الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : فهلا فوضت هذه الأفعال إلى ملك واحد ، ولم افتقر إلى سبعة أملاك ، والحنطة أيضا تحتاج إلى من يطحن أولا ثم إلى من يميز عنه النخالة ويدفع الفضلة ثانيا ، ثم إلى من يصب الماء عليه ثالثا ثم إلى من يعجن رابعا ، ثم إلى من يقطعه كرات مدورة خامسا ، ثم إلى من يرقها رغفانا عريضة سادسا ، ثم إلى من يلصقها بالتنور سابعا ، ولكن قد يتولى جميع ذلك رجل واحد يستقل به فهلا كانت أعمال الملائكة باطنا كأعمال الإنس ظاهرا ؟ فاعلم أن خلقة الملائكة تخالف خلقة الإنس ، وما من واحد منهم إلا وهو وحداني الصفة ليس فيه خلط وتركيب البتة ، فلا يكون لكل واحد منهم إلا فعل واحد ، وإليه الإشارة بقوله تعالى وما منا إلا له مقام معلوم : فلذلك ليس بينهم تنافس وتقاتل ، بل مثالهم في تعين مرتبة كل واحد منهم وفعله ؛ مثال : الحواس الخمس ، فإن البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ولا الشم يزاحمها ولا هما يتنازعان الشم وليس كاليد والرجل فإنك قد تبطش بأصابع الرجل بطشا ضعيفا فتزاحم به اليد وقد تضرب غيرك برأسك فتزاحم اليد التي هي آلة الضرب ولا كالإنسان الواحد الذي يتولى بنفسه الطحن والعجن والخبز ، فإن هذا نوع من الاعوجاج والعدول : عن العدل سببه اختلاف صفات الإنسان واختلاف دواعيه ، فإنه ليس وحداني الصفة ، فلم يكن وحداني الفعل ؛ ولذلك نرى الإنسان يطيع الله مرة ، ويعصيه أخرى ، لاختلاف دواعيه وصفاته ، وذلك غير ممكن في طباع الملائكة ، بل هم مجبولون على الطاعة لا مجال للمعصية في حقهم ، فلا جرم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون و يسبحون الليل والنهار لا يفترون . والراكع منهم راكع أبدا ، والساجد منهم ساجد أبدا ، والقائم قائم أبدا ، لا اختلاف في أفعالهم ، ولا فتور ، ولكل واحد مقام معلوم لا يتعداه وطاعتهم لله تعالى ، من حيث لا مجال للمخالفة فيهم ، يمكن أن تشبه بطاعة أطرافك لك ، فإنك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان لم يكن للجفن الصحيح تردد واختلاف في طاعتك مرة ، ومعصيتك أخرى ، بل كأنه منتظر لأمرك ونهيك ينفتح وينطبق متصلا بإشارتك ، فهذا يشبهه من وجه ولكن يخالفه من وجه إذ الجفن لا علم له بما يصدر منه من الحركة فتحا وإطباقا ، والملائكة أحياء عالمون بما يعملون فإذا هذه نعمة الله عليك في الملائكة الأرضية ، والسماوية وحاجتك إليها في غرض الأكل فقط دون ما عداها من الحركات والحاجات كلها ، فإنا لم نطول بذكرها فهذه طبقة أخرى من طبقات النعم ، ومجامع الطبقات لا يمكن إحصاؤها فكيف آحاد ما يدخل تحت مجامع الطبقات ، فإذا قد أسبغ الله تعالى نعمه عليك ظاهرة وباطنة ثم قال وذروا ظاهر الإثم وباطنه فترك باطن الإثم مما لا يعرفه الخلق من الحسد وسوء الظن والبدعة وإضمار الشر للناس إلى غير ذلك من آثام القلوب هو الشكر للنعم الباطنة وترك الإثم الظاهر بالجوارح شكر للنعمة الظاهرة بل أقول : كل من عصى الله تعالى ، ولو فى طريفة واحدة ، بأن فتح جفنه مثلا حيث يجب غض البصر ، فقد كفر كل نعمة لله تعالى عليه في السموات والأرض وما بينهما ، فإن كل ما خلقه الله تعالى حتى الملائكة والسموات والأرض والحيوانات والنبات بجملته ، نعمة على كل واحد من العباد ، قد تم به انتفاعه ، وإن انتفع غيره أيضا به ، فإن لله تعالى في كل تطريفة بالجفن نعمتين في نفس الجفن ؛ إذ خلق تحت كل جفن عضلات ، ولها أوتار ورباطات متصلة بأعصاب الدماغ ، بها يتم انخفاض الجفن الأعلى وارتفاع الجفن الأسفل .

التالي السابق


(فإن قلت: فهلا فوضت هذه الأفعال) كلها (إلى ملك واحد، ولم افتقر إلى سبعة أملاك، والحنطة أيضا تحتاج إلى من يطحن أولا ثم إلى من يميز عنه النخالة ويدفع الفضلة ثانيا، ثم إلى من يصب الماء عليه) ثالثا (ثم إلى من يعجن رابعا، ثم إلى من يقطعه كرات مدورة خامسا، ثم إلى من يرققها رغفانا عريضة سادسا، ثم إلى من يلصقها بالتنور سابعا، ولكن قد يتولى جميع ذلك رجل واحد ويستقل به فهلا كانت أعمال الملائكة باطنا كأعمال الإنس ظاهرا؟ فاعلم أن خلقة الملائكة تخالف خلقة الإنس، وما من واحد منهم إلا وهو وحداني الصفة ليس فيه خلط وتركيب البتة، فلا يكون لكل واحد منهم إلا فعل واحد، وإليه الإشارة بقوله تعالى) حكاية عنهم [ ص: 126 ] إذ وصفوا بهم أنفسهم؛ إذ قالوا: ( وما منا إلا له مقام معلوم ) أي: فلا نتعداه (فلذلك ليس بينها تنافس وتقاتل، بل مثالهم في تعيين مرتبة كل واحد وفعله؛ مثال: الحواس الخمس، فإن البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات) فإنه ليس من إدراكاته (ولا الشم يزاحمهما) فيما خصا به (ولا هما ينازعان الشم) فيما خص به (وليس كاليد والرجل فإنك قد تبطش بأصابع الرجل بطشا ضعيفا فتزاحم به اليد) فإن الرجل إنما وضعت ليمشي بها، وليس من خواصها البطش، وإنما هو لليد، (وقد تضرب غيرك برأسك فتزاحم اليد التي هي آلة الضرب) كما هو عادة المغاربة. (ولا كالإنسان الواحد الذي يتولى بنفسه الطحن والعجن والخبز، فإن هذا نوع من الاعوجاج والعدول) أي: الصرف (عن) طريق (العدل سببه اختلاف صفات الإنسان واختلاف دواعيه، فإنه ليس وحداني الصفة، فلم يكن وحداني الفعل؛ ولذلك ترى الإنسان يطيع الله مرة، ويعصيه أخرى، لاختلاف دواعيه وصفاته، وذلك غير ممكن في طباع الملائكة، بل هم مجبولون على الطاعة لا مجال للمعصية في حقهم، فلا جرم) هم كما وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز: ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) كما قال تعالى: ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون . والراكع منهم راكع أبدا، والساجد منهم ساجد أبدا، والقائم منهم قائم أبدا، لا اختلاف في أفعالهم، ولا فتور، ولكل واحد مقام معلوم لا يتعداه) .

وقد روى أبو الشيخ في العظمة، والبيهقي والخطيب وابن عساكر، من حديث رجل من الصحابة: "إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافته، ما منهم ملك تقطر من عينه دمعة إلا وقعت ملكا قائما يسبح، وملائكة سجودا، منذ خلق الله السموات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وصفوفا لم ينصرفوا عن مصافهم، ولا ينصرفون إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم فنظروا إليه، وقالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك". وروى الديلمي من حديث ابن عمر: "إن لله ملائكة في السماء الدنيا خشوعا منذ خلقت السموات والأرض إلى أن تقوم الساعة، يقولون: سبحان ذي الملكوت، فإذا كان يوم القيامة يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، ولله ملائكة في السماء الثانية ركوعا منذ خلقت السموات والأرض إلى أن تقوم الساعة، فإذا كان يوم القيامة يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، ولله ملائكة في السماء السادسة سجودا منذ خلقت السموات والأرض إلى أن تقوم الساعة يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك".

(وطاعتهم لله تعالى، من حيث لا مجال للمخالفة فيهم، يمكن أن تشبه بطاعة أطرافك لك، فإنك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان لم يكن للجفن الصحيح تردد واختلاف في طاعتك مرة، ومعصيتك أخرى، بل كان منتظرا لأمرك ونهيك ينفتح وينطبق متصلا بإشارتك، فهذا يشبهه من وجه لكن يخالفه من وجه) آخر (إذ الجفن لا علم له بما يصدر منه من الحركة فتحا وإطباقا، والملائكة أحياء عالمون بما يفعلون) ولا يلزم من التشبيه أن يكون المشبه عين المشبه به من سائر الوجوه كما هو المقرر .

(فإذا هذه نعمة الله عليك في الملائكة الأرضية والسمائية، وحاجتك إليهما في غرض الأكل فقط دون ما عداها من الحركات والحاجات كلها، فإنا لم نطول بذكرها فهذه طبقة أخرى من طبقات النعم، ومجامع الطبقات لا يمكن إحصاؤها فكيف آحاد ما يدخل تحت مجامع الطبقات، فإذا قد أسبغ الله تعالى نعمه عليك ظاهرة وباطنة ثم قال) تعالى: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ففيه تنبيه لأولي الألباب الذين وصل لهم القول ليتذكروا أن [ ص: 127 ] يذروا ظاهر الإثم شكرا لظاهر النعم، ويذروا باطن الإثم شكرا لباطن النعم. (فترك باطن الإثم مما لا يعرفه الخلق من الجسد وسوء الظن والبدعة) المخالفة (وإضمار الشر للناس إلى غير ذلك من آثام القلوب) مما تقدم ذكرها (هو الشكر للنعم الباطنة) مثل معافاة القلوب، وسلامة العقود. (وترك الإثم الظاهر بالجوارح) من معاني حظوظ النفوس (شكر للنعمة الظاهرة) مثل عوافي الأجسام، ووجود الكفايات من الأموال. (بل أقول: كل من عصى الله تعالى، ولو في تطريفة واحدة، بأن فتح جفنه مثلا حيث يجب غض البصر، فقد كفر كل نعمة لله تعالى عليه في السموات والأرض وما بينهما، فإن كل ما خلقه الله تعالى حتى الملائكة والسموات والأرض والحيوان والنبات بجملته، نعمة على كل واحد من العباد، قد تم به انتفاعه، وإن انتفع غيره أيضا به، فإن لله تعالى في كل تطريفة بالجفن نعمتين في نفس الجفن؛ إذ خلق تحت كل جفن عضلات، ولها أوتار ورباطات متصلة بأعصاب الدماغ، بها يتم انخفاض الجفن الأعلى وارتفاع الجفن الأسفل) .



اعلم أن منفعة العضل أن الإنسان إذا أراد أن يقرب عضوا من آخر حرك العضل، فتشنجت وزاد في عرضها، ونقص من طولها، وإذا أراد التبعيد حركها فاسترخت وزاد في طولها، ونقص في عرضها، فحصل المقصود. والعضو الذي يحرك عضوا كبيرا يكون كبيرا كالذي في الفخذ، والذي يحرك عضوا صغيرا يكون صغيرا كالعضلات المحركة للأجفان العليا، فإنها صغار جدا، وليس لها أوتار. فإذا علمت ذلك فللعين أربع وعشرون عضلة ثلاثة لتحريك الجفن، رأسها معلق في العظم الحاوي للعين، ووترها يميز في وسط طي الغشاء الذي يكون منه الجفن، ويتصل بوسط حافة الجفن وهو يفتحه، والثانية والثالثة موضوعتان في موق العين، مدفونتان في حفرتها ووتراهما يأتيان حافة الجفن ويتصلان به من جانبه، وهما يغمضان العين بإطباقهما الجفن، وذلك إذا فعل كل منهما فعلها، فإن نال إحداهما آفة انطبق بعض الجفن ويبقى باقيه مفتوحا وواحدة وقيل: ثنتان، وقيل: ثلاثة، قد عم العصبة المجوفة التي يكون بها البصر وتثبتها حتى لا تنالهما بسبب لينها عند التحديق الشديد أن تنقطع، وست عضلات تحرك العين أربعة إلى الاستقامة الواحدة تميلها إلى فوق، والثانية تحفظها إلى أسفل، والثالثة تحركها يمنة، والرابعة تحركها يسرة، واثنتان على الاستدارة. فهذه عشرة أو إحدى عشرة أو اثنتا عشرة لعين وللأخرى مثلها .




الخدمات العلمية