الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
أما المضطر إليه فهو سؤال الجائع عند خوفه على نفسه موتا أو مرضا وسؤال العاري وبدنه مكشوف ليس معه ما يواريه وهو مباح مهما وجدت بقية الشروط في المسئول بكونه مباحا والمسئول منه بكونه راضيا في الباطن وفي السائل بكونه عاجزا عن الكسب فإن القادر على الكسب وهو بطال له السؤال إلا إذا استغرق طلب العلم أوقاته وكل من له خط فهو قادر على الكسب بالوراقة .

وأما المستغني فهو . الذي يطلب شيئا وعنده مثله وأمثاله فسؤاله حرام قطعا وهذان طرفان واضحان .

وأما المحتاج حاجة مهمة فكالمريض الذي يحتاج إلى دواء ليس يظهر خوفه لو لم يستعمله ، ولكن لا يخلو عن خوف ، وكمن له جبة لا قميص تحتها في الشتاء وهو يتأذى بالبرد تأذيا لا ينتهي إلى حد الضرورة ، وكذلك من يسأل لأجل الكراء وهو قادر على المشي بمشقة ، فهذا أيضا ينبغي أن تسترسل عليه الإباحة لأنها أيضا حاجة محققة ، ولكن الصبر عنه أولى ، وهو بالسؤال تارك للأولى ولا يسمى سؤاله مكروها مهما صدق في السؤال وقال : ليس تحت جبتي قميص والبرد يؤذيني أذى أطيقه ، ولكن يشق علي فإذا صدق فصدقه يكون كفارة لسؤاله إن شاء الله تعالى .

وأما الحاجة الخفيفة فمثل سؤاله قميصا ليلبسه فوق ثيابه عند خروجه ليستر الخروق من ثيابه عن أعين الناس وكمن يسأل لأجل الأدم وهو واجد للخبز ، وكمن يسأل الكراء لفرس في الطريق وهو واجد كراء الحمار ، أو يسأل كراء المحمل وهو قادر على الراحلة ، فهذا ونحوه إن كان فيه تلبيس حال بإظهار حاجة غير هذه فهو حرام ، وإن لم يكن وكان فيه شيء من المحذورات الثلاثة من الشكوى والذل وإيذاء المسئول فهو حرام لأن مثل هذه الحاجة لا تصلح لأن تباح بها هذه المحذورات وإن ، لم يكن فيها شيء من ذلك فهو مباح مع الكراهة .

فإن قلت : فكيف يمكن إخلاء السؤال عن هذه المحذورات فاعلم أن الشكوى تندفع بأن يظهر الشكر لله والاستغناء عن الخلق ولا يسأل سؤال محتاج ولكن يقول أنا مستغن بما أملكه ، ولكن تطالبني رعونة النفس بثوب فوق ثيابي وهو فضلة عن الحاجة وفضول من النفس ، فيخرج به عن حد الشكوى ، وأما الذل فبأن يسأل أباه أو قريبه أو صديقه الذي يعلم أنه لا ينقصه ذلك في عينه ولا يزدريه بسبب سؤاله أو الرجل السخي الذي قد أعد ماله لمثل هذه المكارم فيفرح بوجود مثله ويتقلد منه منة بقبوله فيسقط عنه الذل بذلك ، فإن الذل لازم للمنة لا محالة .

وأما الإيذاء فسبيل الخلاص عنه أن لا يعين شخصا بالسؤال بعينه ، بل يلقي الكلام عرضا بحيث لا يقدم على البذل إلا متبرع بصدق الرغبة وإن كان في القوم شخص مرموق لو لم يبذل لكان يلام فهذا إيذاء فإنه ربما يبذل كرها خوفا من الملامة ويكون الأحب إليه في الباطن الخلاص لو قدر عليه من غير الملامة .

وأما إذا كان يسأل شخصا معينا فينبغي أن لا يصرح بل يعرض تعريضا يبقي له سبيلا إلى التغافل إن أراد فإذا لم يتغافل مع القدرة عليه فذلك لرغبته وأنه غير متأذ به ، وينبغي أن يسأل من لا يستحيا منه لو رده أو تغافل عنه ، فإن الحياء من السائل يؤذي كما أن الرياء مع غير السائل يؤذي .

فإن قلت فإذا : أخذ مع العلم بأن باعث المعطي هو الحياء منه أو من الحاضرين ولولاه لما ابتدأه به فهل هو حلال أو شبهة ، فأقول : ذلك حرام محض لا خلاف فيه بين الأمة ، وحكمه حكم أخذ مال الغير بالضرب والمصادرة ، إذ لا فرق بين أن يضرب ظاهر جلده بسياط الخشب أو يضرب باطن قلبه بسوط الحياء ، وخوف الملام ، وضرب الباطن أشد نكاية في قلوب العقلاء ولا يجوز أن يقال هو : في الظاهر قد رضي به ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر فإن هذه ضرورة القضاء في فصل الخصومات ، إذ لا يمكن ردهم إلى البواطن وقرائن الأحوال فاضطروا ، إلى الحكم بظاهر القول باللسان مع أنه ترجمان كثير الكذب ، ولكن الضرورة دعت إليه وهذا ، سؤال عما بين العبد وبين الله تعالى ، والحاكم فيه أحكم الحاكمين ، والقلوب عنده كالألسنة عند سائر الحكام فلا تنظر في مثل هذا إلا إلى قلبك وإن أفتوك وأفتوك فإن المفتي معلم للقاضي والسلطان ليحكموا في عالم الشهادة ، ومفتي القلوب هم علماء الآخرة وبفتواهم النجاة من سلطان الآخرة ، كما أن بفتوى الفقيه النجاة من سطوة سلطان الدنيا ، فإذا ما أخذه مع الكراهة لا يملكه بينه وبين الله تعالى ويجب عليه رده إلى صاحبه فإن كان يستحيي من أن يسترده ولم يسترده فعليه أن يثيبه على ذلك بما يساوي قيمته في معرض الهدية والمقابلة ليتفصى عن عهدته ، فإن لم يقبل هديته فعليه أن يرد ذلك إلى ورثته فإن تلف في يده فهو مضمون عليه بينه وبين الله تعالى وهو عاص بالتصرف فيه وبالسؤال الذي حصل به الأذى .

فإن قلت : فهذا أمر باطن يعسر الاطلاع عليه فكيف السبيل إلى الخلاص منها ، فربما يظن السائل أنه راض ولا يكون هو في الباطن راضيا فأقول : لهذا ترك المتقون السؤال رأسا فما كانوا يأخذون من أحد شيئا أصلا فكان بشر لا يأخذ من أحد أصلا إلا من السري رحمة الله عليهما وقال لأني علمت أنه يفرح بخروج المال من يده ، فأنا أعينه على ما يحب وإنما عظم النكير في السؤال وتأكد الأمر بالتعفف لهذا لأن الأذى إنما يحل بضرورة وهو أن يكون السائل مشرفا على الهلاك ولم يبق له سبيل إلى الخلاص ولم يجد من يعطيه من غير كراهة وأذى فيباح له ذلك كما يباح له أكل لحم الخنزير وأكل لحم الميتة فكان الامتناع طريق الورعين ومن أرباب القلوب من كان واثقا ببصيرته في الاطلاع على قرائن الأحوال فكانوا يأخذون من بعض الناس دون البعض ، ومنهم من كان لا يأخذ إلا من أصدقائه ومنهم من كان يأخذ مما يعطى بعضا ويرد بعضا كما فعل رسول الله : صلى الله عليه وسلم : في الكبش والسمن والأقط وكان هذا يأتيهم من غير سؤال ، فإن ذلك لا يكون إلا عن رغبة ، ولكن قد تكون رغبته طمعا في جاه أو طلبا للرياء والسمعة ، فكانوا يحترزون من ذلك فأما ، السؤال فقد امتنعوا عنه رأسا إلا في موضعين : أحدهما : الضرورة ، فقد سأل ثلاثة من الأنبياء في موضع الضرورة سليمان وموسى والخضر عليهم السلام .

ولا شك في أنهم ما سألوا إلا من علموا أنه يرغب في إعطائهم .

والثاني : السؤال من الأصدقاء والإخوان ، فقد كانوا يأخذون مالهم بغير سؤال واستئذان لأن أرباب القلوب علموا أن المطلوب رضا القلب لا نطق اللسان وقد كانوا ، وثقوا بإخوانهم أنهم كانوا يفرحون بمباسطتهم فإذا كانوا يسألون الإخوان عند شكهم في اقتدار إخوانهم على ما يريدونه وإلا فكانوا يستغنون عن السؤال .وحد إباحة السؤال أن تعلم أن المسئول بصفة لو علم ما بك من الحاجة لابتدأك دون السؤال فلا يكون لسؤالك تأثير إلا بتعريف حاجتك فأما في تحريكه بالحياء وإثارة داعيته بالحيل فلا ويتصدى للسائل حالة لا يشك فيها في الرضا بالباطن وحالة لا يشك في الكراهة ويعلم ذلك بقرينة الأحوال ، فالأخذ في الحالة الأولى حلال طلق وفي الثانية سحت ويتردد ، بين الحالتين أحوال يشك فيها فليستفت قلبه فيها وليترك حزاز القلب فإنه الإثم وليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه وإدراك ذلك بقرائن الأحوال سهل على من قويت فطنته وضعف حرصه وشهوته ، فإن قوي الحرص وضعفت الفطنة تراءى له ما يوافق غرضه فلا يتفطن للقرائن الدالة على الكراهة ، وبهذه الدقائق يطلع على سر قوله : صلى الله عليه وسلم : إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وقد أوتي جوامع الكلم لأن من لا كسب له ولا مال ورثه من كسب أبيه أو أحد قرابته فليأكل من أيدي الناس ، وإن أعطي بغير سؤال فإنما يعطى بدينه ومتى يكون باطنه بحيث لو انكشف لا يعطى بدينه فيكون ما يأخذه حراما ، وإن أعطي بسؤال فأين من يطيب قلبه بالعطاء إذا سئل ، وأين من يقتصر في السؤال على حد الضرورة ؟ فإذا فتشت أحوال من يأكل من أيدي الناس علمت أن جميع ما يأكله أو أكثره سحت وأن الطيب هو الكسب الذي اكتسبته بحلالك أنت أو مورثك فإذا ، بعيد أن يجتمع الورع مع الأكل من أيدي الناس فنسأل الله تعالى أن يقطع طمعنا عن غيره وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه بمنه وسعة جوده فإنه على ما يشاء قدير .

التالي السابق


(أما المضطر إليه فهو سؤال الجائع عند خوفه على نفسه موتا أو مرضا) يؤدي إلى الموت (وسؤال العاري وبدنه مكشوف ليس معه ما يواريه وهو) [ ص: 306 ] أي هذا السؤال (مباح مهما وجد بقية الشروط في المسئول) أي: الطعام أو الثوب (بكونه مباحا و) في (المسئول بكونه راضيا في الباطن) غير مستحي في إعطائه ولا مراء (وفي السائل بكونه عاجزا عن الكسب فإن القادر على الكسب وهو بطال ليس له السؤال إلا إذا استغرق في طلب العلم) أوقاته بحيث لم يتفرغ للكسب (وكل من له خط) يقرأ (فهو على الكسب بالوراقة) أي: النساخة (وأما المستغني وهو الذي يطلب شيئا وعنده مثله أو أمثاله فسؤاله حرام قطعا وهذان طرفان واضحان) وهما الاضطرار والاستغناء فالاضطرار مبيح، والاستغناء محرم، (وأما المحتاج حاجة مهمة كالمريض الذي يحتاج إلى الدواء ليس يظهر خوفه لو لم يستعمله، ولكن لا يخلو عن خوف، وكمن له جبة لا قميص تحتها في الشتاء وهو يتأذى بالبرد تأذيا لا ينتهي إلى حد الضرورة، وكذلك من يسأل لأجل الكراء وهو قادر على المشي بمشقة، فهذا أيضا ينبغي أن يسترسل الإباحة لأنها أيضا حاجة محققة، ولكن الصبر أولى، وهو بالسؤال تارك الأولى ولا يسمى سؤاله مكروها مهما صدق في السؤال وقال: ليس تحت جبتي قميص والبرد يؤذيني أذى أطيقه، ولكن يشق علي فإذا صدق فصدقه يكون كفارة لسؤاله إن شاء الله تعالى، وأما الحاجة الخفيفة فمثل سؤاله قميصا يلبسه فوق ثيابه عند خروجه) من منزله لحاجته (ليستر به الخروق من ثيابه عن أعين الناس) كي لا يزدروا به (وكمن يسأل لأجل الأدم وهو واجد للخبز، وكمن يسأل لكراء الفرس للطريق وهو واجد كراء الحمار، أو يسأل كراء الجمل وهو قادر على الراحلة، فهذا كان فيه تلبيس حال بإظهار حاجة غير هذه فهو حرام، وإن لم يكن وكان فيه شيء من المحذورات الثلاثة) المذكورة (من الشكوى أو الذل أو إيذاء المسئول فهو حرام) لاشتماله على الأمور المحرمة (لأن مثل هذه الحاجة لا تصلح إلى أن تباح بها المحظورات، فإن لم يكن فيها شيء من ذلك فهو مباح مع الكراهة) ولذلك قلنا: إن الحاجة الخفيفة فيها تردد (فإن قلت: فكيف يمكن إخلاء السؤال عن هذه المحظورات) الثلاث (فاعلم أن الشكوى تندفع بأن يظهر الشكر لله) تعالى بلسانه (والاستغناء عن الخلق) بأن لا يلتفت في أيديهم (ولا يسأل سؤال محتاج ولكن يقول أنا) بحمد الله تعالى (مستغن بما أملكه، ولكن تطالبني رعونة النفس بثوب فوق ثيابي وهو فضلة عن الحاجة وفضول من النفس، فيخرج به عن حد الشكوى، وأما الذل فإن يسأل أباه أو قريبه) في النسب (أو صديقه الذي يعلم أنه لا ينقصه ذلك في عينه ولا يرد به بسبب سؤاله) ولا يحتقره وهو سبيل العارفين (أو) يسأل (الرجل السخي الذي قد أعد ماله لمثل هذه المكارم فيفرح بوجود مثله ويتقلد منه بقبوله) منه ذلك (فيسقط عنه الذل بذلك، فإن الذل لازم للمنة لا محالة، وأما الإيذاء فسبيل الخلاص منه ألا يعين شخصا بالسؤال بعينه، بل يلقي الكلام عرضا بحيث لا يقدم على البذل إلا متبرع بصدق الرغبة وإن كان في القوم شخص مرموق) أي: منظور إليه (لو لم يبذل لكان يلام فهذا إيذاء فإنه ربما يبذل كرها) لا عن رضا قلبه (خوفا من الملامة [ ص: 307 ] ويكون الأحب إليه في الباطن الخلاص لو قدر عليه من غير ملامة، وأما إذا كان سأل معينا فينبغي أن لا يصرح له) باسمه (بل يعرض تعريضا يبقي له سبيلا إلى التغافل إن أراد) ذلك (فإذا لم يتغافل مع القدرة عليه فذلك لرغبته وأنه غير متأذ به، وينبغي أن يسأل من لا يستحي منه لو رده أو تغافل، فإن الحياء من السائل يؤذي كما أن الرياء مع غير السائل يؤذي، فإن قلت: ماذا أخذ مع العلم فإن باعث المعطي هو الحياء منه أو من الحاضرين) في المجلس (ولولاه لما أعطاه) وفي نسخة: لما ابتدأه به .

(فهو حلال أو شبهة، فأقول: ذلك حرام محض لا خلاف فيه بين الأمة، وحكمه حكم أخذ مال الغير بالضرب والمصادرة، إذ لا فرق بين أن يضرب ظاهر جلده بسياط الخشب أو يضرب باطن قلبه بسوط الحياء، وخوف الملام، وضرب الباطن أشد نكاية في قلوب العقلاء) من ضرب الجلد الظاهر، وفي ذلك قيل:


العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الملامة



(ولا يجوز أن يقال: هذا في الظاهر قد رضي، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: إنما أنا أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر) قال العراقي: لم أجد له أصلا، وكذا قال المزي لما سئل عنه (فإن هذه ضرورة القضاة في فصل الخصومات، إذ لا يمكن ردهم في البواطن وقرائن الأحوال، فاضطر إلى الحكم بظاهر القول باللسان مع أنه ترجمان كثير الكذب، ولكن الضرورة دعت إليه، هذا سؤال عما بين العبد وبين الله، والحاكم فيه أحكم الحاكمين، والقلوب عنده كالألسنة عند سائر الحكام فلا تنظر لمثل هذا إلا إلى قلبك) ولا تستفت إلا منه (وإن أفتوك وأفتوك) كما ورد ذلك في خبر وابصة بن معبد وغيره، (فإن المفتي معلم للقاضي والسلطان) ومن في معناهما من الحكام (ليحكموا) بفتواه (في عالم الشهادة، ومفتي القلوب هم علماء الآخرة وبفتواهم النجاة عن سطوة سلطان الآخرة، كما أن بفتوى الفقيه النجاة عن سطوة سلطان الدنيا، فإذا ما يأخذه مع الكراهة لا يملكه بينه وبين الله تعالى ويجب عليه رده إلى صاحبه) إن أمكنه (فإن كان يستحي من أن يسترده) فلم يسترده (فعليه أن يثيبه على ذلك) أي: يجازيه (بما يساوي قيمته) في الوقت (في معرض الهدية والمقابلة ليتفصى) أي: يتخلص (عن عهدته، فإن لم يقبل هديته فعليه أن يرد ذلك إلى ورثته) بعد موته ولا يجوز له أن يملكه بحال من الأحوال (فإن تلف في يده) قبل الاسترداد (فهو مضمون عليه بينه وبين الله تعالى وهو عاص بالتصرف فيه) تصرف الملاك ثانيا (وبالسؤال الذي حصل به الأذى) أولا، (فإن قلت: فهذا أمر باطن يعسر الاطلاع عليه فكيف السبيل فيه، فربما يظن السائل أنه راض ولا يكون هو في الباطن راضيا فأقول: لهذا) السر (ترك المتقون السؤال رأسا فما كانوا يأخذون من أحد شيئا) أصلا (فكان بشر) الحافي - رحمه الله تعالى - (لا يأخذ إلا من السري) السقطي - رحمه الله تعالى - (وقال) لما سئل عن ذلك (لأني علمت أنه يفرح بخروج المال من يده، فأنا أعينه على ما يحب) ، وقد تقدم قريبا وأين مثل السري حتى يؤخذ منه؟ (وإنما عظم النكير في السؤال و) اشتد (الأمر بالتعفف لهذا إلا أن الأذى إنما يحل) أي: يصير مباحا (بضرورة وهو أن يكون مشرفا على [ ص: 308 ] الهلاك ولم يبق له سبيل إلى الخلاص ولم يجد من يعطيه من غير كراهة وأذى فيباح له ذلك كما يباح له لحم الخنزير وأكل الميتة فكان الامتناع) عن السؤال (طريق الورعين ومن أرباب القلوب من كان واثقا ببصيرته في الاطلاع على قرائن الأحوال فكانوا يأخذون من بعض الناس دون البعض، ومنهم من كان لا يأخذ إلا من أصدقائه ومنهم من كان يأخذ مما يعطى بعضا ويرد بعضا كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكبش) حيث رده (والأقط) والسمن حيث أخذهما .

(وكان هذا فيما يأتيهم من غير سؤال، فإن ذلك لا يكون إلا عن رغبة، ولكن يمكن تكون رغبته طمعا في جاه أو طمعا للرياء والسمعة، فكانوا يحترزون من ذلك، وأما السؤال فقد امتنعوا عنه رأسا إلا في موضعين:

أحدهما: الضرورة، فقد سأل ثلاث من الأنبياء في موضع الضرورة سليمان وموسى والخضر - عليهم السلام -) أما سؤال سليمان فقد تقدم بيانه في كتاب الصبر، وأما قصة موسى والخضر فمذكورة في القرآن (ولا شك أنهم ما سألوا إلا من علموا أنه يرغب فيهم .

والثاني: السؤال من الأصدقاء والإخوان، فقد كانوا يأخذون مالهم بغير سؤال واستئذان) كما تقدم في آداب الصحبة والأخوة (لأن أرباب القلوب) قد علموا (أن المطلوب رضا القلب لا نطق اللسان، وكانوا قد وثقوا بإخوانهم أنهم كانوا يفرحون بمباسطتهم فإذا كانوا يسألون الإخوان عند شكهم في اقتدار إخوانهم على ما يريدونه وإلا فكانوا يستغنون عن السؤال .

وحد إباحة السؤال أن تعلم أن المسئول بصفة لو علم ما بك من الحاجة لابتدأك) بالعطاء (دون السؤال فلا يكون لسؤالك تأثيرا إلا في تعريف حاجتك فأما في تحريكه بالحياء وإثارة داعيته بالحيل) والخداع (فلا تتصدى للسائل حالة لا يشك فيها في الرضا الباطن وحالة لا يشك) فيها (في الكراهة ويعلم ذلك بقرينة الأحوال، فالأخذ في الحالة الأولى حلال طلق وفي الثانية حرام سحت، وتتردد بين الحالتين أحوال يشك فيها فليستفت قلبه فيها وليترك حزاز القلب) وهي الشبهات التي تحز في القلب وتحك كما في حديث ابن مسعود، وقد تقدم في العلم. (فإنه الإثم) كما في الخبر، والإثم ما حاك في الصدر (وليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه) كما في حديث الحسن، وقد تقدم كل ذلك في العلم .

(وإدراك ذلك بقرائن الأحوال سهل على من قويت فطنته وضعف حرصه وشهوته، فإن قوي الحرص وضعفت الفطنة تراءى له ما يوافق غرضه فلا يتفطن للقرائن الدالة على الكراهة، وبهذه الدقائق يطلع على سر قوله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه) رواه أحمد وعبد الرزاق وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث عائشة وتمامه: وأن ولده من كسبه، فكلوا من أموالهم، وروى ابن أبي شيبة والبخاري في التاريخ بلفظ: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم. وقد تقدم في آداب الطعام .

(وقد أوتي) - صلى الله عليه وسلم - (جوامع الكلم) واختصر له الكلام اختصارا، رواه أبو يعلى والبيهقي من حديث عمر، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وقد تقدم (لأن من لا كسب له ولا مال مما ورثه من كسب أبيه أو أحد أقربيه فيأكل من أيدي الناس، وإن أعطي بغير سؤال فإنما يعطى بدينه ومتى يكون [ ص: 309 ] باطنه بحيث لو انكشف لا يعطى بدينه فيكون ما يأخذه حراما، وإن أعطي لسؤال فإن من يطيب قلبه بالعطاء إذا سئل، وأين من اقتصر في السؤال على حد الضرورة؟

فإذا فتشت أحوال من يأكل من أيدي الناس علمت أن جميع ما يأكله أو أكثره سحت وأن الطيب) الصافي وفي نسخة: وأن أطيب ما تأكل (هو الكسب الذي اكتسبته أنت أو مورثك، فإذا بعيد أن يجتمع الورع مع الأكل من أيدي الناس) فيه ما يضاده (فنسأل الله تعالى أن يقطع طمعنا عن غيره وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه) يشير إلى الدعاء المأثور: اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك (بمنه وكرمه وجوده) زاد في بعض النسخ: إنه على ما يشاء قدير .




الخدمات العلمية