الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الوسائل فتنقسم إلى الأقرب الأخص كفضائل النفس وإلى ما يليه في القرب كفضائل البدن وهو الثاني وإلى ما يليه في القرب ويجاوز إلى غير البدن كالأسباب المطيفة بالبدن من المال والأهل والعشيرة وإلى ما يجمع بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس ، وبين الحاصلة للنفس كالتوفيق والهداية فهي إذا أربعة أنواع النوع الأول وهو الأخص الفضائل النفسية ويرجع حاصلها مع انشعاب أطرافها إلى الإيمان ، وحسن الخلق ، وينقسم الإيمان إلى علم المكاشفة ، وهو العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته ورسله ، وإلى علوم المعاملة وحسن الخلق ينقسم إلى قسمين ترك مقتضى الشهوات والغضب واسمه العفة ومراعاة العدل في الكف عن مقتضى الشهوات والإقدام حتى لا يمتنع أصلا ، ولا يقدم كيف شاء ، بل يكون إقدامه وإحجامه بالميزان العدل الذي أنزله الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذ قال الله تعالى أن لا تطغوا في الميزان : وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان فمن خصى نفسه ليزيل شهوة النكاح أو ترك النكاح مع القدرة والأمن من الآفات أو ترك الأكل حتى ضعف عن العبادة والذكر والفكر فقد أخسر الميزان ومن انهمك في شهوة البطن والفرج فقد طغى في الميزان وإنما العدل أن يخلو وزنه وتقديره عن الطغيان والخسران فتعتدل به كفتا الميزان فإذا الفضائل الخاصة بالنفس المقربة إلى الله تعالى أربعة : علم مكاشفة ، وعلم معاملة ، وعفة ، وعدالة ولا يتم هذا في غالب الأمر إلا بالنوع الثاني ، وهو الفضائل البدنية ، وهي أربعة الصحة ، والقوة ، والجمال ، وطول العمر ، ولا تتهيأ هذه الأمور الأربعة إلا بالنوع الثالث وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن ، وهي أربعة المال والأهل والجاه وكرم العشيرة ، ولا ينتفع بشيء من هذه الأسباب الخارجة والبدنية إلا بالنوع الرابع وهي الأسباب التي تجمع بينها وبين ما يناسب الفضائل النفسية الداخلة وهي أربعة هداية الله ، ورشده ، وتسديده ، وتأييده ، فمجموع هذه النعم ستة عشر إذا قسمناها إلى أربعة وقسمنا كل واحدة من الأربعة إلى أربعة وهذه الجملة يحتاج البعض منها إلى البعض إما حاجة ضرورية أو نافعة أما الحاجة الضرورية فكحاجة سعادة الآخرة إلى الإيمان وحسن الخلق إذ لا سبيل إلى الوصول إلى سعادة الآخرة البتة إلا بهما فليس للإنسان إلا ما سعى وليس لأحد في الآخرة إلا ما تزود من الدنيا فكذلك حاجة الفضائل النفسية التي تكسب هذه العلوم وتهذب الأخلاق إلى صحة البدن ضروري وأما الحاجة النافعة على الجملة فكحاجة هذه النعم النفسية والبدنية إلى النعم الخارجة مثل المال والعز والأهل فإن ذلك لو عدم ربما تطرق الخلل إلى بعض النعم الداخلة .

فإن قلت فما وجه الحاجة لطريق الآخرة إلى النعم الخارجة من المال والأهل والجاه والعشيرة فاعلم أن هذه الأسباب جارية مجرى الجناح المبلغ والآلة المسهلة للمقصود أما المال فالفقير في طلب العلم والكمال .

وليس له كفاية كساع إلى الهيجا بغير سلاح وكبازي يروم الصيد بلا جناح ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : نعم المال الصالح للرجل الصالح وقال صلى الله عليه وسلم نعم العون على تقوى الله المال وكيف لا ومن عدم المال صار مستغرق الأوقات في طلب الأقوات ، وفي تهيئة اللباس والمسكن وضرورات المعيشة ، ثم يتعرض لأنواع من الأذى تشغله عن الذكر والفكر ولا تندفع إلا بسلاح المال ، ثم ذلك يحرم عن فضيلة الحج والزكاة والصدقات وإفاضة الخيرات .

وقال بعض الحكماء وقد قيل له ما النعيم ؟ فقال : الغنى ، فإني رأيت الفقير لا عيش له قيل زدنا قال الأمن فإني رأيت الخائف لا عيش له ، قيل : زدنا ، قال : العافية فإني رأيت المريض لا عيش له ، قيل : زدنا ، قال : الشباب ، فإني رأيت الهرم لا عيش له وكأن ما ذكره إشارة إلى نعيم الدنيا ولكن ، من حيث إنه معين على الآخرة فهو نعمة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : من أصبح معافى في بدنه ، آمنا في سربه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها .

التالي السابق


(وأما الوسائل) التي يتوصل بها إلى الغاية (فتنقسم إلى الأقرب الأخص كفضائل النفس) وهو الأول (وإلى ما يليه في القرب كفضائل البدن) وهو الثاني (وإلى ما يليه في القرب ويجاوز إلى غير البدن) كالأسباب المطيفة بالبدن من المال (والأهل والعشيرة) وهو الثالث (وإلى ما يجمع بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس، وبين الحاصلة للنفس كالتوفيق والهداية) وهو الرابع (فهي إذا أربعة أنواع) النفسية والبدنية والخارجية والتوفيقية، وهي مع السعادة الأخروية خمسة أنواع (النوع الأول وهو الأخص) الأقرب (الفضائل النفسية) ولا يمكن الوصول إلى السعادة الأخروية إلا باكتسابها واستعمالها، كما قال تعالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها الآية. وأصول ذلك أربعة أشياء: العقل وكماله العلم، والعفة وكمالها الورع، والشجاعة وكمالها المجاهدة، والعدالة وكمالها الإنصاف، وقد فصله المصنف بقوله (ويرجع حاصلها مع انشعاب أطرافها إلى) أصلين عظيمين (الإيمان، وحسن الخلق، وينقسم الإيمان إلى علم المكاشفة، وهو العلم بالله وصفاته وملائكته ورسله، وإلى علم المعاملة) وهو مجاهدة البدن في الطاعات. (وحسن الخلق ينقسم [ ص: 86 ] إلى قسمين) أحدهما ترك مقتضى الشهوة والغضب، واسمه (العفة و) الثاني (مراعاة العدل في الكف عن مقتضى الشهوات والإقدام حتى لا يمتنع أصلا، ولا يقدم كيف شاء، بل يكون إقدامه وإحجامه بالميزان العدل الذي أنزل الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذ قال تعالى:) والسماء رفعها ووضع الميزان ( ألا تطغوا في الميزان ) أي: لا تعتدوا ولا تجاوزوا الإنفاق ( وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) أي: لا تنقصوه (فمن خصى نفسه لترك شهوة النكاح أو ترك النكاح مع القدرة والأمن من الآفات أو ترك الأكل حتى ضعف عن العبادة والذكر والفكر فقد أخسر الميزان) فإن كل ذلك غير مناسب لميزان العدالة. (ومن انهمك في شهوة البطن والفرج فقد طغى في الميزان) واعتدى، (وإنما العدل) الحقيقي الذي به قامت السموات والأرض (أن يخلو وزنه وتقديره عن الطغيان والخسران فتعتدل به كفتا الميزان) على السواء .

(فإذا الفضائل الخاصة بالنفس المقربة إلى الله تعالى أربعة: علم مكاشفة، وعلم معاملة، وعفة، وعدالة) فكمال علم المكاشفة العلم، وكمال علم المعاملة المجاهدة، وكمال العفة الورع، وكمال العدالة الإنصاف، وهي المعبر عنها بالدين، (ولا يتم هذا في غالب الأمر إلا بالنوع الثاني، وهو الفضائل البدنية، وهي أربعة) أشياء (الصحة، والقوة، والجمال، وطول العمر، ولا تهيأ هذه الأمور الأربعة إلا بالنوع الثالث وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن، وهي أربعة) أشياء (المال والأهل والجاه) ، ومنهم من ذكر العز بدله (وكرم العشيرة، ولا ينتفع بشيء من هذه الأسباب الخارجة والبدنية) ولا سبيل إلى تحصيلها (إلا بالنوع الرابع) الذي هو توفيق الله عز وجل، (وهي الأسباب التي تجمع بينها وبين ما يناسب الفضائل النفسية الداخلة وهي أربعة) أشياء (هداية الله، ورشده، وتسديده، وتأييده، فمجموع هذه النعم ست عشرة إذ قسمناها إلى أربعة وقسمنا كل واحد من الأربعة إلى أربعة) .

ويجمع ذلك خمسة أنواع هي عشرون ضربا ليس للإنسان مدخل في اكتسابها إلا فيما هو نفسي فقط، ثم أشار المصنف إلى حاجة بعض هذه الفضائل إلى بعض فقال (وهذه الجملة يحتاج البعض منها إلى بعض إما حاجة ضرورية) بحيث لو لم يوجد ذلك لم يصح وجود الآخر (أو) حاجة (نافعة) بحيث لو لم توجد لاختل حال الآخر (أما الحاجة الضرورية فكحاجة سعادة الآخرة إلى الإيمان وحسن الخلق) ، وهي الفضائل النفسية (إذ لا سبيل إلى الوصول إلى سعادة الآخرة) الحقيقية (ألبتة إلا بهما) أي: باكتسابهما (فليس للإنسان إلا ما سعى) وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى، (وليس لأحد في الآخرة إلا ما تزود من الدنيا) ولذلك قال الله تعالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها الآية، فبين أن لا مطمع لمن أراد الوصول إليها إلا بالسعي، (فكذلك حاجة الفضائل النفسية تكسب العلوم) النافعة (وتهذيب الأخلاق) وتصفيتها من الرذائل (إلى صحة البدن وقوته ضروري) لأنه لا سبيل إلى تحصيلها إلا بها، (وأما الحاجة النافعة على الجملة فكحاجة هذه النعم) والفضائل (النفسية والبدنية إلى النعم الخارجة) المطيفة بالإنسان (مثل المال والعز والأهل) وكرم العشيرة فإنها لا تغني عنها (فإن ذلك لو عدم) وأمكن أن يتصور حصولها لمن ليس له ذلك (ربما تطرق الخلل إلى بعض النعم الداخلة فإن قلت فما وجه الحاجة لطريق الآخرة) وحصول سعادتها (إلى النعم الخارجة) المطيفة بالبدن (من المال والأهل [ ص: 87 ] والجاه والعشيرة) وما نفعها في بلوغها .

(فاعلم أن هذه الأسباب جارية مجرى الجناح) للطائر (المبلغ) لحاجته (و) بمنزلة (الآلة المسهلة للمقصود) ، وإن لم تكن الحاجة إليها في بلوغ ذلك ضرورية، (فأما المال فالفقير) المعدم (في طلب العلم والكمال) وتحري المكارم (وليس له كفاية) هو (كساع إلى الهيجاء بغير سلاح) والهيجاء ميدان الحرب، فمن سعى إليها بغير سلاح فأحرى به أن يخفق سعيه وهو مصراع بيت (وكباز يروم الصيد بلا جناح) فكيف يصطاد وفضله مغطى كماء تحت أرض وبار كامنة في صخر، وما أصدق ما قال الشاعر:


والمرء يرفعه الغنى والفقر منقصة وذل

وقال آخر:


فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ولا مال في الدنيا لمن قل مجده

(ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: نعم المال الصالح للرجل الصالح) رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني من حديث عمرو بن العاص بسند حسن، وقد تقدم (وقال) صلى الله عليه وسلم (نعم العون على تقوى الله المال) .

قال العراقي : رواه الديلمي في مسند الفردوس من رواية محمد بن المنكدر عن جابر، ورواه أبو القاسم البغوي من رواية ابن المنكدر مرسلا ومن طريقه رواه القضاعي في مسند الشهاب هكذا مرسلا، انتهى .

قلت: ورواه أيضا ابن لال في مكارم الأخلاق من حديث جابر. (كيف ومن عدم المال صار مستغرق الأوقات في طلب القوت، وفي تهيئة اللباس والمسكن وضرورات المعيشة، ثم يتعرض) بسبب قلة المال (لأنواع من الأذى تشغله عن الذكر والفكر) والمراقبة (ولا تندفع إلا بسلاح المال، ثم مع ذلك) بفقدان المال يشكل بلوغ الفضائل فمن ذلك أنه (يحرم فضيلة الحج والزكاة والصدقات وإفاضة الخيرات) وكثيرا من القرب، (وقال بعض الحكماء و) قد (قيل له ما النعيم؟ فقال: الغنى، فإني رأيت الفقير لا عيش له، قيل: زدنا، قال: العافية فإني رأيت المريض لا عيش له، قيل: زدنا، قال: الشباب، فإني رأيت الهرم لا عيش له) ، نقله صاحب القوت، إلا أنه زاد بعد العافية: قيل زدنا، قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا عيش له، وقال في آخره: قيل زدنا، قال: لا أجد مزيدا، ثم قال. وبعض ما ذكره هو أحد الوجوه في قوله تعالى: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا قيل الشباب وقيل: الفراغ، ويقال الأمن والصحة .

(وكأن ما ذكر إشارة إلى نعيم الدنيا، ولكنه من حيث إنه معين على الآخرة فهو نعمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: من أصبح معافى في بدنه، آمنا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) هكذا أورده صاحب القوت، وقد رواه الطبراني في الكبير من حديث أبي الدرداء بهذا السياق، ولم يقل بحذافيرها، وفي آخره زيادة، ورواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وقال: حسن غريب، وابن ماجه والطبراني من رواية سلمة بن عبيد الله بن محيص الخطمي عن أبيه رفعه: من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا. وقد تقدم في كتاب الكسب والمعاش .




الخدمات العلمية