، وينافس في مثل ما رأى من أحوال من هو فوقه فيرغب فيها، فإذا كان كذلك كان من الشاكرين، ودخل تحت اسم الممدوحين" .

(ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: من نظر في الدنيا إلى من هو دونه، ونظر في الدين إلى من هو فوقه، كتبه الله صابرا وشاكرا، ومن نظر في الدنيا إلى من هو فوقه، وفى الدين إلى من هو دونه، لم يكتبه الله لا صابرا ولا شاكرا) . قال العراقي: رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: غريب، وفيه المثنى بن الصباح ضعيف، انتهى .

قلت: ورواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب، من حديث أنس، لكن بتقديم الجملة الثانية على الأولى، وروى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة: انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم. أما البخاري فرواه من طريق الأعرج، والباقون من طريق همام وأبي صالح ثلاثتهم عن أبي هريرة. وفي لفظ لمسلم: إذا نظر أحدكم إلى من فضله الله عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل ممن فضل عليه. ولأحمد وابن حبان في أثناء حديث عن أبي ذر: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي. وعند هناد والبيهقي: إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم.




الخدمات العلمية