الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان توكل المعيل .

اعلم أن من له عيال فحكمه يفارق المنفرد لأن المنفرد لا يصح توكله إلا بأمرين ، أحدهما قدرته على الجوع أسبوعا من غير استشراف وضيق نفس والآخر أبواب من الإيمان ذكرناها من جملتها أن يطيب نفسا بالموت إن لم يأته رزقه علما بأن رزقه الموت والجوع ، وهو إن كان نقصا في الدنيا فهو زيادة في الآخرة ، فيرى أنه سيق إليه خير الرزقين له وهو رزق الآخرة وأن ، هذا هو المرض الذي به يموت ، ويكون راضيا بذلك ، وأنه كذا قضي وقدر له ، فبهذا يتم التوكل المنفرد ولا يجوز تكليف العيال الصبر على الجوع ، ولا يمكن أن يقرر عندهم الإيمان بالتوحيد وأن ، الموت على الجوع رزق مغبوط عليه في نفسه إن اتفق ذلك نادرا وكذا ، سائر أبواب الإيمان فإذا ، لا يمكنه في حقهم إلا توكل المكتسب ، وهو المقام الثالث كتوكل أبي بكر الصديق : رضي الله عنه : إذ خرج للكسب فأما دخول البوادي ، وترك العيال توكلا في حقهم ، أو القعود عن الاهتمام بأمرهم توكلا في حقهم فهذا حرام ، وقد يفضي إلى هلاكهم ، ويكون هو مؤاخذا بهم بل التحقيق أنه لا فرق بينه وبين عياله ، فإنه إن ساعده العيال على الصبر على الجوع مدة ، وعلى الاعتداد بالموت على الجوع رزقا وغنيمة في الآخرة فله أن يتوكل في حقهم ، ونفسه أيضا عيال عنده ، ولا يجوز له أن يضيعها إلا أن تساعده على الصبر على الجوع مدة ، فإن كان لا يطيقه ، ويضطرب عليه قلبه ، وتتشوش عليه عبادته لم يجز له التوكل ولذلك روي أن أبا تراب النخشبي نظر إلى صوفي مد يده إلى قشر بطيخ ليأكله بعد ثلاثة أيام فقال له : لا يصلح لك التصوف ، الزم السوق أي لا تصوف إلا مع التوكل .

ولا يصح التوكل إلا لمن يصبر عن الطعام أكثر من ثلاثة أيام وقال أبو علي الروذباري إذا قال الفقير بعد خمسة أيام : أنا جائع فألزموه السوق ، ومروه بالعمل والكسب فإن بدنه عياله وتوكله فيما يضر ببدنه ، كتوكله في عياله ، وإنما يفارقهم في شيء واحد وهو أن له تكليف نفسه الصبر على الجوع ، وليس له ذلك في عياله وقد انكشف لك من هذا أن التوكل ليس انقطاعا عن الأسباب بل الاعتماد على الصبر على الجوع مدة ، والرضا بالموت إن تأخر الرزق نادرا ، وملازمة البلاد والأمصار ، أو ملازمة البوادي التي لا تخلو عن حشيش ، وما يجري مجراه فهذه كلها أسباب البقاء ، ولكن مع نوع من الأذى ، إذ لا يمكن الاستمرار عليه إلا بالصبر ، والتوكل في الأمصار أقرب إلى الأسباب من التوكل في البوادي ، وكل ذلك من الأسباب إلا أن الناس عدلوا إلى أسباب أظهر منها ، فلم يعدوا تلك أسبابا ، وذلك لضعف إيمانهم ، وشدة حرصهم ، وقلة صبرهم على الأذى في الدنيا لأجل الآخرة ، واستيلاء الجبن على قلوبهم بإساءة الظن ، وطول الأمل .

التالي السابق


* (بيان توكل المعيل) *

أي صاحب العيال من زوجته وولده (اعلم) هداك الله تعالى (أن من له عيال فحكمه يفارق المنفرد) المتجرد؛ (لأن المنفرد) المتجرد (لا يصح توكله إلا بأمرين، أحدهما قدرته على الجوع أسبوعا من غير استشراف) ، أي: تطلع (و) من غير (ضيق نفس) منه (والآخر أبواب من الإيمان ذكرناها من جملته) ، وفي نسخة: من جملتها (أن يطيب نفسا بالموت) ويوطنها عليه (إن لم يأته رزقه علما) منه (بأن رزقه الموت والجوع، وهو إن كان نقصا في الدنيا فهو زيادة) درجات (في الآخرة، فيرى أنه سيق إليه خير الرازقين) له، (وهو رزق الآخرة، وإن هذا هو المرض الذي به يموت، ويكون راضيا بذلك، وأنه كذا قضي وقدر له، فبهذا يتم التوكل للمنفرد و) هذا بخلاف المعيل إذ (لا يجوز تكليف العيال الصبر على الجوع، ولا يمكن أن يقر عندهم الإيمان بالتوحيد، وإن الموت على الجوع رزق مغبوط عليه في نفسه إن اتفق ذلك نادرا، وكذلك سائر أبواب الإيمان، فإذا لا يمكنه في حقهم إلا توكل المكتسب، وهو المقام الثالث) من مقامات التوكل (كتوكل أي بكر الصديق -رضي الله عنه- إذ خرج للكسب) بعد ما ولي الخلافة (فأما دخول البوادي، وترك العيال) هملا (توكلا في حقهم، أو القعود عن الاهتمام بأمرهم توكلا في حقهم فهو حرام، وقد يفضي إلى هلاكهم، ويكون هو مؤاخذ بهم) ؛ إذ كل راع مسؤول عن رعيته، (بل التحقيق أنه لا فرق بينه وبين عياله، فإنه إذا ساعده العيال على الصبر على الجوع مدة، وعلى الاعتداد بالموت على الجوع رزقا وغنيمة فله أن يتوكل في حقهم، ونفسه أيضا عيال عنده، ولا يجوز له أن يضيعها إلا بأن تساعده على الصبر على الجوع مدة، فإن كان لا يطيقه، ويضطرب عليه قلبه، وتتشوش عليه عبادته لم يجز له التوكل) قال إبراهيم الخواص في كتاب التوكل: وليس للعبد أن يحمل حال عياله على حاله، إلا أن يكون اختيارهم كاختياره، وصبرهم على فقرهم واغتباطهم بضرهم لمعرفتهم بفضل الفقر، كمعرفته، فجائز حينئذ أن يسير بهم سيرته، ويسقط عنه الكسب لأجلهم؛ لأنهم كهول في الحال مع سقوط المطالبة عنهم له لحقوقهم عليه، وقد فعل ذلك جماعة من السلف، (ولذلك روي أن أبا تراب) عسكر بن حصين (النخشبي) - نسبة إلى نخشب مدينة بما وراء النهر عربت، فقيل لها: نسف- شيخ عصره، عالم زاهد، ورع متوكل، روى عن محمد بن عبد الله بن نمير، وعنه محمد بن عبد الله بن مصعب، وغيره، مات بالبادية سنة 245، قيل: نهشته السباع، وقال القشيري: صحب حاتما الأصم، وأبا حاتم العطار البصري، (نظر إلى صوفي مد يده إلى قشر بطيخ) مرمي في الطريق (ليأكله بعد ثلاثة أيام) لم يأكل فيها شيئا (فقال له: لا يصلح لك التصوف، الزم السوق) نقله القشيري، إلا أنه قال: ألزموه السوق (أي لا تصوف إلا مع التوكل، ولا يصح التوكل إلا لمن يصبر عن الطعام أكثر من ثلاثة أيام) أي إن حاله يدل على عدم كمال شغله بالله، وعدم صبره، وشدة ميله إلى الطعام، ومن هذه صفته بقاؤه مع سبب، وانتقاله شيئا فشيئا عن عبادته أولى من خروجه عما بيده جملة .

(وقال أبو علي) أحمد بن محمد (الروذباري) البغدادي، نزيل مصر، والمتوفى بها سنة 322، أخذ في التصوف عن الجنيد، وشيخه في الفقه أبو العباس بن سريج، وفي الأدب ثعلب، وفي الحديث إبراهيم الحزبي (إذ قال الفقير بعد [ ص: 493 ] خمسة أيام: أنا جائع فألزموه السوق، ومروه بالعمل والكسب) نقله القشيري في الرسالة (فإذا بدنه عياله) ، أي: بمنزلة عياله (فتوكله فيما يضره ببدنه، كتوكله في عياله، وإنما يفارقه في شيء) واحد (وهو أن له تكليف نفسه الصبر على الجوع، وليس له ذلك في عياله) إلا إن وافق اختيارهم اختياره، فيكونون كهو فيما سبق، (وقد انكشف لك من هذا أن التوكل ليس انقطاعا عن الأسباب) ، كما أنه ليس تلبسا بها، (بل الاعتماد على الصبر على الجوع مدة ، والرضا بالموت إن تأخر الرزق نادرا، وملازمة البلاد والأمصار، أو ملازمة البوادي التي لا تخلو من حشيش، وما يجري مجراه فهذه كلها أسباب البقاء، ولكن مع نوع من الأذى، إذ لا يمكن الاستمرار عليه إلا بالصبر، والتوكل في الأمصار أقرب إلى الأسباب من التوكل في البوادي، وكل ذلك من الأسباب) .

فقد روى القشيري بسنده إلى إبراهيم الخواص، قال: بينما أسير في البادية، فإذا بهاتف يهتف فالتفت إليه فإذا أعرابي، فقال لي: يا إبراهيم، التوكل عندنا أي في البوادي أقم عندنا حتى يصح توكلك، ألا تعلم أن رجاءك لدخول بلد فيه أطعمة تحملك، اقطع رجاءك عن البلدان وتوكل، (ألا إن الناس عدلوا إلى أسباب هي أفضل منها، فلم يعدوا تلك أسبابا، وذلك لضعف إيمانهم، وشدة حرصهم، وقلة صبرهم على الأذى في الدنيا لأجل الآخرة، واستيلاء الجبن على قلوبهم بإساءة الظن، وطول الأمل) ، ومن هنا قال بعضهم في حد التوكل: هو إحسان الظن، وقصر الأمل .




الخدمات العلمية