الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال إذا سألتم الله فأعظموا الرغبة ، واسألوا الفردوس الأعلى ، فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء

وقال بكر بن سليم الصواف دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها ، فقلنا : يا أبا عبد الله ، كيف تجدك ؟ قال : لا أدري ما أقول لكم : إلا أنكم ستعاينون من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب ، ثم ما برحنا حتى أغمضناه

وقال يحيى بن معاذ في مناجاته : يكاد رجائي لك من الذنوب يغلب رجائي إليك مع الأعمال ، لأني أعتمد في الأعمال على الإخلاص ، وكيف أحرزها : وأنا بالآفة معروف ، وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك ، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف

وقيل : إن مجوسيا استضاف إبراهيم الخليل عليه : الصلاة والسلام فقال إن أسلمت أضفتك فمر المجوسي :

فأوحى الله تعالى إليه : يا إبراهيم ، لم تطعمه إلا بتغيير دينه ، ونحن من سبعين سنة نطعمه على كفره ، فلو أضفته ليلة ماذا كان عليك فمرإبراهيم يسعى خلف المجوسي فرده ، وأضافه ، فقال له المجوسي : ما السبب فيما : بدا لك ؟! فذكر له فقال له المجوسي : أهكذا يعاملني ؟! ثم قال : : اعرض علي الإسلام فأسلم

ورأى الأستاذ أبو سهل الصعلوكي أبا سهل الزجاجي في المنام ، وكان يقول بوعيد الأبد : فقال له : كيف حالك ؟ فقال : وجدنا الأمر أهون مما توهمنا

ورأى بعضهم أبا سهل الصعلوكي في المنام على هيئة حسنة لا توصف ، فقال له : يا أستاذ بم نلت هذا ؟ فقال : بحسن ظني بربي

وحكي أن أبا العباس بن سريج رحمه الله تعالى رأى في مرض موته في منامه كأن القيامة قد قامت ، وإذا الجبار سبحانه يقول : أين العلماء ؟ قال : فجاءوا ثم قال : ماذا عملتم فيما علمتم ؟ قال : فقلنا يا رب قصرنا وأسأنا ، قال : فأعاد السؤال كأنه لم يرض بالجواب وأراد جوابا غيره ، فقلت : أما أنا فليس في صحيفتي الشرك ، وقد وعدت أن تغفر ما دونه فقال : اذهبوا به فقد غفرت لكم . ومات بعد ذلك بثلاث ليال

وقيل كان رجل شريب : جمع قوما من ندمائه : ودفع إلى غلامه أربعة دراهم ، وأمره أن يشتري شيئا من الفواكه للمجلس : فمر الغلام بباب مجلس منصور بن عمار وهو يسأل لفقير شيئا ، ويقول : من دفع إليه أربعة دراهم دعوت له أربع دعوات ، قال : فدفع الغلام إليه الدراهم فقال منصور : ما الذي تريد أن أدعو لك فقال : لي سيد أريد أن أتخلص منه فدعا منصور وقال : الأخرى

قال أن يخلف الله علي دراهمي فدعا ثم قال : الأخرى، قال أن يتوب الله على سيدي فدعا ثم قال : الأخرى فقال : أن يغفر الله لي ولسيدي ولك وللقوم : فدعا منصور فرجع الغلام فقال له سيده : لم أبطأت ؟ فقص عليه القصة ، قال وبما دعا ؟ فقال: سألت لنفسي العتق : فقال له اذهب فأنت حر قال : وأيش الثاني : قال : أن يخلف الله علي الدراهم قال لك أربعة آلاف درهم ، وأيش الثالث ؟ قال : أن يتوب الله عليك ، قال : تبت إلى الله تعالى ، قال : وأيش الرابع ؟ قال : أن يغفر الله لي ولك وللقوم : قال : هذا الواحد ليس إلي فلما بات تلك الليلة رأى في المنام كأن قائلا يقول له أنت فعلت ما كان إليك أفترى أني لا أفعل ما إلي قد غفرت لك وللغلام ولمنصور بن عمار وللقوم الحاضرين أجمعين وروي عن عبد الوهاب بن عبد الحميد الثقفي قال : رأيت ثلاثة من الرجال وامرأة ، يحملون جنازة ، قال : فأخذت مكان المرأة ، وذهبنا إلى المقبرة ، وصلينا عليها ، ودفنا الميت ، فقلت للمرأة : من كان هذا الميت منك ؟ قالت : ابني ، قلت : ولم يكن لكم جيران قالت : بلى ، ولكن صغروا أمره قلت : وأيش كان هذا ؟ قالت : مخنثا قال : فرحمتها وذهبت بها إلى منزلي ، وأعطيتها دراهم ، وحنطة ، وثيابا ، قال : فرأيت تلك الليلة كأنه أتاني آت كأنه القمر ليلة البدر ، وعليه ثياب بيض ، فجعل ، يتشكرني فقلت : من أنت ؟ فقال : المخنث الذي دفنتموني اليوم رحمني ربي باحتقار الناس إياي

وقال إبراهيم الأطروش كنا قعودا ببغداد مع معروف الكرخي على دجلة إذ مر أحداث : في زورق : يضربون بالدف ، ويشربون ويلعبون فقالوا لمعروف : أما تراهم يعصون الله مجاهرين ، ادع الله عليهم ، فرفع يديه وقال : : إلهي كما فرحتهم في الدنيا ففرحهم في الآخرة ، فقال القوم : إنما سألناك أن تدعو عليهم ، فقال : إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم وكان بعض السلف يقول في دعائه : يا رب وأي أهل دهر : لم يعصوك ثم كانت نعمتك عليهم سابغة : ورزقك عليهم دارا : سبحانك ما أحلمك ! وعزتك إنك لتعصى ثم تسبغ النعمة ، وتدر الرزق ، حتى كأنك يا ربنا لا تغضب .

التالي السابق


(وقال) صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله فأعظموا الرغبة، وسلوا الفردوس الأعلى، فإن الله لا يتعاظمه شيء) قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي هريرة: إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم وليعظم الرغبة، فإن الله عز وجل لا يتعاظمه شيء أعطاه. وللبخاري من حديث أبي هريرة في أثناء حديث: فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة. ورواه الترمذي من حديث معاذ وعبادة بن الصامت، انتهى .

قلت: ولفظ القوت: ومن الرجاء افتعال الطاعات، وحسن الموافقات، ينوي بها ويسأل مولاه الكريم، عظيم الرغائب، وجليل المواهب، لما وهب له من حسن الظن به، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا سألتم الله تعالى فأعظموا الرغبة، وسلوه الفردوس الأعلى، فإن الله لا يتعاظمه شيء. وفي حديث آخر: فأكثروا وسلوا الدرجات العلى فإنما تسألون جوادا كريما. اهـ. أما [ ص: 189 ] حديث أبي هريرة عند مسلم فقد رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي سعيد، وروى ابن أبي شيبة والشيخان والنسائي من حديث أنس: إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة في الدعاء، ولا يقل: اللهم إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له. وروى ابن حبان من حديث أبي هريرة: إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة، فإنه لا يتعاظم على الله شيء. وروى الطبراني من حديث العرباض: إذا سألتم الله تعالى فسلوه الفردوس؛ فإنه سر الجنة. وروى ابن حبان من حديث عائشة: إذا سأل أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه. وروى عبد بن حميد في تفسيره والطبراني والحاكم وصححه وتعقب وابن مردويه من حديث أبي أمامة: سلوا الله الفردوس؛ فإنها سرة الجنة... الحديث .

(وقال بكر بن سليم الصواف) أبو سليمان الطائفي، سكن المدينة، مقبول، روى له البخاري في الأدب المفرد، وابن ماجه (دخلنا على) أبي عبد الله (مالك بن أنس) الإمام رضي الله عنه (في الغشية التي قبض فيها، فقلنا: يا أبا عبد الله، كيف تجدك؟ قال: لا أدري ما أقول لكم) أي: مما رأيت الآن من إكرام الله لي، ومن صور الملائكة الذين يعالجون الروح، بحيث عجزت أن أعبر عنه بلساني (إلا أنكم ستعاينون من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب، ثم ما برحنا) من مكاننا (حتى أغمضناه) . هكذا هو في القوت، وهو في كتاب حسن الظن بالله لأبي بكر بن أبي الدنيا، ومن طريقه أخرجه القشيري في الرسالة فقال: وسمعته، يعني أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: حدثنا أبو العباس البغدادي حدثنا الحسن بن صفوان حدثنا ابن أبي الدنيا قال: حدثت عن بكر بن سليم الصواف قال: دخلنا على مالك بن أنس فساقه .

(وقال يحيى بن معاذ) الرازي رحمه الله تعالى (في مناجاته: يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي إياك مع الأعمال، لأني أعبد) هكذا في النسخ، ولفظ الرسالة: لأني أجدني أعتمد (في الأعمال على الإخلاص، وكيف أحرزها) أي: أحفظها من الآفة (وأنا بالآفة) من الرياء والعجب والكبر وغيرها (معروف، وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف) . هكذا أورده القشيري في الرسالة. (وقيل: إن مجوسيا استضاف إبراهيم الخليل عليه السلام) أي: طلب منه أن يضيفه (فقال) له: إن (أسلمت استضفتك) كذا في النسخ، والأولى: أضفتك، كما هو نص الرسالة (فمر المجوسي) أي: جاوزه، وهو يقول: إذا أسلمت أي منة تكون لك علي؟! (فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم، لم تطعمه إلا بتغيير دينه، ونحن) من منذ (سبعين سنة نطعمه على كفره، فلو أضفته ليلة ماذا كان عليك) من الحرج؟! (فمر إبراهيم) عليه السلام (يسعى خلف المجوسي فرده، وأضافه، فقال له المجوسي: ما السبب فيما) أي: في الذي (بدا لك؟! فذكر له) ذلك (فقال له المجوسي: أهكذا يعاملني؟!) وفي رواية: نعم الرب رب يعاتب نبيه في عدوه (ثم قال: اعرض علي الإسلام) فعرضه عليه (فأسلم) .

وجه تعلق هذا بالرجاء أنه تعالى يجعل الأسباب الضعيفة موصلة لغفران الذنوب العظيمة، فإذا علم العبد بذلك تعلق قلبه بمحبوبه من جلب نفع أو دفع ضر، وفيما ذكره إشارة إلى أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة حيث بسطها لأعدائه، وبسط رحمته الدنيوية تعم الكافر والمسلم، بخلاف الأخروية، كما قال تعالى: وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ، ولما رأى المجوسي فضل الله تعالى عليه في معاتبته نبيه لأجل عدوه، وشكر ذلك، جازاه بتوفيقه الإسلام .

(و) قال القشيري في الرسالة: سمعت الشيخ أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى يقول: (رأى الأستاذ أبو سهل) محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن هارون بن موسى بن عيسى العجلي (الصعلوكي) بفتح الصاد وسكون العين المهملتين (النيسابوري) إمام الشافعية في عصره، تفقه على أبي علي الثقفي بنيسابور، وروى عن أبي بكر بن خزيمة، وأبي العباس السراج، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وعنه الحاكم أبو عبد الله، وأبو حفص عمر بن أحمد بن مسرور، والزاهد، وتوفي سنة 396 عن ثلاث وسبعين بنيسابور (أبا سهل الزجاجي في المنام، وكان يقول بوعيد الأبد) أي: يعتقد بأن الله تعالى إذا توعد على معصية بعقاب فلابد من وقوعه، وهو غفلة منه عن شرطه، فإن ذلك يغفره إذا شاء كما قال: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، (فقال له: كيف حالك؟ فقال: وجدنا الأمر أهون) وفي رواية: أسهل (مما توهمنا) يحتمل أن يكون الله غفر له اعتقاده [ ص: 190 ] المذكور لغفلته عن شرطه، ويحتمل أنه تاب عن اعتقاده قبل موته، ولم يعلم الرائي حاله، فلما رآه في المنام وسأله عن حاله أخبره بما ذكر. (ورأى بعضهم أبا سهل الصعلوكي في المنام) ولفظ الرسالة: سمعت أبا بكر بن أشكيب يقول: رأيت أبا سهل الصعلوكي في المنام (على هيئة حسنة لا توصف، فقال له: بم نلت هذا؟ فقال: بحسن ظني بربي بحسن ظني بربي) مرتين، هكذا أورده القشيري في كتاب الرجاء، ثم أعاده في آخر الكتاب .

(وحكي أن أبا العباس) أحمد بن عمر (بن سريج) بسين مضمومة، وآخره جيم، البغدادي، أحد أئمة الشافعية (رحمه الله تعالى رأى في مرض موته في منامه كأن القيامة قد قامت، وإذا الجبار تعالى سبحانه وتعالى يقول: أين العلماء؟ قال: فجاؤوا، ثم قال: ماذا عملتم فيما علمتم؟ قال: فقلنا يارب قصرنا وأسأنا، قال: فأعاد السؤال كأنه لم يرض بالجواب وأراد جوابا غيره، فقلت: أما أنا فليس في صحيفتي الشرك، وقد وعدت أن تغفر ما دونه) وذلك قوله تعالى: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (فقال: اذهبوا به فقد غفرت لكم. ومات بعد ذلك بثلاث ليال) . حكاه القشيري في الرسالة، وفيه دلالة على جواز الغفران لمن لم يشرك بالله كالآية التي أشار إليها، وهي بشرى عظيمة لابن سريج، وهو أنه مغفور له، وقد اعترف هو ومن معه بالتقصير، ومن اعترف بتقصيره رجا المغفرة .

(وقيل كان رجل شريب) أي: كثير الشرب للخمر (جمع قوما من ندمائه) أي: جماعة ممن ينادمونه في الشرب (ودفع إلى غلامه) وكان صالحا ينكر عليه ذلك (أربعة دراهم، وأمره أن يشتري) بها (شيئا من الفواكه للمجلس) أي: لأهل مجلسه (فمر الغلام بباب مجلس) الشيخ أبي السري (منصور بن عمار) الواعظ، أصله من مرو، وأقام بالبصرة، وكان من المذكرين، ترجمه القشيري في الرسالة (وهو يسأل لفقير شيئا، ويقول: من دفع إليه أربعة دراهم دعوت له أربع دعوات، قال: فدفع إليه الغلام الدراهم) لأنه رأى أن هذا أولى مما أمر به سيده، وهان عليه مشقة الضرب والألم من سيده، حتى لا يقع في هذا المنكر الشديد، وظن منصور أنه مالك الدراهم (فقال) له (منصور: ما الذي تريد) مني (أن أدعو لك) به؟ (فقال: لي سيد أريد أن أتخلص منه) بالعتق لأخلص مما يدخلني فيه مما لا أحبه، (فدعا) له (منصور) بذلك (وقال: ما) الدعاء (الآخر، فقال: أن يخلف) الله (علي دراهمي) التي دفعتها للفقير وأردها إلى سيدي، وأقول: لا أعصي ما أمرتني به، (فدعا) له بذلك (ثم قال) له: (ما) الدعاء (الآخر؟ فقال: أن يتوب الله على سيدي) بأن يوفقه للتوبة مما هو مرتكبه لأستريح من ضرره بالكلية، (فدعا) بذلك، (ثم قال: وما الآخر؟ فقال: أن يغفر الله لي ولسيدي ولك وللقوم) أي: جلسائه (فدعا منصور) بذلك. (فرجع الغلام) إلى سيده (فقال له سيده: لم أبطأت؟ فقص عليه القصة) فأثر فيه صدقه، واستحسن فعله (فقال: وبما دعا؟ قال: سألت لنفسي العتق) فدعا لي به (قال: اذهب فأنت حر) لوجه الله تعالى، (قال: وأيش) المدعو به (الثاني) أي: أي شيء هو؟ (قال: أن يخلف الله علي الدراهم) لأردها لك (قال لك أربعة آلاف درهم، قال: وأيش الثالث؟ قال: أن يتوب الله عليك، قال: تبت إلى الله تعالى، قال: وأيش الرابع؟ قال: أن يغفر الله لي ولك وللقوم وللمذكر) أي: الواعظ وهو منصور (قال: هذا الواحد ليس إلي) بل إلى الله تعالى (فلما بات تلك الليلة رأى في المنام كأن قائلا يقول) له: (أنت فعلت ما كان إليك أفترى أني لا أفعل ما إلي قد غفرت لك وللغلام ولمنصور بن عمار وللقوم الحاضرين أجمعين) . أورده هكذا القشيري في الرسالة، وفيه دلالة على أنه تعالى أكرم الأكرمين، وأنه يجازي بالخير الكثير على العمل اليسير، وهو وضع الاستدلال على الرجاء؛ لأن سيد الغلام لما تكرم باليسير غفر الله له ولغلامه ولمن كان سببا في ذلك .

(وروي عن) أبي محمد (عبد الوهاب بن عبد المجيد) بن الصلت بن عبيد الله بن الحكم بن أبي العاص [ ص: 191 ] (الثقفي) البصري، قدم بغداد في زمن المنصور، وحدث بها، قال: ابن معين ثقة، مات سنة أربع وتسعين ومائة، روى له الجماعة (قال: رأيت ثلاثة من الرجال، وامرأة، يحملون جنازة، قال: فأخذت مكان المرأة، وذهبنا إلى المقبرة، وصلينا عليها، ودفنا الميت، فقلت للمرأة: ما كان هذا الميت منك؟) أي: ما نسبته منك؟ (قالت:) هو (ابني، قلت: ولم يكن لكم جيران) يحملونها؟ (قالت: بلى، ولكن صغروا بأمره) وحقروه، (قلت: وأيش كان هذا؟ قالت:) هو (مخنث) بالمثلثة وبكسر النون وبفتحهما، (قال: فرحمتها وذهبت بها إلى منزلي، وأعطيتها دراهم، وحنطة، وثيابا، قال:) ونمت (فرأيت تلك الليلة كأنه أتاني آت كأنه القمر ليلة البدر، وعليه ثياب بيض، فجعل يتشكر لي، فقلت له: من أنت؟ فقال:) أنا (المخنث الذي دفنتموني) اليوم (رحمني ربي باحتقار الناس إياي) وكلامهم في. حكاه القشيري في الرسالة، وفيه دلالة على أنه تعالى يجازي بالخير الكثير على العمل اليسير.

(وقال) القشيري في الرسالة: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا بكر الحربي يقول: سمعت (إبراهيم الأطروش) يقول: (كنا قعودا ببغداد مع) أبي محفوظ (معروف) بن فيروز (الكرخي) قدس سره (على الدجلة) وهي نهر ببغداد (إذ مر بنا أحداث) أي: شبان (في زورق) أي: سفينة صغيرة (يضربون بالدف، ويشربون) الخمر، (ويلعبون) بالملاهي، (فقالوا لمعروف: أما تراهم) كيف (يعصون الله مجاهرين، ادع الله عليهم، فرفع يديه وقال: إلهي كما فرحتهم في الدنيا ففرحهم في الآخرة، فقال القوم: إنما سألناك أن تدعو عليهم، فقال: إذا فرحهم في الآخرة فقد تاب عليهم) أي: وإذا تابوا زال عنكم ما تكرهون فيحصل مطلوبكم من الدعاء عليهم. وهذا من كمال المعرفة والسياسة في تغيير المنكر الذي لا يتمكن العبد من إزالته بقوة الجاه والسطوة فسلك معروف في إزالته مسلك السؤال، وطلب الفضل من الله في أن يغير أحوالهم عما هي عليه، لأنه تعالى هو الفاعل بهم ما هم فيه فقال ما قال، فأعلمهم بذلك أن التغيير في هذا الوقت لمثل هؤلاء إنما هو بالدعاء لهم بالتوبة، وبين ذلك بقوله: إذا فرحهم في الآخرة فقد تاب عليهم .

(وكان بعض السلف يقول في دعائه: يا رب وأي أهل دهر) أي: زمان (لم يعصوك ثم كانت نعمتك عليهم سابغة) أي: تامة (ورزقك عليهم دارا) أي: واسعا متصلا (سبحانك ما أحلمك! وعزتك إنك لتعطي ثم تسبغ النعمة حتى كأنك يا ربنا إنما تطاع، سبحانك ما أحلمك، تعصى وتدر الرزق وتسبغ النعمة، حتى كأنك يا ربنا لا تغضب) .



وقد بقي مما يتعلق بالرجاء، من كتابي القوت والرسالة وغيرهما، مما لم يذكره المصنف، وقد أحببت أن أسوقه لتمام الفائدة. قال صاحب القوت عن بعض السلف: كل عاص فإنه يعصي تحت كنف الرحمن، فمن ألقى عليه كنفه ستر عورته، ومن رفع عنه كنفه افتضح. والرجاء اسم لقوة الطمع في الشيء بمنزلة الخوف اسم لقوة الحذر من الشيء؛ ولذلك أقام الله الطمع مقام الرجاء في التسمية، وأقام الحذر مقام الخوف، فقال تعالى: يدعون ربهم خوفا وطمعا ، وقال تعالى: يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه . وهو وصف من أوصاف المؤمنين، وخلق من أخلاق الإيمان لا يصح إلا به، كما لا يصح الإيمان إلا بالخوف، فالرجاء بمنزلة أحد جناحي الطائر لا يطير إلا بجناحيه، كذلك لا يؤمن حتى يرجو من آمن به ويخافه. وكان ابن مسعود يحلف بالله: ما أحسن عبد ظنه بالله إلا أعطاه الله ذلك؛ لأن الخير كله بيده، أي فإذا أعطاه حسن الظن به فقد أعطاه ما يظنه؛ لأن الذي حسن ظنه به هو الذي أراد أن يحققه له. وروينا عن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان الثوري يقول في قول الله تعالى: وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ، قال: أي أحسنوا بالله الظن.

والرجاء مقام جليل، وحال شريف نبيل، لا يصلح إلا للكرماء من أهل العلم والحياء، وهو حال يحول عليهم بعد مقام الخوف، يروحون به الكرب، ويستريحون إليه من مقارفة الذنب، ومن لم يعرف الخوف لم يعرف الرجاء، ومن لم يقم في مقامات الخوف لم يرفع إلى مقامات أهل الرجاء على صحة وصفاء. ورجاء كل عبد من حقيقة خوفه، ومكاشفته عن أخلاق مرجوه من معنى ما كان كوشف به من صفات مخوفه، فإن كان أقيم مقام المخوفات من المخلوقات مثل الذنوب والعيوب والأسباب رفع من حيث تلك المقامات إلى مقامات الرجاء، بتحقيق الوعد، وغفران الذنب، وتشويق [ ص: 192 ] الجنان، وما فيها من الأوصاف الحسان، وهذه مواجهات أصحاب اليمين، وإن كان أقيم مقام مخاوف الصفات عن مشاهدة معاني الذات مثل سابق العلم، وسوء الخاتمة، وخفي المكر، وباطن الاستدراج، وبطش القدوة، وحكم الكبر، والجبرية، رفع من حيث هذه المقامات إلى مقام المحبة، والرضا، فرجا من معاني الأخلاق والأسماء الكرم، والإحسان، والفضل، والعطف، واللطف، والامتنان. وليس يصلح أن نخبر بكل ما نعلم من شهادة أهل الرجاء في مقامات الرجاء من قبل أنه لا يصلح لعموم المؤمنين، وهو يفسد من لم يرد به أشد الفساد، فليس يصلح إلا بخصوصه، ولا يجذب ولا يستجيب له من المحبين، ولا محبة إلا بعد نصح القلب من المخافة، فالمؤمن بين الخوف والرجاء، كالطائر بين جناحيه، وكلسان الميزان بين كفتيه، ومنه قول مطرف: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا .

وللمؤمن في اعتدال الخوف والرجاء مقامان: أعلاهما مقام المقربين، وهو ما حال عليهم من مقام مشاهدة الصفات المخوفة، والأخلاق المرجوة، والثاني مقام أصحاب اليمين، وهو ما عرفوه من بدائع الأحكام، وتفاوت الأقسام، من ذلك أنه تعالى أنعم على الخلق بفضله عن كرمه، اختيارا لا إجبارا، فلما أعلمهم ذلك رجوا تمام النعمة من حيث ابتدائها، ومن ههنا طمع السحرة في المغفرة لما ابتدؤوا بالإيمان فقالوا: إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ، أي من حيث جعلنا أول المؤمنين من هذا المكان نرجو بأن يغفر لنا بأن جعلنا مؤمنين به، فرجوه منه. وقد ذم الله تعالى عبدا أوجده نعمه ثم سلبها فليس من عودها عليه، فقال تعالى: ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ، ثم استثنى عباده الصابرين عليه الصالحين له فقال تعالى: إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات .

ثم إن الخلق خلقوا على أربع طبقات في كل طبقة طائفة، فمنهم من يعيش مؤمنا، ويموت مؤمنا، فمن ههنا رجاؤهم لأنفسهم وغيرهم من المؤمنين؛ إذ قد أعطاهم فرجوا أن يتم عليهم نعمته، وأن لا يسلبهم بفضل ما به بدأهم، ومنهم من يعيش مؤمنا، ويموت كافرا، فهذا موضع خوفهم عليه، وعلى غيرهم، لمكان علمهم بهذا الحكم، ولغيب حكم الله تعالى بعلمه السابق فيهم، ومن الناس من يعيش كافرا، ويموت مؤمنا، ومن الناس من يعيش كافرا، ويموت كافرا، فهذان الحكمان أوجبا رجاءهم الثاني للمشرك إذا رأوه فلم يقطعوا لظاهره أيضا خوف هذا الرجاء خوفا ثانيا أن يموت على تلك الحالة، وإن كان ذلك هو حقيقة عند الله تعالى .

فعلم المؤمن بهذه الأحكام الأربعة وزن خوفه ورجائه معا، فاعتدل حاله بذلك الاعتدال إيمانه به، وحكم على الخلق بالظاهر ووكل إلى علام الغيوب السرائر، ولم يقطع على عبد بظاهره من الشر بل يرجو له ما يظن عند الله من الخير، ولم يشهد لنفسه ولا لغيره بظاهر الخير، بل يخاف أن يكون قد استسر عند الله باطن شر، إلا أن حال التمام أن يخاف العبد على نفسه، ويرجو لغيره؛ لأن ذلك هو وجد المؤمنين من قبل أنهم مأمورون بحسن الظن، فهم يحسنون الظن بالناس، ويخرجون لهم المعاذير بسلامة الصدور، وتسليم ما غاب إلى من إليه تصير الأمور، ثم هم في ذلك يسيئون الظن بنفوسهم لمعرفتهم بصفاتها، ويوقعون الملام عليها، ولا يحتجون لها لباطن الإشفاق منهم عليهم، ولخوف التزكية منهم لهم، فمن غلب عليه هذان المعنيان فقد مكر به حتى يحسن الظن بنفسه، ويسيء ظنه بغيره، فيكون خائفا على الناس، راجيا لنفسه، عاذرا لنفسه، محتجا لها، لائما الناس ذاما لهم فهذه من أخلاق المنافقين .

ثم إن للراجي حالا من مقامه، وللحال علامة من رجائه، فمن علامة الرجاء عن مشاهدة المرجو دوام المعاملة، وحسن التقرب إليه، وكثرة التحبب بالنوافل، لحسن ظنه به، وجميل أمنه منه، وأنه يتقبل صالح ما أمر به تفضلا منه، من حيث كرمه، لا من حيث الواجب عليه، ولا الاستحقاق منا، فإنه أيضا يكفر سيئ ما عمله إحسانا منه، ورحمة من حيث لطفه بنا، وعطفه علينا، لأخلاقه السنية، والطاقة الخفية لا من حيث اللزوم بل من حيث حسن الظن به .



ومقام الرجاء كسائر مقامات اليقين منها فرض، ونفل، فعلى العبد فرض أن يرجو مولاه وخالقه، ومعبوده ورازقه، من حيث كرمه، وفضله، لا من حيث نظره إلى صفات نفسه، ولؤمه، وقد كان سهل يقول: من سأل الله شيئا فنظر إلى نفسه وأعماله لا يرى الإجابة حتى يكون ناظرا إلى الله وحده، وإلى لطفه، وكرمه، ويكون موقنا بالإجابة، ولا يقبل الله عملا، ولا دعاء إلا من موقن بالإجابة مخلص، فإذا شهد التوحيد، ونظر [ ص: 193 ] إلى الوحدانية له، فقد فتح له بابا من العبادة. ثم يتفاوت الراجون في فضائل الرجاء؛ فالمقربون منهم رجوا النصيب الأعلى من القرب والتجلي لمعاني الصفات مما عرفوه، وهذا من علمهم به، وأصحاب اليمين في الراجين رجوا النصيب الأوفر من مزيده، والفضل الأجزل من عطائه، يقينا بما وعد. ومن الرجاء انشراح الصدر بأعمال البر، وسرعة السبق، والمبادرة بها خوف فوتها، ورجاء قبولها، ثم مهاجرة السوء، ومجاهدة النفس، رجاء انتجاز الموعود، ومنه قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله .

ومن الرجاء كثرة التلاوة لكلام الله تعالى، وإقام الصلاة التي هي خدمة المعبود، وبذل المال سرا وعلانية، وأن لا يشتغل عن ذلك بتجارة الدنيا، كما وصف المحققين من الراجين؛ إذ يقول تعالى: إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور . ومن الرجاء القنوت في ساعات الليل، وهو طول القيام للتهجد والدعاء عند تجافي الجنوب عن المضاجع، لما وقر في الصدور والقلوب من المخاوف، وكذلك وصف الله تعالى الراجين بهذا في قوله: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، فسمى أهل الرجاء والحذر وأهل التهجد آناء الليل علماء، وحصل من دليل الكلام أن من لم يخف ولم يرج غير عالم لنفيه المساواة بينهما، وهذا مما حذف خبره اكتفاء بأحد وصفيه إذ في الكلام دليل عليه .

فالرجاء هو أول مقام من اليقين عند المقربين، وهو ظاهر أوصاف الصديقين، ولا يكمل في قلب عبد ولا يتحقق به صاحبه حتى تجتمع فيه هذه الأوصاف: الإيمان بالله، والمهاجرة إليه، والمجاهدة فيه، وتلاوة القرآن، وإقام الصلاة، والإنفاق في سبيل الله، ثم السجود آناء الليل، والقيام والحذر مع ذلك كله. فهذه جمل أوصاف الراجين، وهو أول أحوال الموقنين، ثم تتزايد الأعمال في ذلك ظاهرا وباطنا، بالجوارح والقلوب، عن تزايد الأنوار والعلوم ومكاشفات الغيوب بالأوصاف المرجوة .



وفصل الخطاب أن الخوف والرجاء طريقان إلى مقامين، فالخوف طريق العلماء إلى مقام العلم، والرجاء طريق العاملين إلى مقام العمل، وقد وصف الله الراجين مع الأعمال الصالحة لقوة رجائهم بالخوف تكملة لصدق الرجاء، وتتمة لعظيم الغبطة به، فقال تعالى مخبرا عنهم في حال وفائهم وأعمال برهم: إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ، وقال تعالى: يوفون بالنذر ويخافون يوما ، من قبل أن الخوف مرتبط بالرجاء فمن تحقق بالرجاء صارعه الخوف أن يقطع به دون ما رجاه، قال أهل العربية في قوله تعالى: قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله أي الذين لا يخافون عقوبات الله تعالى، فإذا كان هذا أمره بالمغفرة لمن لا يرجو فكيف يكون عفوه وفضله على من رجوه. وبعضهم يقول في معنى قوله تعالى: وترجون من الله ما لا يرجون أي تخافون منه ما لا يخافون، فلولا أنهما عند العلماء كشيء واحد ما فسر أحدهما بالآخر .

ومن الرجاء الأنس بالله تعالى في الخلوات، ومن الأنس به الأنس بالعلماء، والتقرب إلى الأولياء، وارتفاع الوحشة بمجالسة أهل الخير، وسعة الصدور والروح عندهم. ومن الرجاء سقوط ثقل المعاونة على البر والتقوى لوجود حلاوة الأعمال، والمسارعة إليها، والحث لأهلها عليها، والحزن على فوتها، والفرح بدركها. ومن الرجاء التلذذ بدوام حسن الإقبال، والتنعم بمناجاة ذي الجلال، وحسن الإصغاء إلى محادثة القريب، والتلطف في التملق للحبيب، وحسن الظن به في العفو الجميل، ومنال الفضل الجزيل. وقال بعض العارفين: للتوحيد نور، وللشرك نار، ونور التوحيد أحرق لسان الموحدين من نار الشرك لحسنات المشرك .

وقد كان يحيى بن معاذ يقول في مقامات الرجاء: إذا كان توحيد ساعة يحبط ذنوب خمسين سنة، فتوحيد خمسين سنة ماذا يصنع بالذنوب؟! وقد قال سهل: لا يصح الخوف إلا لأهل الرجاء. وقال مرة: العلماء مقطوعون إلا الخائفين، والخائفون مقطوعون إلا الراجين. وكان يجعل الرجاء مقاما في المحبة، وهو عند العلماء أول مقام المحبة ثم يعلو في الحب على قدر ارتفاعه في الرجاء وحسن الظن. وفي الخبر: إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم بما يفزعهم وينفرهم. وقال بشر الحافي: سكون النفس إلى المدح أضر عليها من المعاصي. ورأى يوسف بن الحسين مخنثا فأعرض عنه إزراء عليه، فالتفت المخنث إليه فقال:

[ ص: 194 ] وأنت أيضا يكفيك ما بك، ففزع من قوله، وقال: أي شيء تعلم بي؟ قال: لأن عندك أنك خير مني، فاعترف يوسف بذلك فتاب واستغفر .

وكان بعض الراجين يفهم من قوله تعالى إذا تلا: وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، يرجو بذلك بوادي الجود والكرم، والإحسان، ما لم يحتسبه في الدنيا قط. ويقال إن حملة العرش يتجاوبون بأصوات: سبحانك على حلمك بعد علمك، سبحانك على عفوك بعد قدرتك. فللراجين من العارفين فهوم من السمع للكلام نحو علو نظرهم عن سمو علومهم بمعاني الصفات، فكل صاحب مقام يشهد من مقامه، ويسمع من حيث شهادته، فأعلاهم شهادة الصديقين ثم الشهداء ثم الصالحين ثم خصوص المؤمنين، فبه تبارك وتعالى استدلوا عليه، وبه نظروا إليه، هم درجات عند الله، والله بصير بما يعملون. وكان سهل يقول: المؤمن يعيش في سعة الرحمة، والمؤمن يعيش في سعة الحلم. فصفاته تعالى كاملات، فمن شهد ترجيح بعضها على بعض دخل عليه النقص من مشاهدته، لقصور علمه عن تمام علم من فوقه من الشهداء، ولأجل مقامه المراد به دون طريق الصديقين من الأقوياء، فعاد ذلك على العبد، فصار مقاما له في القرب والبعد تعالى وصف المشهود عن النقصان والحسد .

ومثل الرجاء من الخوف مثل الرخصة من العزائم، وفي الخبر إن الله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، وفي لفظ آخر أبلغ من هذا وأوكد أن الله تعالى يحب أن تقبل رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته. وفي الخبر: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض نفسك إلى عبادة الله تعالى، وخير الدين أيسره. وقال: هلك المتعمقون، هلك المتنطعون. وفي أخبار داوود عليه السلام: إن الله تعالى نظر إليه منتبذا وحدانيا، فقال: ما لك وحدانيا؟ فقال: عاديت الخلق فيك، قال: أوما علمت أن محبتي أن تعطف على عبادي، وتأخذ عليهم بالفضل، هنالك أكتبك من أوليائي وأحبائي، ولا تنظر إلى عبيدي نظرة جفاء، ولا قسوة، فإذا أنت قد أبطلت أجرك فاحفظ عني ثلاثا: خالص حبيبي مخالصة، وخالق أهل الدنيا مخالقة، ودينك فقلدنيه. وروينا عن الضحاك: إن العبد ليدنو من ربه عند العرض فيقول له: عبدي أتحصي عملك؟ فيقول: إلهي كيف أحصيه من دونك وأنت الحافظ للأشياء، فيذكره الله تعالى جميع ذنوبه في الدنيا ويقول: لم أجعل للذنوب رائحة توجد منك، ولم أجعل في وجهك شبها، وأنا أغفرها لك اليوم على ما كان منك بإيمانك بي، وتصديق المرسلين .



ومن الرجاء شدة الشوق إلى ما شوق إليه الكريم، وسرعة التنافس في كل نفيس ندب إليه الرحيم، والأخبار في حقيقة الرجاء تزيد المغترين اغترارا، وتزيد المستدرجين بالستر والنعم خسارا، وهو مزيد التوابين الصادقين، وقرة عين للمحبين المخلصين، وسرور لأهل الكرم والحياء، وروح وارتياح لذوي العصمة والوفاء، ينصع به كرمهم، ويشتد عنده حياؤهم، وترتاح إليه عقولهم، فهؤلاء يستخرج منهم الرجاء وحسن الظن من العبادات ما لا يستخرجه الخوف، إن المخاوف تقطع عن أكثر المعاملات فصار الرجاء طريقا لأهله، وصاروا واجدين به، كما قال عمر رضي الله عنه: رحم الله صهيبا لو لم يخف الله لم يعصه. أي يترك المعاصي للرجاء لا للخوف، فصار الرجاء طريقه، فهؤلاء هم الراجون حقا، وهذه علامتهم، ولمثل هؤلاء ذكرنا الأسباب التي توجب الرجاء، وتولد حسن الظن في قلوب أهل الصفاء، المعصومين من الهوى، الموفقين لحسن خدمة المولى .

فهذه جمل أحكام الرجاء، وأوصاف الراجين، فمن تحقق بجميعها فقد استحق درجات أهل الرجاء، وهو عند الله تعالى من المقربين، ومن كان فيه وصف من هذه الأوصاف فله مقام من الرجاء. واعلم أن مقامات اليقين لا يزيل بعضها في بعض، فمن غلب عليه حال منها عن وجد مشاهدته وصف بما غلب عليه، واستحق ما سوى ذلك من المقامات فيه، ومن عمل بشرط مقام منها فقام بحكم الله فيه نقل إلى ما سواه، وكان المقام الأول له علما، والثاني الذي أقيم فيه له وجدا، فكتم الوجد لأنه سره، وعبر عن العلم لأنه قد جاوزه، فصار علانيته. ومقام الرجاء هو جند من جنود الله يستخرج من بعض العباد ما لا يستخرج غيره لأن بعض القلوب تلين وتستجيب عن مشاهدة الكرم والإحسان، ويقبل ويطمئن معاملة النعم والامتنان ما لا يوجد ذلك منها عند التخويف والترهيب بل قد [ ص: 195 ] يقطعها ذلك ويوحشها؛ إذ قد جعل الرجاء طريقها، فوجدت فيه قلوبها. إلى هنا انتهى كلام صاحب القوت، وقد حذفت منها أشياء كثيرة .

وقال القشيري في الرسالة: قال الله تعالى: من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت ، وأسند عن العلاء بن زيد قال: دخلت على مالك بن دينار فرأيت عنده شهر بن حوشب، فلما خرجنا من عنده قلت لشهر: يرحمك الله زودني زودك الله، فقال: نعم، حدثتني عمتي أم الدرداء عن أبي الدرداء عن نبي الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام قال: قال ربكم عز وجل: عبدي ما عبدتني ورجوتني ولم تشرك بي شيئا غفرت لك ما كان منك، ولو استقبلتني بملء الأرض خطايا وذنوبا استقبلتك بمثلهن مغفرة فأغفر لك ولا أبالي. وتكلموا في الرجاء فقال شاه الكرماني: علامة الرجاء حسن الطاعة، وقيل: الرجاء هو ثقة الجود من القديم، وقيل: هو النظر إلى سعة رحمة الله تعالى. وسئل أحمد بن عاصم الأنطاكي: ما علامة الرجاء في العبد؟ قال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان ألهم الشكر راجيا لتمام النعمة من الله عليه في الدنيا، وتمام عفوه في الآخرة. وقال أبو عبد الله بن خفيف: الرجاء استبشار بوجود فضله، وقيل: ارتياح القلوب لرؤية كرم المرجو المحبوب، وقيل: هو رؤية الجلال بعين الجمال، وقيل: هو قرب القلب من ملاطفة الرب، وقيل: سرور الفؤاد بحسن المعاد. وقال يحيى بن معاذ: إلهي أحلى العطايا في قلبي رجاؤك، وأعذب الكلام على لساني ثناؤك، وأحب الساعات إلي ساعة يكون فيها لقاؤك. وكلموا ذا النون المصري وهو في النزع فقال: لا تشغلوني فقد تعجبت من كثرة لطف الله تعالى معي. وأسند عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى ليضحك من يأس العباد وقنوطهم، وقرب الرحمة منهم، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أويضحك ربنا عز وجل؟! قال: والذي نفسي بيده إنه ليضحك، فقال لا يعدمنا خيرا إذا ضحك. ورؤي مالك بن دينار في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: قدمت على ربي بذنوب كثيرة محاها عني حسن ظني بالله تعالى. وقيل: كان ابن المبارك يقاتل علجا مرة، فدخل وقت صلاة العلج، فاستمهله فأمهله، فلما سجد للشمس أراد ابن المبارك أن يضربه بالسيف، فسمع من الهواء قائلا يقول: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ، فأمسك، فلما سلم المجوسي قال: لم أمسكت عما هممت به، فذكر له ما سمع، فقال المجوسي: نعم الرب رب يعاتب وليه في عدوه، وأسلم وحسن إسلامه. وقيل: إنما أوقعهم في الذنب حين سمى نفسه عفوا، وقيل: لو قال لا أغفر الذنوب لم يذنب مسلم قط، ولكنه لما قال: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء طمعوا في مغفرته .

وقيل: حج رياح القيسي حجات كثيرة، فقال يوما وقد وقف تحت الميزاب: إلهي وهبت من حجاتي كذا وكذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعشرة من أصحابه العشرة، واثنتين من والدي، والباقي من المسلمين، ولم يحبس شيئا لنفسه، فسمع هاتفا يقول: يا هذا تتسخى علينا؟! لأغفرن لك ولأبويك ولمن شهد شهادة الحق. سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: مر أبو عمرو البيكندي يوما بسكة فرأى قوما أرادوا إخراج شاب من المحلة لفساده، وامرأة تبكي، فقيل إنها أمه، فرحمها أبو عمرو، فتشفع له إليهم، وقال: هبوه مني في هذه المرة، فإن عاد إلى فساده فشأنكم وإياه، فوهبوه منه، فمضى أبو عمرو، فلما كان بعد أيام اجتاز بتلك السكة فسمع بكاء العجوز من وراء ذلك الباب، فقال في نفسه: لعل الشاب عاد إلى فساده فنفي من المحلة، فدق عليها الباب وسألها عن حال الشاب، فخرجت العجوز وقالت إنه مات، فسألها عن حاله، فقالت: لما قرب أجله قال لي: لا تخبري الجيران بموتي؛ فلقد آذيتهم؛ فإنهم سيشتموني ولا يحضرون جنازتي، فإذا دفنتيني؛ فهذا خاتم لي مكتوب عليه: بسم الله الرحمن الرحيم، فادفنيه معي، فإذا فرغت من دفني تشفعي لي إلى ربي، قالت: ففعلت وصيته، فلما انصرفت عن رأس قبره سمعت صوته يقول: انصرفي يا أماه؛ فقد قدمت على رب كريم. انتهى كلام القشيري.




الخدمات العلمية