الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقيل : الصبر لله غناء والصبر بالله بقاء والصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء وقد قيل في معناه .


والصبر عنك فمذموم عواقبه والصبر في سائر الأشياء محمود

وقيل أيضا :

الصبر يحمل في المواطن كلها     إلا عليك فإنه لا يجمل

هذا آخر ما أردنا شرحه عن علوم الصبر وأسراره .

التالي السابق


(وقيل: الصبر لله عناء) أي: مشقة وكلفة، (والصبر بالله بقاء) أي: عون منه، (والصبر مع الله وفاء) لما امتحن به، (والصبر عن الله جفاء) أي: بعد وإعراض عنه، نقله القشيري وزاد بعد قوله: بقاء: والصبر في الله بلاء، أي: اختبار وامتحان بما ينزل من القضاء. (وقد قيل في ذلك) شعر:


( والصبر عنك فمذموم عواقبه والصبر في سائر الأشياء محمود )

نقله القشيري وأورد أيضا:


وكيف الصبر عمن حل مني بمنزلة اليمين من الشمال


إذا لعب الرجال بكل شيء رأيت الحب يلعب بالرجال

(وقيل أيضا:)

(والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يحمد)

أورده القشيري بعد قوله، وقال يحيى بن معاذ الرازي: صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين، واعجبا كيف يصبرون وأنشد فذكره .

وقال الشيخ عبد الله الأنصاري: "ومن أضعف الصبر الصبر لله، وهو صبر العامة، وفوقه الصبر بالله، وهو صبر المريدين، وفوقه الصبر على أحكام الله، وهو صبر السالكين، ومعنى كلامه أن صبر العامة لله أي: رجاء ثوابه وخوف عقابه، وصبر المريدين بالله أي: بقوة الله ومعونته بهم لا يرون لأنفسهم صبرا ولا قوة عليه، بل حالهم التحقق بلا حول ولا قوة إلا بالله علما ومعرفة وحالا، وفوقها الصبر على الله، أي: على أحكامه"، هذا تقرير كلامه. وقال صاحب البصائر: "والصواب أن الصبر لله فوق الصبر بالله، وأعلى درجة وأجل شأنا، فإن الصبر لله متعلق بالإلهية، والصبر به متعلق بربوبيته، وما تعلق بالإلهية أكمل وأعلى مما تعلق بربوبيته، ولأن الصبر له عبادة، والصبر به استعانة، والاستعانة وسيلة، والعبادة غاية، والغاية مراده لنفسها، والوسيلة مراده لغيرها، ولأن الصبر به مشترك بين المؤمن والكافر والبر والفاجر، فكل من شهد الحقيقة الكونية صبر به، وأما الصبر به فمنزلة الأنبياء والرسل والصديقين، ولأن الصبر له صبر فيما هو حق له محبوب مرضي لديه، والصبر قد يكون في ذلك، وقد يكون فيما هو مسخوط له وقد يكون في مكروه أو مباح، فأين هذا من هذا؟ وأما تسمية الصبر على أحكامه صبرا عليه فلا مشاحة في العبارة بعد معرفة المعنى، والله أعلم" .

(هذا آخر ما أردنا شرحه في علوم الصبر وأسراره) وقد بقي في الباب بعض مهمات لم يشر إليها المصنف [ ص: 43 ] مما هو في كتب الشيوخ قال القشيري في الرسالة: قال أبو القاسم الحكيم، قوله تعالى: "واصبر" أمر بالعبادة، وقوله: وما صبرك إلا بالله عبودية، فمن ترقى من درجة لك، إلى درجة بك، فقد انتقل من درجة العبادة إلى درجة العبودية، قال صلى الله عليه وسلم: "بك أحيا وبك أموت". وقال ذو النون المصري: الصبر التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة. وقال ابن عطاء: الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقيل: هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى. وقال أبو عثمان: الصبار الذي عود نفسه الهجوم على المكاره. وقيل: الصبر المقام مع البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية. وقال عمرو بن عثمان: الصبر هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة. وقال رويم: الصبر ترك الشكوى. وقال ذو النون: الصبر هو الاستغاثة بالله. وقال أبو عبد الرحمن السلمي أنشدني أبو بكر الرازي قال أنشدني ابن عطاء لنفسه:


سأصبر كي ترضى وأتلف حسرة وحسبي أن ترضى ويتلفني صبري

وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الصبر كاسمه، وقال علي رضي الله عنه: الصبر مطية لا تكبو، وقال أبو محمد الحريري: الصبر أن لا تفرق بين حال النعمة والمحبة مع سكون الخاطر فيهما، والصبر هو السكون مع البلاء مع وجدان أثقال المحنة. وأنشد بعضهم:


صبرت ولم أطلع هواك على صبري وأخفيت ما بي منك عن موضع الصبر


مخافة أن يشكو ضميري صبابتي إلى دمعتي سرا فتجري ولا أدري

وقيل: تجرع الصبر فإن قتلك قتلك شهيدا، وإن أحياك أحياك عزيزا. وقيل: الصبر على الطلب عنوان الظفر والصبر في المحن عنوان الفرج.وفي بعض الأخبار: بعيني ما يتحمل المتحملون لأجلي. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان الصبر والشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبت. وكان ابن شبرمة إذا نزل به بلاء قال: سحابة ثم تنقشع، وسئل السري عن الصبر فجعل يتكلم فيه فدب على رجله عقرب وهي تضربه بإبرتها ضربات كثيرة وهو ساكن فقيل له: لم لم تنحها؟ فقال: استحييت من الله تعالى أن أتكلم في الصبر ولا لي صبر .

وفي بعض الأخبار: الفقراء الصابرون هم جلساء الله يوم القيامة، وأوحى الله إلى بعض أنبيائه: أنزلت بعبدي بلائي فدعاني فماطلته بالإجابة فشكاني، فقلت: عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك. وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: إن الصبر حده أن لا تعترض على التقدير، فأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال الله تعالى في قصة أيوب عليه السلام: إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب مع ما أخبر عنه أنه قال: مسني الضر ، وسمعته يقول: استخرج منه هذه المقالة، يعني قوله مسني الضر ، ليكون منفسا لضعفاء هذه الأمة، وسمعته يقول: حقيقة الصبر الخروج عن البلاء على حسب الدخول فيه مثل أيوب عليه السلام قال في آخر بلائه: مسني الضر الآية، فحفظ أدب الخطاب حيث عرض بقوله: وأنت أرحم الراحمين ولم يصرح بقوله ارحمني .



واعلم أن الصبر على ضربين: صبر العابدين، وصبر المحبين، فصبر العابدين أحسنه أن يكون محفوظا، وصبر المحبين أحسنه أن يكون مرفوضا، وفي معناه أنشد:


تبين يوم البين أن اعتزامه على الصبر من إحدى الظنون الكواذب

وفي هذا المعنى سمعت الأستاذ أبا علي يقول: أصبح يعقوب عليه السلام وقد وعد الصبر من نفسه، فقال: صبر جميل، أي: فشأني صبر جميل، ثم لم يمس حتى قال: يا أسفا على يوسف، إلى هنا كله كلام القشيري.

وقال صاحب العوارف: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر، فالصبر عرك النفس، وبالعرك تلين، والصبر جار في الصابر مجرى الأنفاس، لأنه يحتاج إلى الصبر عن كل منهي ومكروه ومذموم ظاهرا وباطنا، والعلم يدل، والصبر يقبل، فلا تنفع دلالة العلم بغير قبول الصبر، ومن كان العلم سياسته في الظاهر والباطن لا يتم له ذلك إلا إذا كان الصبر مستقره ومسكنه، والعلم والصبر متلازمان كالروح والجسد لا يستقل أحدهما بدون الآخر، ومصدرهما الغريزة العقلية، وهما متقاربان لاتحاد مصدرهما [ ص: 44 ] وبالصبر تحامل على النفس، وبالعلم ترقى إلى الروح، وهما البرزخ والفرقان بين الروح والجسد، ليستقر كل واحد منهما في مستقره، وفي ذلك صريح العدل وصحة الاعتدال وبانفصال أحدهما عن الآخر أعني العلم والصبر ميل أحدهما إلى الآخر أعني النفس والروح، وبيان ذلك يدق وناهيك بشرف الصبر قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "واصبر وما صبرك إلا بالله" ، أضاف الصبر إلى نفسه لشريف مكانه وتكميل النعمة به .

ثم نقل مراجعة الرجل مع الشبلي في أشد الصبر كما تقدم ذكره ثم قال: وعندي في معنى الصبر عن الله وجه، ولكونه من أشد الصبر على الصابرين وجه، وذلك أن الصبر عن الله يكون في أخص معاملة المشاهدة ثم يرجع العبد عن مولاه استحياء وإجلالا، وتنطف بصيرته خجلا وذوبانا، ويتغير في مفاوز استكانته وتخفيه لإحساسه بعظيم أمر التجلي، وهذا من أشد الصبر لأنه يود استدامة هذا الحال تأدية لحق الجلال، والروح تود أن تكتحل بصيرتها بأشعة نور الجمال، وكما أن النفس منازعة لعموم حال الصبر فالروح في هذا الصبر منازعة فاشتد الصبر عن الله تعالى لذلك. وقال جعفر الصادق رحمه الله تعالى: أمر الله تعالى أنبياءه بالصبر، وجعل الحظ الأعلى للرسول صلى الله عليه وسلم حيث جعل صبره بالله لا بنفسه فقال: "وما صبرك إلا بالله". إلى هنا كلام صاحب العوارف .

وقال صاحب القوت في شرح مقام الصبر: قال بعض الصحابة ماذا جعل الله من الشفاء والفضل في التقوى والصبر؟ قلت: وهذا تصحيف من صاحب القوت أو من الكاتب نبه على ذلك أبو الحسن نصر بن أحمد الفارسي قال: إنما هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا في الأمرين من الشفاء الثقاء والصبر، يعني بالثقاء حب الرشاد، والصبر هو المر. ثم قال صاحب القوت: وكان سهل يقول: الصبر تصديق الصدق، وأفضل منازل الطاعة الصبر عن المعصية ثم الصبر على الطاعة، وقال في معنى قوله تعالى: استعينوا بالله واصبروا أي: استعينوا بالله على أمر الله واصبروا على أدب الله. وكان يقول: الصالحون في المؤمنين قليل، والصابرون في الصالحين قليل. فجعل الصبر خاصية الصدق، وجعل الصابرين خصوص الصادقين، وكذلك الله سبحانه رفع الصابرين على الصادقين في ترتيب المقامات، فجعل الصبر مقاما في الصدق في قوله تعالى: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الآية على أن الواو للجمع .



والصبر ينقسم إلى عملين؛ أحدهما لا صلاح للدين إلا به، والثاني هو أصل فساد الدين، ثم يتنوع الصبر فيكون صابرا على الذي فيه صلاح الدين فيكمل به إيمانه، ويكون صابرا عن الذي فيه فساد الدين فيحسن به يقينه .

وكان ميمون بن مهران يقول: الإيمان والتصديق والمعرفة والصبر شيء واحد، ثم قال: فمن صبر عن الطمع في الخلق أخرجه الصبر إلى الورع، ومن صبر على الورع في الدين أدخله الصبر في الزهد، ومن طمع في التصديق الكاذب أدخله الطمع في حب الدنيا، ومن استشعر حب الدنيا أخرجه حبها من حقيقة الدين، وقد روينا: يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه جزاء الشاكرين، ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر، فيقول: نعم يا رب، فيقول الله: كلا أنعمت عليه فشكر، وابتليتك فصبرت، لأضعفن لك الأجر عليه فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين. وجاء في الخبر أن لأبواب الجنة مصراعين يأتي عليها زحام إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد لا يدخل منه إلا الصابرون أهل البلاء في الدنيا واحد بعد واحد .



وللصبر معنيان أحدهما منوط بالآخر لا يتم كل واحد منهما إلا بصاحبه، فمن كان التقوى مقامه كان الصبر حاله، فصار الصبر أفضل الأحوال من حيث كان التقوى أفضل المقامات، إذ الأتقى هو الأكرم عند الله، والأكرم عند الله هو الأفضل، وقيل لسفيان الثوري: ما أفضل الأعمال؟ قال: الصبر عند الابتلاء. وقال بعض العلماء: لا يطمئن طامع في مدح الله تعالى وحسن ثنائه عليه قبل أن يبتليه فيصبر له، ولا يطمعن أحد في حقيقة الإيمان وحسن اليقين قبل أن يمدحه الله تعالى ويثني عليه، ولو أظهر الله تعالى على جوارحه سائر الأعمال ثم لم يمدحه بوصف ولم يثن عليه بخير لم يؤمن عليه سوء الخاتمة، وذلك من أخلاق الله تعالى أنه إذا أحب عبدا أو رضي عمله مدحه ووصفه، فمن ابتلاه بكراهة ومشقة أو [ ص: 45 ] هوى أو شهوة فصبر لذلك أو صبر عن ذلك، فإنه تعالى يمدحه ويثني عليه بكرمه وجوده، فيدخل هذا العبد في أسماء الموصوفين، ويصير واحدا من الممدوحين، فعندها يثبت قدمه من الزلل، ويختم له بما سبق له من صالح العمل .

وأفضل الصبر الصبر على الله تعالى بالمجالسة والإصغاء إليه، وعكوف الهمم عليه، وقوة الوجد به، وهذا لخصوص المقربين، أو حياء منه أو حبا له أو تسليما له أو تفويضا إليه، وهو السكون تحت جريان الأقدار وشهودها من الإنعام، ومن حسن تدبير الاقتسام، وشهود المشيئة له والحكمة فيها، والقصد بالابتلاء بها، وهو داخل في قوله تعالى: ولربك فاصبر ، وفي قوله تعالى: واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ، وقال سهل في تأويل قول علي رضي الله عنه: إن الله يحب كل عبد نؤمة، قال: هو الساكن تحت جريان الأحكام عن الكراهة والاعتراض، وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القدر .

ويقال من علامات اليقين التسليم للقضاء بحسن الصبر والرضا، وهو مقام العارفين، والصبر أيضا على إظهار الكرامات، وهي الأخبار بكشف القدرة والآيات داخل في حسن الأدب من المعاملات، وهذا في معنى الحياء من الله تعالى، وهذا طريق المحبين لله تعالى وهو حقيقة الزهد. ومن فضائل الصبر حبس النفس عن حب الحمد والمدح والرياسة، وقد روينا في خبر مقطوع: الصبر في ثلاث: الصبر عن تزكية النفس، والصبر عن شكوى المصيبة، والصبر على الرضا بقضاء الله تعالى خيره وشره .

واعلم أن أكثر معاصي الخلق في شيئين: قلة الصبر عما يحبون أو قلة الصبر عما يكرهون، وقد قرن الله الكراهة بالخير، والمحبة بالشر في قوله تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم وهو الصبر، وهو أول فريضة مثل أول الإخلاص، والصبر أيضا حيلة من لا حيلة له لأن الأمر إذا كان بيد غيرك لم يكن لك إلا الصبر عليه، ولأن الشيء إذا كان لا يأتيك إلا قليلا قليلا وأنت تحتاج إليه لم يكن لك إلا الصبر عليه وإلا انقطع ذلك القليل .



وأصل قلة الصبر ضعف اليقين بحسن جزاء من صبرت له؛ لأنه لو قوي يقينه كان الآجل من الوعد عاجلا إذا كان الواعد صادقا، فحسن صبره لقوة الثقة بالإعطاء، ولا يصبر العبد إلا لأجل معنيين مشاهدة العوض وهو أدناهما، وهذا حال المؤمنين، ومقام أصحاب اليمين، أو النظر إلى المعوض وهو حال الموقنين، ومقام المقربين، فمن شهد العوض غني بالصبر، ومن نظر إلى المعوض حمله النظر والتصبر على الصبر ومجاهدة النفس، وحملها على الصبر وترغيبها فيه، وهو التعمل للصبر بمنزلة التزهد، وهو أن يعمل في أسباب الزهد لتحصيل الزهد، والزهد والصبر هو التحقق بالوصف، وذلك هو المقام. إلى هنا كلام صاحب القوت .

وقال صاحب البصائر نقلا عن بعض المشايخ: كان صبر يوسف عليه السلام عن طاعة امرأة العزيز أكمل من صبره على إلقاء إخوته إياه في الجب، وبيعهم وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها، ليس للعبد حيلة فيها عن الصبر، وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا ومحاربة للنفس، ولاسيما مع أسباب تقوى معها داعية الموافقة، فإنه كان شابا وداعية الشاب إليها قوية، وكان عزبا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته، وغريبا والغريب لا يستحيي في بلد غربته مما يستحيي منه بين أصحابه وأهله، ويحسبونه مملوكا والمملوك ليس وازعه كوازع الحر، والمرأة جميلة وذات منصب، وقد غاب الرقيب وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته بالسجن إن لم يفعل، فمع هذه الدواعي كلها صبر اختيارا وإيثارا لما عند الله، أين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه .

والصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات، فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية .



واعلم أن الشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر، فإن يعقوب عليه السلام وعد بالصبر الجميل، والنبي إذا وعد لا يخلف، ثم قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، وكذلك أيوب عليه السلام أخبر الله عنه أنه وجده صابرا مع قوله: مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، وإنما ينافي الصبر شكوى الله لا [ ص: 46 ] الشكوى إلى الله، كما رؤي بعضهم يشكو إلى آخر فاقة وضرورة، فقال: يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك ثم أنشد:


وإذا اعترتك بلية فاصبر لها صبر الكريم فإنه بك أرحم وإذا شكوت إلى ابن آدم لا كما
تشكو الرحيم الذي لا يرحم

والله أعلم .




الخدمات العلمية