بيان السبب في تفاوت الناس في الحب .
اعلم أن المؤمنين مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبة ولكنهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة وفي حب الدنيا ؛ إذ الأشياء إنما تتفاوت بتفاوت أسبابها وأكثر الناس ليس لهم من الله تعالى إلا الصفات والأسماء التي قرعت سمعهم . فتلقنوها وحفظوها وربما تخيلوا لها معاني يتعالى عنها رب الأرباب وربما لم يطلعوا على حقيقتها ولا تخيلوا لها معنى فاسدا ، بل آمنوا بها إيمان تسليم وتصديق واشتغلوا بالعمل وتركوا البحث وهؤلاء هم أهل السلامة من أصحاب اليمين ، والمتخيلون هم الضالون ، والعارفون بالحقائق هم المقربون .
وقد ذكر الله حال الأصناف الثلاثة في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=88فأما إن كان من المقربين nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=89فروح وريحان وجنت نعيم الآية .
فإن كنت لا تفهم الأمور إلا بالأمثلة فلنضرب لتفاوت الحب مثالا فنقول : أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي مثلا : يشتركون في حب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله الفقهاء منهم والعوام ؛ لأنهم مشتركون في معرفة فضله ودينه وحسن سيرته ومحامد خصاله ، ولكن العامي يعرف علمه مجملا والفقيه يعرفه مفصلا ، فتكون معرفة الفقيه به أتم وإعجابه به وحبه له أشد فإن من رأى تصنيف مصنف فاستحسنه وعرف به فضله أحبه لا محالة ومال إليه قلبه ، فإن رأى تصنيفا آخر أحسن منه وأعجب تضاعف لا محالة حبه ؛ لأنه تضاعفت معرفته بعلمه ، وكذلك يعتقد الرجل في الشاعر أنه حسن الشعر فيحبه ، فإذا سمع من غرائب شعره ما عظم فيه حذقه وصنعته ازداد به معرفة وازداد له حبا ، وكذا سائر الصناعات والفضائل .
والعامي قد يسمع أن فلانا مصنف وأنه حسن التصنيف ولكن لا يدري ما في التصنيف فيكون ، له معرفة مجملة ويكون له بحسبه ميل مجمل ، والبصير إذا فتش عن التصانيف واطلع على ما فيها من العجائب تضاعف حبه لا محالة ؛ لأن عجائب الصنعة والشعر والتصنيف تدل على كمال صفات الفاعل والمصنف ، والعالم بجملته صنع الله تعالى وتصنيفه والعامي يعلم ذلك ويعتقده وأما البصير فإنه يطالع تفصيل صنع الله تعالى فيه حتى يرى في البعوض مثلا من عجائب صنعه ما ينبهر به عقله ويتحير فيه لبه ويزداد بسببه لا محالة عظمة الله وجلاله وكمال صفاته في قلبه ، فيزداد له حبا وكلما ازداد على أعاجيب صنع الله اطلاعا استدل بذلك على عظمة الله الصانع وجلاله وازداد به معرفة وله حبا .
وبحر هذه المعرفة أعني
nindex.php?page=treesubj&link=29426_28683_32438معرفة عجائب صنع الله تعالى بحر لا ساحل له فلا جرم تفاوت أهل المعرفة في الحب لا حصر له ومما يتفاوت بسببه الحب اختلاف الأسباب الخمسة التي ذكرناها للحب ؛ فإن من يحب الله مثلا لكونه محسنا إليه منعما عليه ولم يحبه لذاته ضعفت محبته ؛ إذ تتغير بتغير الإحسان ، فلا يكون حبه في حالة البلاء كحبه في حالة الرضا والنعماء .
وأما من يحبه لذاته ولأنه مستحق للحب بسبب كماله وجماله ومجده وعظمته ؛ فإنه لا يتفاوت حبه بتفاوت الإحسان إليه .
فهذا وأمثاله هو سبب
nindex.php?page=treesubj&link=18467_28683_32873_30483تفاوت الناس في المحبة والتفاوت في المحبة هو السبب للتفاوت في سعادة الآخرة .
ولذلك ؛ قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=21وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا .
بَيَانُ السَّبَبِ فِي تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْحُبِّ .
اعْلَمْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُشْتَرِكُونَ فِي أَصْلِ الْحُبِّ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي أَصْلِ الْمَحَبَّةِ وَلَكِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي الْمَعْرِفَةِ وَفِي حُبِّ الدُّنْيَا ؛ إِذِ الْأَشْيَاءُ إِنَّمَا تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ أَسْبَابِهَا وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا الصِّفَاتُ وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي قَرَعَتْ سَمْعَهُمْ . فَتَلَقَّنُوهَا وَحَفِظُوهَا وَرُبَّمَا تَخَيَّلُوا لَهَا مَعَانِيَ يَتَعَالَى عَنْهَا رَبُّ الْأَرْبَابِ وَرُبَّمَا لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى حَقِيقَتِهَا وَلَا تَخَيَّلُوا لَهَا مَعْنًى فَاسِدًا ، بَلْ آمَنُوا بِهَا إِيمَانَ تَسْلِيمٍ وَتَصْدِيقٍ وَاشْتَغَلُوا بِالْعَمَلِ وَتَرَكُوا الْبَحْثَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ السَّلَامَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ، وَالْمُتَخَيِّلُونَ هُمُ الضَّالُّونَ ، وَالْعَارِفُونَ بِالْحَقَائِقِ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ .
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ حَالَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=88فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=89فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ الْآيَةَ .
فَإِنْ كُنْتَ لَا تَفْهَمُ الْأُمُورَ إِلَّا بِالْأَمْثِلَةِ فَلْنَضْرِبْ لِتَفَاوُتِ الْحُبِّ مِثَالًا فَنَقُولُ : أَصْحَابُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ مَثَلًا : يَشْتَرِكُونَ فِي حُبِّ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ وَالْعَوَامِّ ؛ لِأَنَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي مَعْرِفَةِ فَضْلِهِ وَدِينِهِ وَحُسْنِ سِيرَتِهِ وَمَحَامِدِ خِصَالِهِ ، وَلَكِنَّ الْعَامِّيَّ يَعْرِفُ عِلْمَهُ مُجْمَلًا وَالْفَقِيهَ يَعْرِفُهُ مُفَصَّلًا ، فَتَكُونُ مَعْرِفَةُ الْفَقِيهِ بِهِ أَتَمُّ وَإِعْجَابُهُ بِهِ وَحُبُّهُ لَهُ أَشَدَّ فَإِنَّ مَنْ رَأَى تَصْنِيفَ مُصَنِّفٍ فَاسْتَحْسَنَهُ وَعَرَفَ بِهِ فَضْلَهُ أَحَبَّهُ لَا مَحَالَةَ وَمَالَ إِلَيْهِ قَلْبُهُ ، فَإِنْ رَأَى تَصْنِيفًا آخَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ وَأَعْجَبَ تَضَاعَفَ لَا مَحَالَةَ حُبُّهُ ؛ لِأَنَّهُ تَضَاعَفَتْ مَعْرِفَتُهُ بِعِلْمِهِ ، وَكَذَلِكَ يَعْتَقِدُ الرَّجُلُ فِي الشَّاعِرِ أَنَّهُ حَسَنُ الشِّعْرِ فَيُحِبُّهُ ، فَإِذَا سَمِعَ مِنْ غَرَائِبِ شِعْرِهِ مَا عَظُمَ فِيهِ حَذَقُهُ وَصَنْعَتُهُ ازْدَادَ بِهِ مَعْرِفَةً وَازْدَادَ لَهُ حُبًّا ، وَكَذَا سَائِرُ الصِّنَاعَاتِ وَالْفَضَائِلِ .
وَالْعَامِّيُّ قَدْ يَسْمَعُ أَنَّ فُلَانًا مُصَنِّفٌ وَأَنَّهُ حَسَنُ التَّصْنِيفِ وَلَكِنْ لَا يَدْرِي مَا فِي التَّصْنِيفِ فَيَكُونُ ، لَهُ مَعْرِفَةٌ مُجْمَلَةٌ وَيَكُونُ لَهُ بِحَسَبِهِ مَيْلٌ مُجْمَلٌ ، وَالْبَصِيرُ إِذَا فَتَّشَ عَنِ التَّصَانِيفِ وَاطَّلَعَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ تَضَاعَفَ حُبُّهُ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّ عَجَائِبَ الصَّنْعَةِ وَالشِّعْرِ وَالتَّصْنِيفِ تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ صِفَاتِ الْفَاعِلِ وَالْمُصَنِّفِ ، وَالْعَالَمُ بِجُمْلَتِهِ صُنْعُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَصْنِيفُهُ وَالْعَامِّيُّ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيَعْتَقِدُهُ وَأَمَّا الْبَصِيرُ فَإِنَّهُ يُطَالِعُ تَفْصِيلَ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ حَتَّى يَرَى فِي الْبَعُوضِ مَثَلًا مِنْ عَجَائِبِ صُنْعِهِ مَا يَنْبَهِرُ بِهِ عَقْلُهُ وَيَتَحَيَّرُ فِيهِ لُبُّهُ وَيَزْدَادُ بِسَبَبِهِ لَا مَحَالَةَ عَظَمَةُ اللَّهِ وَجَلَالُهُ وَكَمَالُ صِفَاتِهِ فِي قَلْبِهِ ، فَيَزْدَادُ لَهُ حُبًّا وَكُلَّمَا ازْدَادَ عَلَى أَعَاجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ اطِّلَاعًا اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ الصَّانِعِ وَجَلَالِهِ وَازْدَادَ بِهِ مَعْرِفَةً وَلَهُ حُبًّا .
وَبَحْرُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ أَعْنِي
nindex.php?page=treesubj&link=29426_28683_32438مَعْرِفَةَ عَجَائِبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ فَلَا جَرَمَ تَفَاوُتُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي الْحُبِّ لَا حَصْرَ لَهُ وَمِمَّا يَتَفَاوَتُ بِسَبَبِهِ الْحُبُّ اخْتِلَافُ الْأَسْبَابِ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلْحُبِّ ؛ فَإِنَّ مَنْ يُحِبُّ اللَّهَ مَثَلًا لِكَوْنِهِ مُحْسِنًا إِلَيْهِ مُنْعِمًا عَلَيْهِ وَلَمْ يُحِبَّهُ لِذَاتِهِ ضَعُفَتْ مَحَبَّتُهُ ؛ إِذْ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْإِحْسَانِ ، فَلَا يَكُونُ حُبُّهُ فِي حَالَةِ الْبَلَاءِ كَحُبِّهِ فِي حَالَةِ الرِّضَا وَالنَّعْمَاءِ .
وَأَمَّا مَنْ يُحِبُّهُ لِذَاتِهِ وَلِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْحُبِّ بِسَبَبِ كَمَالِهِ وَجَمَالِهِ وَمَجْدِهِ وَعَظَمَتِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ حُبُّهُ بِتَفَاوُتِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ .
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ هُوَ سَبَبُ
nindex.php?page=treesubj&link=18467_28683_32873_30483تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّفَاوُتُ فِي الْمَحَبَّةِ هُوَ السَّبَبُ لِلتَّفَاوُتِ فِي سَعَادَةِ الْآخِرَةِ .
وَلِذَلِكَ ؛ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=21وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا .