ولذة مطالعة جمال الربوبية هي التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال حاكيا عن ربه تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر وقد تعجل بعض هذه اللذات في الدنيا لمن انتهى صفاء قلبه إلى الغاية ، ولذلك قال بعضهم : إني أقول : يا رب ، يا ألله فأجد ذلك على قلبي أثقل من الجبال لأن النداء يكون من وراء حجاب ، وهل رأيت جليسا ينادي جليسه وقال : إذا بلغ رجل في هذا العلم الغاية رماه الخلق بالحجارة أي : يخرج كلامه عن حد عقولهم فيرون ما يقوله جنونا أو كفرا .
فمقصد العارفين كلهم وصله ولقاؤه فقط ، فهي قرة العين التي لا تعلم نفس ما أخفي لهم منها وإذا حصلت انمحقت الهموم والشهوات كلها ، وصار القلب مستغرقا بنعيمها ، فلو ألقي في النار لم يحس بها لاستغراقه ولو عرض عليه نعيم الجنة لم يلتفت إليه لكمال نعيمه وبلوغه الغاية التي ليس فوقها غاية وليت شعري من لم يفهم إلا حب المحسوسات كيف يؤمن بلذة
nindex.php?page=treesubj&link=28725النظر إلى وجه الله تعالى وما له صورة ولا شكل وأي معنى لوعد الله تعالى به عباده وذكره أنه أعظم النعم ، بل من عرف الله عرف أن اللذات المفرقة بالشهوات المختلفة كلها تنطوي تحت هذه اللذة كما قال بعضهم .
كانت لقلبي أهواء مفرقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي فصار يحسدني من كنت أحسده
وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي تركت للناس دنياهم ودينهم
شغلا بذكرك يا ديني ودنيائي
ولذلك قال بعضهم .
وهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته
وما أرادوا بهذا إلا إيثار لذة القلب في معرفة الله تعالى على لذة الأكل والشرب والنكاح ، فإن الجنة معدن تمتع الحواس فأما القلب فلذته في لقاء الله فقط .
ومثال أطوار الخلق في لذتهم ما نذكره وهو أن الصبي في أول حركته وتمييزه يظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب واللهو حتى يكون ذلك عنده ألذ من سائر الأشياء ثم يظهر بعده لذة الزينة ولبس الثياب وركوب الدواب فيستحقر معها لذة اللعب ثم يظهر بعده لذة الوقاع وشهوة النساء فيترك بها جميع ما قبلها في الوصول إليها ثم تظهر لذة الرياسة والعلو والتكاثر وهي آخر لذات الدنيا وأعلاها وأقواها كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر الآية .
ثم بعد هذا تظهر غريزة أخرى يدرك بها
nindex.php?page=treesubj&link=28656لذة معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله فيستحقر معها جميع ما قبلها فكل متأخر فهو أقوى ، وهذا هو الأخير ؛ إذ يظهر حب اللعب في سن التمييز وحب النساء والزينة في سن البلوغ وحب الرياسة بعد العشرين ، وحب العلوم بقرب الأربعين وهي الغاية العليا وكما أن الصبي يضحك على من يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرياسة ، فكذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرياسة ويشتغل بمعرفة الله تعالى ، والعارفون يقولون :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=38إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=39فسوف تعلمون .
وَلَذَّةُ مُطَالَعَةِ جَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ هِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَقَدْ تُعَجَّلُ بَعْضُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ فِي الدُّنْيَا لِمَنِ انْتَهَى صَفَاءُ قَلْبِهِ إِلَى الْغَايَةِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنِّي أَقُولُ : يَا رَبِّ ، يَا أَللَّهُ فَأَجِدُ ذَلِكَ عَلَى قَلْبِي أَثْقَلَ مِنَ الْجِبَالِ لِأَنَّ النِّدَاءَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَهَلْ رَأَيْتَ جَلِيسًا يُنَادِي جَلِيسَهُ وَقَالَ : إِذَا بَلَغَ رجلٌ فِي هَذَا الْعِلْمِ الْغَايَةَ رَمَاهُ الْخَلْقُ بِالْحِجَارَةِ أَيْ : يَخْرُجُ كَلَامُهُ عَنْ حَدِّ عُقُولِهِمْ فَيَرَوْنَ مَا يَقُولُهُ جُنُونًا أَوْ كُفْرًا .
فَمَقْصِدُ الْعَارِفِينَ كُلِّهِمْ وَصْلُهُ وَلِقَاؤُهُ فَقَطْ ، فَهِيَ قُرَّةُ الْعَيْنِ الَّتِي لَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِي لَهُمْ مِنْهَا وَإِذَا حَصَلَتِ انْمَحَقَتِ الْهُمُومُ وَالشَّهَوَاتُ كُلُّهَا ، وَصَارَ الْقَلْبُ مُسْتَغْرِقًا بِنَعِيمِهَا ، فَلَوْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ يَحُسَّ بِهَا لِاسْتِغْرَاقِهِ وَلَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ نَعِيمُ الْجَنَّةِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ لِكَمَالِ نَعِيمِهِ وَبُلُوغِهِ الْغَايَةَ الَّتِي لَيْسَ فَوْقَهَا غَايَةٌ وَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ لَمْ يَفْهَمْ إِلَّا حُبَّ الْمَحْسُوسَاتِ كَيْفَ يُؤْمِنُ بِلَذَّةِ
nindex.php?page=treesubj&link=28725النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا لَهُ صُورَةٌ وَلَا شَكْلٌ وَأَيُّ مَعْنًى لِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ وَذِكْرِهِ أَنَّهُ أَعْظَمُ النِّعَمِ ، بَلْ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ عَرَفَ أَنَّ اللَّذَّاتِ الْمُفَرَّقَةَ بِالشَّهَوَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ كُلُّهَا تَنْطَوِي تَحْتَ هَذِهِ اللَّذَّةِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ .
كَانَتْ لِقَلْبِي أَهْوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ فَاسْتَجْمَعَتْ مُذْ رَأَتْكَ الْعَيْنُ أَهْوَائِي فَصَارَ يَحْسُدُنِي مَنْ كُنْتُ أَحْسُدُهُ
وَصِرْتُ مَوْلَى الْوَرَى مُذْ صِرْتَ مَوْلَائِي تَرَكْتُ لِلنَّاسِ دُنْيَاهُمْ وَدِينَهُمْ
شُغْلًا بِذِكْرِكَ يَا دِينِي وَدُنْيَائِي
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ .
وَهَجْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ نَارِهِ وَوَصْلُهُ أَطْيَبُ مِنْ جَنَّتِهِ
وَمَا أَرَادُوا بِهَذَا إِلَّا إِيثَارَ لَذَّةِ الْقَلْبِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لَذَّةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ مَعْدِنُ تَمَتُّعِ الْحَوَاسِّ فَأَمَّا الْقَلْبُ فَلَذَّتُهُ فِي لِقَاءِ اللَّهِ فَقَطْ .
وَمِثَالُ أَطْوَارِ الْخَلْقِ فِي لَذَّتِهِمْ مَا نَذْكُرُهُ وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ فِي أَوَّلِ حَرَكَتِهِ وَتَمْيِيزِهِ يَظْهَرُ فِيهِ غَرِيزَةٌ بِهَا يَسْتَلِذُّ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَلَذَّ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ يَظْهَرُ بَعْدَهُ لَذَّةَ الزِّينَةِ وَلَبْسَ الثِّيَابِ وَرُكُوبَ الدَّوَابِّ فَيَسْتَحْقِرُ مَعَهَا لَذَّةَ اللَّعِبِ ثُمَّ يَظْهَرُ بَعْدَهُ لَذَّةُ الْوِقَاعِ وَشَهْوَةُ النِّسَاءِ فَيَتْرُكُ بِهَا جَمِيعَ مَا قَبْلَهَا فِي الْوُصُولِ إِلَيْهَا ثُمَّ تَظْهَرُ لَذَّةُ الرِّيَاسَةِ وَالْعُلُوِّ وَالتَّكَاثُرِ وَهِيَ آخِرُ لِذَاتِ الدُّنْيَا وَأَعْلَاهَا وَأَقْوَاهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ الْآيَةَ .
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا تَظْهَرُ غَرِيزَةٌ أُخْرَى يُدْرِكُ بِهَا
nindex.php?page=treesubj&link=28656لَذَّةَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ أَفْعَالِهِ فَيُسْتَحْقَرُ مَعَهَا جَمِيعُ مَا قَبْلَهَا فَكُلُّ مُتَأَخِّرٍ فَهُوَ أَقْوَى ، وَهَذَا هُوَ الْأَخِيرُ ؛ إِذْ يَظْهَرُ حُبُّ اللَّعِبِ فِي سِنِّ التَّمْيِيزِ وَحُبُّ النِّسَاءِ وَالزِّينَةِ فِي سِنِّ الْبُلُوغِ وَحُبُّ الرِّيَاسَةِ بَعْدَ الْعِشْرِينَ ، وَحُبُّ الْعُلُومِ بِقُرْبِ الْأَرْبَعِينَ وَهِيَ الْغَايَةُ الْعُلْيَا وَكَمَا أَنَّ الصَّبِيَّ يَضْحَكُ عَلَى مَنْ يَتْرُكُ اللَّعِبَ وَيَشْتَغِلُ بِمُلَاعَبَةِ النِّسَاءِ وَطَلَبِ الرِّيَاسَةِ ، فَكَذَلِكَ الرُّؤَسَاءُ يَضْحَكُونَ عَلَى مَنْ يَتْرُكُ الرِّيَاسَةَ وَيَشْتَغِلُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْعَارِفُونَ يَقُولُونَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=38إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=39فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ .