الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثالث : أنه لا ينفك عن إيذاء المسئول غالبا لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء ففي البذل نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه وكلاهما مؤذيان والسائل هو السبب في الإيذاء والإيذاء حرام إلا بضرورة .

ومهما فهمت هذه المحذورات الثلاث فقد فهمت قوله : صلى الله عليه وسلم : مسألة الناس من الفواحش ما أحل من الفواحش غيرها فانظر كيف سماها فاحشة ولا يخفى أن الفاحشة إنما تباح لضرورة كما يباح شرب الخمر لمن غص بلقمة وهو لا يجد غيره .

وقال : صلى الله عليه وسلم : من سأل عن غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم ، ومن سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ووجهه عظم يتقعقع وليس عليه لحم وفي لفظ آخر كانت مسألته خدوشا وكدوحا في وجهه وهذه الألفاظ صريحة في التحريم والتشديد .

وبايع رسول الله : صلى الله عليه وسلم قوما على الإسلام فاشترط عليهم السمع والطاعة ثم قال لهم كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئا وكان : صلى الله عليه وسلم يأمر كثيرا بالتعفف عن السؤال ويقول : من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله ، ومن لم يسألنا فهو أحب إلينا وقال صلى الله عليه وسلم : استغنوا عن الناس وما قل من السؤال فهو خير ، قالوا : ومنك يا رسول الله ؟ قال : ومني وسمع عمر : رضي الله عنه : سائلا يسأل بعد المغرب فقال لواحد من قومه : عش الرجل فعشاه ثم سمعه ثانيا يسأل فقال : ألم أقل لك عش الرجل ؟ قال : قد عشيته ، فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا ، فقال : لست سائلا ولكنك تاجر ، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة ، وضربه بالدرة وقال : لا تعد .

ولولا أن سؤاله كان حراما لما ضربه ولا أخذ مخلاته ولعل الفقيه الضعيف المنة الضيق الحوصلة يستبعد هذا من فعل عمر ويقول : أما ضربه فهو تأديب وقد ورد الشرع بالتعزير وأما أخذه ماله فهو مصادرة ، والشرع لم يرد بالعقوبة بأخذ المال فكيف استجازه وهو ، استبعاد مصدره القصور في الفقه ، فأين يظهر فقه الفقهاء كلهم في حوصلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه واطلاعه على أسرار دين الله ومصالح عباده ، أفترى أنه لم يعلم أن المصادرة بالمال غير جائزة أو علم ذلك ولكن أقدم عليه غضبا في معصية الله وحاشاه أو أراد الزجر بالمصلحة بغير طريق شرعها نبي الله وهيهات فإن ذلك أيضا معصية ، بل الفقه الذي لاح له فيه أنه رآه مستغنيا عن السؤال وعلم أن من أعطاه شيئا فإنما أعطاه على اعتقاد أنه محتاج وقد كان كاذبا ، فلم يدخل في ملكه بأخذه مع التلبيس وعسر تمييز ذلك ورده إلى أصحابه ، إذ لا يعرف أصحابه بأعيانهم فبقي مالا لا مالك له ، فوجب صرفه إلى المصالح ، وإبل الصدقة وعلفها من المصالح ، ويتنزل أخذ السائل مع إظهار الحاجة كاذبا كأخذ العلوي بقوله : إني علوي وهو كاذب .

فإنه لا يملك ما يأخذه كأخذ ، الصوفي الصالح الذي يعطى لصلاحه وهو في الباطن مقارف لمعصية لو عرفها المعطي لما أعطاه وقد ، ذكرنا في مواضع أن ما أخذوه على هذا الوجه لا يملكونه وهو حرام عليهم ويجب عليهم الرد إلى مالكه فاستدل بفعل عمر رضي الله عنه : على صحة هذا المعنى الذي يغفل عنه كثير من الفقهاء وقد قررناه في مواضع ولا تستدل بغفلتك عن هذا الفقه على بطلان فعل عمر .

فإذا عرفت أن السؤال يباح لضرورة فاعلم أن الشيء إما أن يكون مضطرا إليه ، أو محتاجا إليه حاجة مهمة ، أو حاجة خفيفة ، أو مستغنى عنه ، فهذه أربعة أحوال .

التالي السابق


(الثالث: هو أنه لا ينفك عن إيذاء المسئول غالبا) لتردده بين العطاء والمنع; (لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه) وإنما يستحي أو يرائي، (فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ) بلا خلاف بين الأمة، وعلى هذا قولهم: ما أخذ بسيف المحاياة فهو حرام، (وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه) حينئذ (في صورة البخلاء ففي البذل) على الوجه المذكور (نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه وكلاهما مؤذيان) أحدهما في الظاهر والثاني في الباطن (والسائل هو السبب في الإيذاء) المذكور (والإيذاء حرام إلا لضرورة) فلأجل هذه [ ص: 304 ] المفاسد كان السؤال حراما في الأصل فلا يباح إلا لضرورة أو حاجة مهمة كما ذكر، وكل ذلك يحرم مع الغنى كما سيأتي ذلك (ومهما فهمت هذه المحذورات الثلاث فقد فهمت قوله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: مسألة الناس من الفواحش ما أحل) أي: ما أبيح (من الفواحش غيرها) .

قال العراقي: لم أجد له أصلا (فانظر كيف سماها فاحشة) وهي ما تفاحش جرمها فتوجب الحد في الدنيا والعذاب في العقبى (ولا يخفى أن الفاحشة إنما تباح لضرورة كما يباح شرب الخمر لمن غص بلقمة وهو لا يجد غيرها) أي: غير الخمر .

(وقال - صلى الله عليه وسلم -: من سأل عن غنى فإنما يتكثر من جمر جهنم، ومن سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة وجهه عظم يتقعقع ليس له لحم) قال العراقي: رواه أبو داود وابن حبان من حديث سهل بن حنظلة مقتصرا على ما ذكر منه، وتقدم في الزكاة، ولمسلم من حديث أبي هريرة: من سأل الناس أموالهم تكثرا، فإنما يسأل جمرا. الحديث، وللبزار والطبراني من حديث ابن مسعود وابن عمر: لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق. وفي إسناده لين، وللشيخين من حديث ابن عمر: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم. انتهى .

قلت: لفظ حديث سهل بن الحنظلية عند أبي داود وابن حبان: من سأل وعنده ما يكفيه فإنما يستكثر من جمر جهنم. ورواه كذلك أحمد وابن خزيمة وابن جرير والطبراني والحاكم والبيهقي وروى عبد الله بن أحمد في زوائد المسند من حديث علي: من سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم. وروى ابن حبان وابن شاهين وتمام والضياء من حديث عمر: من سأل ليثري ماله فإنما هو رضف من النار يلقمه من شاء، فليقل، ومن شاء فليكثر. ولفظ حديث أبي هريرة عند مسلم: من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمر جهنم فليستقل منه أو ليستكثر. وقد رواه كذلك أحمد وابن ماجه، وروى أحمد وابن جرير في التهذيب وابن قانع والطبراني وأبو نعيم والضياء من حديث حبشي بن جنادة: من سأل من غير فقر فإنما يأكل الجمر. وفي رواية لابن جرير والطبراني: من سأل الناس ليثري به ماله كان خموشا في وجهه ورضفا من جهنم يأكله يوم القيامة، فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر.

وفي رواية أخرى للطبراني: من سأل الناس في غير مصيبة جاءته فكأنما يلقم الرضفة. وقول المصنف: ومن سأل وله ما يغنيه. الحديث، يقرب منه ما رواه الديلمي من حديث أنس: من سأل الناس وعنده ما يكفيه جاء يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم.

(وفي لفظ آخر) : من سأل وله ما يغنيه (كانت مسألته خدوشا وكدوحا في وجهه) قال العراقي: رواه أصحاب السنن من حديث ابن مسعود، وتقدم في الزكاة. انتهى .

قلت: رواه أحمد بلفظ: من سأل مسألة وهو عنها غني جاءت يوم القيامة كدوحا في وجهه. وفي رواية له: من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح، ورواه كذلك أبو داود، ورواه كذلك أبو داود والترمذي؟ والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، والحاكم، والبيهقي، وحديث ابن عمر عن الشيخين: ما يزال الرجل يسأل. الحديث رواه أيضا النسائي كلهم من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه .

(وهذه الألفاظ صريحة في التحريم والتشديد وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوما على الإسلام فاشترط عليهم السمع والطاعة ثم قال لهم كلمة خفيفة) كذا في النسخ والصواب خفية: (ولا تسألوا الناس شيئا) رواه مسلم من حديث عوف بن مالك الأشجعي، وقد تقدم في كتاب ذم البخل وحب المال، وروى أبو داود والنسائي من حديث ثوبان: من يتكفل لي ألا يسأل الناس فأتكفل له بالجنة، فكان تسقط علاقة سوطه فلا يأمر أحدا يناوله إياه، وينزل هو فيأخذه.

(وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر كثيرا بالتعفف عن السؤال ويقول: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله تعالى، ومن لم يسألنا فهو أحب إلينا) قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في القناعة والحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري، وفيه حصين بن هلال لم أر من تكلم فيه وباقيهم ثقات. انتهى .

قلت: ورواه ابن جرير في تهذيبه بلفظ: من استعف أعفه الله ومن استغنى أغناه الله، ومن سألنا شيئا أعطيناه، ورواه أحمد والنسائي والبيهقي والضياء بلفظ: من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف (وقال [ ص: 305 ] - صلى الله عليه وسلم -: استغنوا عن الناس وما قل من السؤال فهو خير، قالوا: ومنك؟ قال: ومني) .

قال العراقي: رواه البزار والطبراني من حديث ابن عباس: استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك. وإسناده صحيح، وله في حديث لعدي الجذامي: فتعففوا ولو بحزم الحطب، وفيه: من لم يسم، وليس فيه: "وما قل من السؤال" الخ. انتهى .

قلت: حديث ابن عباس رواه أيضا ابن جرير في تهذيبه والعسكري في الأمثال والبيهقي، ولابن عدي من حديث أبي هريرة: استغنوا بغنى الله.

(وسمع عمر) بن الخطاب (- رضي الله عنه - سائلا يسأل) الناس (بعد المغرب فقال لواحد من قومه: عش الرجل) فأخذه (فعشاه ثم سمعه ثانية فقال: ألم أقل لك عش الرجل؟ قال: قد عشيته، فنظر إليه عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا، فقال: لست سائلا ولكنك تاجر، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، وضربه بالدرة وقال: لا تعد) إلى صنعك هذا (ولولا أن سؤاله كان حراما لما ضربه ولا أخذ مخلاته) ولما أنكر عليه فعله ونهاه عنه .

(ولعل الفقيه الضعيف المنة) بضم الميم أي: القوة (الضيق الحوصلة) بتشديد اللام (يستبعد هذا من فعل عمر) - رضي الله عنه - (ويقول: أما ضربه فهو تأديب وقد ورد الشرع بالتعزير) فهو لا بأس به (فأما أخذ ماله) وهو كسر الخبز التي كانت في المخلاة (فهو مصادرة، والشرع لم ير بالعقوبة بأخذ المال فكيف استجازه، وهذا استبعاد مصدره القصور في الفقه، فأين يظهر فقه الفقهاء كلهم في حوصلة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - واطلاعه على أسرار دين الله ومصالح عباده، أفترى أنه لم يعلم أن المصادرة بالمال غير جائزة أو) أنه (علم ذلك ولكن أقدم عليه غضبا في معصية الله وحاشاه) من ذلك (أو) أنه (أراد الزجر بالمصلحة بغير طريق شرعها نبي الله) - صلى الله عليه وسلم - .

(وهيهات فإن ذلك أيضا معصية، بل الفقه الذي لاح له فيه أنه رآه مستغنيا عن السؤال وعلم أن من أعطاه شيئا فإنما أعطاه على اعتقاد أنه محتاج وقد كان كاذبا، فلم يدخل في ملكه بأخذه مع التلبيس) والتخليط (وعسر تمييز ذلك ورده إلى أصحابه، إذ لا يعرف أصحابه بأعيانهم فبقي مالا لا مالك له، فوجب صرفه إلى المصالح، وإبل الصدقة وعلفها من المصالح، ويتنزل أخذ السائل مع إظهار الحاجة كاذبا كأخذ العلوي) الشيء (بقوله: إني علوي وهو كاذب) في دعواه (فإنه لا يملك ما يأخذه، وكأخذ الصوفي والصالح الذي يعطى لصلاحه) وتصوفه (وهو في الباطن مقارف لمعصيته لو عرفها المعطي لما أعطاه، ولقد ذكرنا في مواضع أن ما أخذوه على هذا الوجه لا يملكونه وهو حرام عليهم ويجب عليهم الرد إلى مالكه) لعدم تحقق الاستحقاق .

(فاستدل عمر - رضي الله عنه - على صحة هذا المعنى الذي يغفل عنه كثير من الفقهاء وقد قررناه في مواضع ولا تستدل بغفلتك عن هذا الفقه عن بطلان فعل عمر) - رضي الله عنه - (فإذا عرفت أن السؤال يباح لضرورة فاعلم أن الشيء إنما يكون مضطرا إليه، أو محتاجا إليه حاجة مهمة، أو حاجة خفيفة، أو مستغنى عنه، فهذه أربعة أحوال) وهي في الحقيقة ثلاثة: للاضطرار أو الاحتياج أو الاستغناء، والاحتياج على قسمين: إما مهم أو خفيف .




الخدمات العلمية