الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : فقد ظهر الآن أن الكل جبر فما معنى الثواب والعقاب والغضب والرضا وكيف غضبه على فعل نفسه فاعلم أن معنى ذلك قد أشرنا إليه في كتاب الشكر فلا نطول بإعادته فهذا هو القدر الذي رأينا الرمز إليه من التوحيد الذي يورث حال التوكل ولا يتم هذا إلا بالإيمان بالرحمة والحكمة فإن التوحيد يورث النظر إلى مسبب الأسباب والإيمان بالرحمة وسعتها هو الذي يورث الثقة بمسبب الأسباب ولا يتم حال التوكل كما سيأتي إلا بالثقة بالوكيل وطمأنينة القلب إلى حسن نظر الكفيل وهذا الإيمان أيضا باب عظيم من أبواب الإيمان وحكاية طريق المكاشفين فيه تطول ، فلنذكر حاصله ليعتقده الطالب لمقام التوكل اعتقادا قاطعا لا يستريب فيه .

وهو أن يصدق تصديقا يقينيا لا ضعف فيه ولا ريب إن الله عز وجل : لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم وأفاض عليهم من الحكمة ما لا منتهى لوصفها ، ثم زاد مثل عدد جميعهم علما وحكمة وعقلا ، ثم كشف لهم عن عواقب الأمور ، وأطلعهم على أسرار الملكوت ، وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر ، ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والتظاهر عليه أن يزاد فيما دبر الله سبحانه الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة ، ولا أن ينقص منها جناح بعوضة ، ولا أن يرفع منها ذرة ولا أن يخفض منها ذرة ، ولا أن يدفع مرض أو عيب أو نقص أو فقر أو ضر عمن بلي به ، ولا أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم الله به عليه بل كل ما خلقه الله تعالى من السموات والأرض إن رجعوا . فيها البصر وطولوا فيها النظر ما رأوا فيها من تفاوت ولا فطور .

التالي السابق


(فإن قلت: فقد ظهر الآن أن الكل جبر) في صوره اختيار (فما معنى الثواب والعقاب والغضب والرضا وكيف غضبه على فعل نفسه فاعلم أن معنى ذلك قد أشرنا إليه في كتاب الشكر) من الركن الثالث منه عند قوله: وفي كل فقر ومرض وخوف بلاء في الدنيا، خمسة أمور ينبغي أن يفرح العاقل بها إلى آخره. راجعه هناك (فلا نطيل بإعادته) ثانيا (فهذا هو القدر الذي رأينا الرمز إليه من التوحيد الذي يورث حال التوكل) والتسليم ويثمره إذا ثبت في النفس ثبوتا اعتقاديا أو كشفيا أو ذوقيا أو عرفانيا ينتج عنه حال التوكل (ولا يتم هذا إلا بالإيمان بالرحمة والحكمة فإن التوحيد يورث النظر إلى مسبب الأسباب) بأن الوجود بأثره في قبضته وقدرته وتحت قهره وأسره .

(والإيمان بالرحمة وسعتها هو الذي يورث الثقة بمسبب الأسباب) وينكشف لك أن الرزق لا يتعدى المرزوقين; لأنه مخلوق لهم (ولا يتم حال التوكل كما سيأتي) قريبا (إلا بالثقة بالوكيل وطمأنينة القلب إلى حسن نظر الكفيل وهذا الإيمان أيضا باب عظيم من أبواب الإيمان) أي: الإيمان بسعة الرحمة والجود والحكمة (وحكاية طريق المكاشفين فيه تطول، فلنذكر حاصله ليعتقده الطالب لمقام التوكل اعتقادا قاطعا لا يستريب فيه) أي: لا يداخله الريب والشك فيه (وهو أن يصدق تصديقا يقينيا لا ضعف فيه ولا ريب أن الله [ ص: 430 ] - عز وجل - لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم وأفاض عليهم من الحكمة ما لا منتهى لوصفها، ثم زاد مثل عدد جميعهم علما وحكمة وعقلا، ثم كشف لهم عن عواقب الأمور، وأطلعهم على أسرار الملكوت، وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر، ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والتظاهر عليه أن يزداد فيما دبر الله سبحانه الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة، ولا أن ينقص منها جناح بعوضة، ولا أن يرفع منها ذرة ولا أن يخفض منها ذرة، ولا أن يدفع مرض أو عيب أو نقص أو فقر أو ضر عمن بلي به، ولا أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم به عليه بل كل ما خلقه الله تعالى من السموات والأرض إذا أرجعوا فيها البصر وطولوا فيها النظر ما رأوا فيها من تفاوت ولا فطور) .

هذا السياق منتزع من القوت ولفظه: اعلم يقينا أن الله تعالى لو جعل الخلائق كلهم من أهل السماوات والأرضين على علم أعلمهم به وعقل أعقلهم عنه وحكمة أحكمهم عنده، ثم زاد كل واحد من الخلائق مثل عدد جميعهم وأضعافه علما وحكما وعقلا، ثم كشف لهم العواقب وأطلعهم على السرائر وأعلمهم بواطن النعم وعرفهم دقائق العقوبات والنقم، ثم قال لهم: دبروا الملك بما أعطيتكم من العلوم والعقول على مشاهدتكم عواقب الأمور واطلاعكم على سرائر المقدور، ثم أعانهم على ذلك وقواهم له لما زاد تدبيرهم على ما تراه الآن من تدبير الله من الخير والشر والنفع والضر جناح بعوضة، ولا نقص عن ذرة ولا أوجبت العقول المكاشفات ولا العلوم المشاهدات غير هذا التدبير، ولا قضت بغير هذا التقدير الذي يعاينه وينقلب فيه ولكن لا يبصرون. انتهى .

ويشهد لهذا السياق ما في الحلية في ترجمة وهب بن منبه قال: ألم يفكر ابن آدم ثم يتفهم ويعتبر ثم يبصر ثم يعقل ويتفقه حتى يعلم أن لله علما به يعلم العالم وحكمه بها يتقن الخلق ويدبر بها أمور الدنيا والآخرة، فإن ابن آدم لم يبلغ بعلمه المقدر علم الله الذي لا مقدار له، ولن يبلغ بحكمته حكمة الله تعالى التي بها يحيي الخلق ويقدر المقادير .




الخدمات العلمية