الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واعلم أن تمام هذه المعرفة بنفي الشرك في الأفعال ، فمن أنعم عليه ملك من الملوك بشيء فإن رأى لوزيره أو وكيله دخلا في تيسير ذلك وإيصاله إليه فهو إشراك به في النعمة فلا يرى النعمة من الملك من كل وجه بل منه بوجه ومن غيره بوجه فيتوزع فرحه عليهما فلا يكون موحدا في حق الملك نعم لا يغض من توحيده في حق الملك وكمال شكره أن يرى النعمة الواصلة إليه بتوقيعه الذي كتبه بقلمه ، وبالكاغد الذي كتبه عليه ، فإنه لا يفرح بالقلم والكاغد ولا يشكرهما لأنه لا يثبت لهما دخلا من حيث هما موجودان بأنفسهما بل من حيث هما مسخران تحت قدرة الملك ، وقد يعلم أن الوكيل الموصل والخازن أيضا مضطران من جهة الملك في الإيصال وأنه لو رد الأمر إليه ولم يكن من جهة الملك إرهاق وأمر جزم يخاف عاقبته لما سلم إليه شيئا فإذا عرف ذلك كان نظره إلى الخازن الموصل كنظره إلى القلم والكاغد ، فلا يورث ذلك شركا في توحيده من إضافة النعمة إليه إلى الملك ، وكذلك من عرف الله تعالى وعرف أفعاله علم أن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ، كالقلم مثلا في يد الكاتب وأن الحيوانات ، التي لها اختيار مسخرات في نفس اختيارها ، فإن الله تعالى هو المسلط للدواعي عليها لتفعل شاءت أم أبت ، كالخازن المضطر الذي لا يجد سبيلا إلى مخالفة الملك ، ولو خلي ونفسه لما أعطاك ذرة مما في يده فكل من وصل إليك نعمة من الله تعالى على يده : فهو مضطر إذ سلط الله عليه الإرادة ، وهيج عليه الدواعي وألقى في نفسه أن خيره في الدنيا والآخرة أن يعطيك ما أعطاك ، وأن غرضه المقصود عنده في الحال والمآل لا يحصل إلا به ، وبعد أن خلق الله له هذا الاعتقاد لا يجد سبيلا إلى تركه فهو إذا إنما يعطيك لغرض نفسه لا لغرضك ، ولو لم يكن غرضه في العطاء لما أعطاك ، ولو لم يعلم أن منفعته في منفعتك لما نفعك ، فهو إذا إنما يطلب نفع نفسه بنفعك فليس منعما عليك بل اتخذك وسيلة إلى نعمة أخرى وهو يرجوها وإنما الذي أنعم عليك هو الذي سخره لك وألقى في قلبه من الاعتقادات والإرادات ما صار به مضطرا إلى الإيصال إليك ، فإن عرفت الأمور كذلك فقد عرفت الله تعالى ، وعرفت فعله ، وكنت موحدا ، وقدرت على شكره ، بل كنت بهذه المعرفة بمجردها شاكرا .

ولذلك قال موسى عليه السلام في مناجاته : إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت وفعلت ، فكيف شكرك ؟ فقال الله عز وجل : علم أن كل ذلك مني فكانت معرفته شكرا .

فإذا لا تشكر إلا بأن تعرف أن الكل منه ، فإن خالجك ريب في هذا لم تكن عارفا لا بالنعمة ، ولا بالمنعم ، فلا تفرح بالمنعم وحده بل وبغيره ، فبنقصان معرفتك ينقص حالك في الفرح ، وبنقصان فرحك ينقص عملك ، فهذا بيان هذا الأصل .

التالي السابق


(واعلم أن تمام هذه المعرفة ينفي الشرك في الأعمال، فمن أنعم عليه ملك من الملوك بشيء فإن رأى لوزيره أو وكيله دخلا في تيسير ذلك وإيصاله) إليه فهو إشراكه به في النعمة فلا يرى النعمة من الملك من كل وجه بل منه بوجه ومن غيره بوجه (فيتوزع) أي: ينقسم (فرحة عليهما فلا يكون موحدا في حق الملك) في الحقيقة (نعم لا يغض من توحيده في حق الملك وكمال شكره أن يرى النعمة الواصلة إليه بتوقيعه الذي كتبه بقلمه، وبالكاغد الذي كتبه عليه، فإنه لا يفرح بالقلم والكاغد ولا يشكرهما لأنه لا يثبت لهما دخلا من حيث هما موجودان بأنفسهما بل من حيث هما مسخران تحت قدرة الملك، وقد يعلم أن الوكيل الموصل أو الخازن أيضا مضطران من جهة الملك في الإيصال فإنه لو رد الأمر إليه ولم يكن من جهة الملك إرهاق وأمر جزم يخاف عاقبته) لو خالفه (لما سلم شيئا) من تلك النعمة .

(فإذا عرف ذلك كان نظره إلى الخازن الموصل كنظره إلى القلم والكاغد، فلا يورث ذلك شركا في توحيده من إضافة النعمة إلى الملك، وكذلك من عرف الله تعالى وعرف أفعاله علم أن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، كالقلم مثلا في يد الكاتب، والحيوانات التي لها اختيار مسخرات في نفس اختيارها، فإن الله تعالى هو المسلط للدواعي عليها لتفعل شاءت أم أبت، كالخازن المضطر الذي لا يجد سبيلا إلى مخالفة الملك، ولو خلي ونفسه لما أعطاه ذرة مما في يده) أي: قليلا من النعمة، (فهو مضطر) لا محالة (إذ سلط الله عليه الإرادة، وهيج عليه الدواعي) والبواعث (وألقى في نفسه أن خيره في الدنيا والآخرة في أن يعطيك ما أعطاك، وأن الغرض المقصود عنده في الحال والمآل لا يحصل إلا به، وبعد أن خلق الله هذا الاعتقاد فلا يجد سبيلا إلى تركه فهو إذا إنما يعطيك لغرض نفسه لا لغرضك، ولو لم يكن غرضه في العطاء لما أعطاك، ولو لم يعلم أن منفعته في منفعتك لما نفعك، فهو إذا إنما يطلب نفع نفسه بنفعك فليس منعما عليك بل اتخذك وسيلة إلى نعمة أخرى هو يرجوها) في نفسه .

(وإنما الذي أنعم عليك هو الذي سخره لك وألقى في قلبه من الاعتقادات والإرادات ما صار به مضطرا إلى الإيصال إليك، فإن عرفت الأمور كذلك فقد عرفت الله تعالى، وعرفت فعله، وكنت موحدا، وقدرت على شكره، بل كنت بهذه المعرفة بمجردها شاكرا، ولذلك قال موسى عليه السلام في مناجاته: إلهي خلقت آدم بيديك وفعلت وفعلت، فكيف شكرك؟ فقال الله عز وجل: علم أن كل ذلك مني فكانت معرفته شكرا) . نقله القشيري في الرسالة، ورواه الحكيم في النوادر عن الحسن مرسلا بلفظ: قال موسى: يا رب كيف [ ص: 51 ] شكرك؟ قال: علم أن ذلك مني فكان ذلك شكره.

(فإذا لا تشكر إلا بأن تعرف أن الكل منه، فإن خالجك ريب) أي: داخلك شك (في هذا لم تكن عارفا لا بالنعمة، ولا بالمنعم، فلا تفرح بالمنعم وحده بل بغيره، فبنقصان معرفتك ينقص حالك في الفرح، وبنقصان فرحك ينقص عملك، فهذا بيان هذا الأصل) .




الخدمات العلمية