الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان شواهد الشرع في حب العبد لله تعالى .

اعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فرض وكيف يفرض ما لا وجود له ، وكيف يفسر الحب بالطاعة والطاعة تبع الحب وثمرته ، فلا بد وأن يتقدم الحب ثم بعد ذلك يطيع من أحب ويدل على إثبات الحب لله تعالى قوله عز وجل: يحبهم ويحبونه ، وقوله تعالى والذين آمنوا أشد حبا لله وهو دليل على إثبات الحب وإثبات التفاوت فيه ، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحب لله من شرط الإيمان في أخبار كثيرة؛ إذ قال أبو رزين العقيلي: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما .

وفي حديث آخر: لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين .

وفي رواية: ومن نفسه .

كيف وقد قال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم الآية .

وإنما أجرى ذلك في معرض التهديد والإنكار .

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحبة فقال: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله إياي .

ويروى أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحبك ، فقال صلى الله عليه وسلم استعد للفقر ، فقال: إني أحب الله تعالى فقال استعد للبلاء .

وعن عمر رضي الله عنه قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال النبي صلى الله عليه وسلم انظروا إلى هذا الرجل الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب ، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون .

وفي الخبر المشهور: إن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلا يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه هل رأيت محبا يكره لقاء حبيبه؟ فقال: يا ملك الموت الآن فاقبض ، وهذا لا يجده إلا عبد يحب الله بكل قلبه ، فإذا علم أن الموت سبب اللقاء انزعج قلبه إليه ولم يكن له محبوب غيره حتى يلتفت إليه .

وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم في دعائه: اللهم ارزقني حبك وحب ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد .

وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ فقال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك .

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه من ذاق من خالص محبة الله تعالى شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر .

وقال الحسن: من عرف ربه أحبه ومن عرف الدنيا زهد فيها ، والمؤمن لا يلهو حتى يغفل فإذا تفكر حزن ، وقال أبو سليمان الداراني: إن من خلق الله خلقا ما يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون عنه بالدنيا .

ويروى أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى فقالوا الخوف من النار فقال حق على الله أن يؤمن الخائف ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا وتغيرا فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الشوق إلى الجنة فقال حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين ، فإذا هم أشد نحولا وتغيرا كأن وجوههم المرائي من النور فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا نحب الله عز وجل فقال: أنتم المقربون أنتم المقربون ، وقال عبد الواحد بن زيد مررت برجل قائم في الثلج فقلت أما تجد البرد؟ فقال: من شغله حب الله لم يجد البرد .

وعن سري السقطي : تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها عليهم السلام فيقال : يا أمة موسى ويا أمة عيسى ويا أمة محمد غير المحبين لله تعالى، فإنهم ينادون : يا أولياء الله ، هلموا إلى الله سبحانه فتكاد قلوبهم تنخلع فرحا .

وقال هرم بن حيان المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه ، وإذا أحبه أقبل إليه وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ، ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة ، وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة ، وقال يحيى بن معاذ عفوه يستغرق الذنوب ، فكيف رضوانه ؟ ورضوانه يستغرق الآمال ، فكيف حبه ؟ وحبه يدهش العقول ، فكيف وده ؟ ووده ينسي ما دونه ، فكيف لطفه ؟ وفي بعض الكتب عبدي أنا ، وحقك لك محب ، فبحقي عليك كن لي محبا وقال يحيى بن معاذ مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب وقال يحيى بن معاذ: إلهي إني مقيم بفنائك مشغول بثنائك ، صغيرا أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وأمكنتني من لطفك ونقلتني في الأحوال ، وقلبتني في الأعمال سترا وتوبة وزهدا وشوقا ورضا وحبا تسقيني من حياضك ، وتهملني في رياضك ملازما لأمرك ، ومشغوفا بقولك ولما طر شاربي ولاح طائري فكيف أنصرف اليوم عنك كبيرا ، وقد اعتدت هذا منك صغيرا ، فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأني محب وكل محب بحبيبه مشغوف ، وعن غير حبيبه مصروف .

وقد ورد في حب الله تعالى من الأخبار والآثار ما لا يدخل في حصر حاصر ، وذلك أمر ظاهر ، وإنما الغموض في تحقيق معناه ، فليشتغل به .

التالي السابق


* (بيان شواهد الشرع في حب العبد لله تعالى) *

(اعلم) هداك الله تعالى (أن الأمة مجمعة على أن الحب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فرض) ثابت بدليل قطعي الثبوت والدلالة، (وكيف يفرض ما لا وجود له) هذا إنكار على من أنكر المحبة أصلا، وسبب إنكارهم إياها أنهم رأوا أن الحدود لا تزيدها إلا خفاء، وجميع من تكلم فيها إنما هو في أسبابها وجهاتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة، ثم رد على من فسرها بالطاعة فقال (وكيف يفسر الحب بالطاعة) والانقياد لنيل الثواب (والطاعة تبع الحب وثمرته) ، فكيف تكون الثمرة حدا للمثمر والتابع حدا للمتبوع، (فلابد وأن يتقدم الحب ثم بعد ذلك يطيع من أحب) ، فعلم من ذلك أن تفسيرها بالطاعة تفسير باللازم، وليس بحد تام ولا تحد بحد أوضح منها، فحدها وجودها ولا تحد بوصف أظهر منها، (ويدل على إثبات الحب لله تعالى قوله عز وجل) يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم (يحبهم ويحبونه) ثم قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، فهذا الخبر هو متصل بالابتداء في المعنى; لأن الله تعالى وصف المؤمنين المحبين بفضله عليهم وما اعترض بينهما من الكلام، فهو نعت المحبوبين (وقوله تعالى:) ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله (والذين آمنوا أشد حبا لله) ، وهو إشارة إلى أن الإيمان يحرض على حب الله تعالى ويدعو إليه، قال الله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فأبان [ ص: 547 ] أن اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم من موجبات محبة الله عز وجل، فإذا كان اتباع النبي صلى الله عليه وسلم إيمانا، وجب أن يكون حب الله الموجب له إيمانا، (وهو) أيضا (دليل على إثبات الحب وإثبات التفاوت إليه) لفظ القوت: وكل مؤمن بالله فهو محب لله تعالى ولكن محبته على قدر إيمانه وكشف مشاهدته وتجلي المحبوب له على وصف من أوصافه دليل ذلك استجابتهم له التوحيد والتزام أمره وتسليم حكمه، ثم تفاوتهم في مشاهدات التوحيد في التزام الأمر وفي تسليم الحكم، فليس ذلك يكون إلا عن محبة وأن تفاوت المحبوب على حسب أقسامهم من المحبوب، وليس يصغر عن المحبة صغير، كما لا يصغر عن المعرفة من عرف ولا يكبر على التوبة كبير، ولو كان على كل العلوم قد أوقف; لأن الله تعالى وصف المؤمنين بشدة الحب له فقال: والذين آمنوا أشد حبا لله وفي قوله: أشد، دليل على تفاوتهم في المحبة; لأن المعنى أشد فأشد، ولم يقل: شديد الحب لله فأشبه هذا الخطاب قوله: إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، فدل على أن تفاوتهم في الإكرام على قدر تفاضلهم في التقوى ولم يقل: إن الكرام المتقون، فالمؤمنون متزايدون في الحب لله على تزايدهم في المعرفة به والمشاهدة له، (وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحب لله من شرط الإيمان) بالله (في أخبار كثيرة; إذ قال أبو رزيق) لقيط بن عامر بن المنتفق العامري (العقيلي) وافد بني المنتفق -رضي الله عنه-: (يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما) .

قال العراقي: أخرجه أحمد بزيادة في أوله وفيه انقطاع . انتهى . قلت: لفظ الحديث: أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، وأن تحترق بالنار أحب إليك من أن تشرك بالله، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله، فإذا كنت كذلك دخل حب الإيمان في قلبك، كما دخل حب الماء للظمآن في اليوم القائظ، قال السيوطي في الجامع الكبير بعد أن ذكره: حسن، (وفي حديث آخر: لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) كذا في القوت .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أنس بلفظ: لا يجد حلاوة الإيمان حتى . . . . وذكره بزيادة انتهى .

قلت: الذي في المتفق عليه من حديث أنس بلفظ: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار، ورواه كذلك الطيالسي وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي في الشعب، كلهم من حديث أنس، ورواه أيضا البغوي والطبراني والبزار من حديث أبي أمامة، وفي رواية لابن حبان من حديث أنس: ثلاث من كن فيه كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والرجل يحب القوم لا يحبهم إلا في الله، والرجل إن قذف في النار أحب إليه من أن يرجع يهوديا أو نصرانيا، (ومن حديث آخر: لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين، وفي رواية: ومن نفسه) .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أنس واللفظ لمسلم دون قوله: ومن نفسه، وقال البخاري: من والده وولده، وله من حديث عبد الله بن هشام قال عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال: لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال عمر: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر . اهـ . قلت: حديث أنس أخرجه كذلك أحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن حبان ولفظهم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، وأما حديث عبد الله بن هشام، فأخرجه أحمد مختصرا: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، وأما تلك القصة فأخرجها البخاري في مناقب عمر وفي الاستئذان، وفي النذور عن أبي عقيل زهدة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فذكرها (كيف، وقد قال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم الآية) وتمامها: وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين فأبان بهذا أن حب الله وحب رسوله والجهاد في سبيله فرض; لأنه لا ينبغي أن يكون شيء سواه أحب إليهم منه، (وإنما أجرى ذلك في معرض التهديد والإنكار) .

قال العراقي: رواه البيهقي في الشعب عن أبي عبد الله [ ص: 548 ] ابن خفيف دخل البصرة على أبي العباس بن سريج، فقال له ابن سريج: أين تعرف في نص الكتاب أن محبة الله فرض؟ فقال: لا أدري، ولكن يقول القاضي فقال قوله -عز وجل-: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم إلى: فتربصوا ، والوعيد لا يكون إلا على ترك الفرض، (وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحبة) فيما شرعه من الأحكام، (فقال: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحب الله تعالى) .

قال العراقي: رواه الترمذي من حديث ابن عباس وقال: حسن غريب . اهـ . قلت: ورواه كذلك الطبراني والحاكم والبيهقي بزيادة: وأحبوا أهل بيتي، قال البيهقي في الشعب: قال الحليمي: وهذا يحمل على أن يكون عاما لأنعمه كلها، وأن يكون اسم الغذاء في الطعام والشراب حقيقة، ولما عداهما من التوفيق والهداية ونصب أعلام المعرفة وخلق الحواس والعقل مجازا، أو يكون جميع ذلك بالاسم مرادا، فقد روي: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان . وفي رواية: ذاق طعم الإيمان، وإنما يكون الطعم للأغذية وما يجري مجراها، فإذا جاز وصف الإيمان بالطعم جازت تسميته غذاء، فيدخل الإيمان وجميع نعم الله -عز وجل- في هذا الحديث، اهـ . وقال صاحب القوت عقب إيراد هذا الحديث: فدل ذلك على فرض الحب لله وإن تفاضل المؤمنون في نهايات فضائله، ومن أفضل ما أسدى إلينا من نعمه المعرفة به فأفضل الحب له ما كان عن المشاهدة، والمحبوب لله على مراتب من المحبة بعضها أعلى من بعض فأشدهم حبا لله أحسنهم تخلقا بأخلاقه مثل العلم والحلم والعفو وحسن الخلق والستر على الخلق، وأعرفهم بمعاني صفاته أتركهم منازعة له في معاني الصفات كيلا يشركوه فيها مثل الكبر وحب الغنى والعز وطلب الذكر، ثم أشدهم حبا لرسوله إذ كان حب الحبيب، وأتبعهم لآثاره وأشبههم هديا بشمائله، (و) قد (يروى أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحبك، فقال صلى الله عليه وسلم: استعد للفقر، فقال: إني أحب الله، فقال: استعد للبلاء) هكذا هو في القوت .

قال العراقي: رواه الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل بلفظ: فأعد للفقر تجفافا دون آخر الحديث، وقال: حسن غريب، اهـ . قلت: لفظ الترمذي: إن كنت تحبني فأعد للفقر تجفافا، فإن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه، وقد رواه كذلك أحمد والطبراني والبيهقي، وقد روي ذلك من حديث أبي هريرة وأبي ذر، فحديث أبي هريرة لفظه: إن كنت تحبني فاتخذ للبلاء تجفافا، والذي نفسي بيده للبلاء أسرع إلى من يحبني من الماء الجاري من قلة الجبل إلى حضيض الأرض، اللهم فمن أحبني فارزقه العفاف والكفاف، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده . رواه البيهقي في السنن وفي الزهد، وضعفه، وابن عساكر، وأما حديث أبي ذر فلفظه: إن كنت تحبنا فأعد للفقر تجفافا، فإن الفقر أسرع إلى من يحبنا من السيل من أعلى الأكمة إلى أسفلها . رواه الحاكم، وقال صاحب القوت بعد أن ذكر الحديث: والفرق بينهما أن البلاء من أخلاق المبتلى، وهو الله تعالى المبتلي فلما ذكر محبته اختبره للبلاء ليصبر على أخلاقه، كما قال: ولربك فاصبر ، فدل على أحكامه وبلائه، والفقر من أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذكر محبته دله على اتباع أوصافه ليقتفي آثاره لقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في جملة المساكين .

(وعن عمر -رضي الله عنه- قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير) بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار العبدي أحد السابقين إلى الإسلام، أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه، فعلم عثمان بن طلحة، فأعلم أهله فأوثقوه، فلم يزل محبوسا إلى أن هرب مع من هاجر إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة، فهاجر إلى المدينة وشهد بدرا ثم أحدا ومعه اللواء فاستشهد -رضي الله عنه- (مقبلا وعليه إهاب كبش) ، أي: جلده (قد تنطق به) ، أي: جعله كهيئة النطاق (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انظروا إلى هذا الرجل الذي نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون) .

قال العراقي: رواه أبو نعيم في الحلية بإسناد حسن اهـ . قلت: رواه عن أبي عمرو بن حمدان حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا إبراهيم الحوراني، حدثنا عبد العزيز بن عمير، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، حدثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران، عن زيد بن الأصم، عن عمر بن الخطاب قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير فذكره، وذكر محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن بعض آل سعد عن سعد بن أبي [ ص: 549 ] وقاص قال: كان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة وأجوده حلة مع أبويه، وأخرج الترمذي بسند فيه ضعف عن علي قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير فبكى للذي كان فيه من النعمة ولما صار إليه (وفي الخبر المشهور: إن إبراهيم -عليه السلام- قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلا يميت خليله؟ فأوحى الله إليه: هل رأيت محبا يكره لقاء حبيبه؟ فقال: يا ملك الموت الآن فاقبض) . هكذا هو في القوت .

قال العراقي: لم أجد له أصلا قلت: وكأنه من الإسرائيليات، (وهذا لا يجده إلا عبد يحب الله بكل قلبه، فإذا علم أن الموت سبب اللقاء انزعج قلبه إليه ولم يكن له محبوب غيره حتى يلتفت إليه) ، ولفظ القوت بعد قوله: بكل قلبه عندها يشتاق إليه مولاه فينزعج القلب لشوق الغيب فيحب لقاءه، (وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم في دعائه: اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك، وحب ما يقربني إلى حبك، واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد) .

رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي الدرداء بلفظ: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي، ومن الماء البارد، وقد تقدم في كتاب الدعوات، وروى البيهقي في الشعب عن مالك بن دينار قال: بلغنا أن داود -عليه السلام- كان يقول في دعائه: اللهم اجعل حبك أحب إلي من سمعي وبصري، ومن الماء البارد، (وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب . قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك) .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أنس، ومن حديث أبي موسى وابن مسعود بنحوه اهـ . قلت: حديث أنس رواه أيضا مالك في رواية معين، وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وفي لفظ للترمذي بزيادة: وأنت مع من أحببت وقال: صحيح ورواه البيهقي بزيادة: وله ما اكتسب، وقال: غريب، وأما حديث ابن مسعود فرواه الشيخان، وأما حديث أبي موسى، فرواه أحمد والشيخان والقشيري في رسالته قال: حدثنا ابن فورك، حدثنا الحسن بن حماد بن فضالة، حدثنا يحيى بن حبيب، حدثنا مرحوم بن عبد العزيز عن سفيان الثوري، عن الأعمش عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال: المرء مع من أحب، وقد روي ذلك من حديث أبي ذر وجابر وعروة بن مضرس وصفوان بن عسال، وصفوان بن قدامة، وابن عبد الرحمن ومعاذ، فحديث أبي ذر رواه ابن منيع، وأبو نعيم والضياء، وحديث جابر رواه عبد بن حميد وأبو عوانة، وحديث عروة بن مضرس رواه الطبراني في الكبير، والشيرازي في الألقاب وابن عساكر، وحديث صفوان بن عسال رواه الطيالسي وأحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن خزيمة، والطبراني وابن حبان والضياء، وحديث صفوان بن قدامة رواه أبو عوانة وابن قانع والطبراني وابن حبان، وحديث عبد الرحمن بن صفوان، وهو صحابي صغير رواه الطبراني في الكبير، وحديث معاذ رواه الطبراني أيضا، (وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: من ذاق من خالص محبة الله تعالى شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر، وقال الحسن) البصري -رحمه الله تعالى-: (من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها) ، فالمحبة والزهد من ثمرات المعرفة قال: (والمؤمن لا يلهو حتى يفعل، فإذا تفكر حزن، وقال أبو سليمان الداراني) -رحمه الله تعالى-: (إن من خلق الله خلقا ما يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه، فكيف يشغلون عنه بالدنيا) نقله صاحب القوت، (ويروى أن عيسى -عليه السلام- مر) في سياحته (بثلاثة نفر) من العباد (قد نحلت أبدانهم) ، أي: ضعفت (وتغيرت ألوانهم فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى) من النحول والتغير؟ (فقالوا: الخوف من النار، فقال: حق على الله أن يؤمن الخائف) مما يخاف، (ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشد نحولا وتغيرا) من أولئك، (فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا: الشوق إلى الجنة، فقال: حق على الله أن يعطيكم [ ص: 550 ] ما ترجون، ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشد نحولا وتغيرا) من أولئك، (وكأن على وجوههم المرائي من النور) ، أي: تلمع وجوههم إضاءة كإضاءة المرائي، (فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: نحب الله عز وجل) لم نعبده خوفا من ناره ولا شوقا إلى جنته، (فقال: أنتم المقربون أنتم المقربون أنتم المقربون) ، نقله صاحب القوت بلفظ: وقد احترقوا من العبادة كأنهم الشنان البالية فقال لهم: ما أنتم؟ فقالوا: نحن عباد، قال: فلأي شيء تعبدتم؟ فقالوا: خوفنا الله من ناره فخفنا منها .

(وقال عبد الواحد بن زيد) البصري العابد: (مررت برجل قائم في الثلج) في يوم بارد (فقلت) له: (أما تجد البرد) فتنتقل عنه، (فقال: من شغله حب الله لم يجد البرد و) يروى (عن سري) بن المفلس (السقطي) -رحمه الله تعالى- (قال: تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها عليهم السلام فيقال: يا أمة موسى ويا أمة عيسى ويا أمة محمد) صلى الله عليه وسلم (غير المحبين لله، فإنهم ينادون: يا أولياء الله، هلموا إلى الله سبحانه فتكاد قلوبهم تنخلع فرحا) حيث خوطبوا بذلك الخطاب، (وقال هرم بن حيان) العبدي: قال ابن عبد البر: هو من صغار الصحابة وعده ابن أبي حاتم في الزهاد الثمانية من كبار التابعين (المؤمن إذا عرف ربه -عز وجل- أحبه، وإذا أحبه أقبل إليه) برحمته، (وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة، ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة، وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة، وقال يحيى بن معاذ) الرازي -رحمه الله تعالى-: (عفوه) تعالى (يستغرق الذنوب، فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال، فكيف حبه؟ وحبه يدهش العقول، فكيف وده؟ ووده ينسي ما دونه، فكيف لطفه؟ وفي بعض الكتب) المنزلة أن الله تعالى يقول: (عبدي أنا، وحقك لك محب، فبحقي عليك كن لي محبا) قال القشيري: رأيت ذلك بخط الأستاذ أبي علي -رحمه الله تعالى- يعني الدقاق، (وقال يحيى بن معاذ) الرازي -رحمه الله تعالى- (مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب) نقله القشيري في الرسالة، (وقال يحيى بن معاذ) أيضا في جملة ما كان يخاطب به مولاه (إلهي إني مقيم بفنائك مشغول بثنائك، صغيرا أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وأمكنتني من لطفك ونقلتني في الأحوال، وقلبتني في الأعمال سترا وتوبة وزهدا وشوقا ورضا وحبا تسقيني من حياضك، وتهملني في رياضك ملازما لأمرك، ومشغوفا بقولك ولما طر شاربي) ، أي: بقل (ولاح طائري فكيف أنصرف عنك اليوم كبيرا، وقد اعتدت هذا منك صغيرا، فلي ما بقيت حولك دمدمة وبالضراعة إليك همهمة) والدمدمة الحركة الخفية، والهمهمة الصوت الخفي; (لأني أحبك وكل محب بحبيبه مشغوف، وعن غير حبيبه مصروف) ، وله مثل هذا الكلام في الرجاء، وكانت وفاته سنة 358، (وقد ورد في حب الله تعالى من الأخبار والآثار ما لا يدخل في حصر حاصر، وذلك أمر ظاهر، وإنما الغموض في تحقيق معناه، فلنشتغل به) فإنه أكيد، والله الموفق .




الخدمات العلمية