الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد ذكرنا أن محبة العبد لله تعالى حقيقة وليست بمجاز ؛ إذ المحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى الشيء الموافق ، والعشق عبارة عن الميل الغالب المفرط وقد بينا أن الإحسان موافق للنفس والجمال موافق أيضا ، وأن الجمال والإحسان تارة يدرك بالبصر وتارة يدرك بالبصيرة ، والحب يتبع كل واحد منهما فلا يختص بالبصر .

فأما حب الله للعبد فلا يمكن أن يكون بهذا المعنى أصلا ، بل الأسامي كلها إذا أطلقت على الله تعالى وعلى غير الله لم تنطلق عليهما بمعنى واحد أصلا ، حتى إن اسم الوجود الذي هو أعم الأسماء اشتراكا لا يشمل الخالق والخلق على وجه واحد ، بل كل ما سوى الله تعالى فوجوده مستفاد من وجود الله تعالى ؛ فالوجود التابع لا يكون مساويا للوجود المتبوع .

وإنما الاستواء في إطلاق الاسم نظيره اشتراك الفرس والشجر في اسم الجسم ؛ إذ معنى الجسمية وحقيقتها متشابهة فيهما من غير استحقاق أحدهما لأن يكون فيه أصلا ؛ فليست الجسمية لأحدهما مستفادة من الآخر ، وليس كذلك اسم الوجود لله ولا لخلقه وهذا التباعد في سائر الأسامي أظهر كالعلم والإرادة .

والقدرة وغيرها ؛ فكل ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق ، وواضع اللغة إنما وضع هذه الأسامي أولا للخلق ؛ فإن الخلق أسبق إلى العقول والأفهام من الخالق ؛ فكان استعمالها في حق الخالق بطريق الاستعارة والتجوز والنقل والمحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى موافق ملائم ، وهذا إنما يتصور في نفس ناقصة فاتها ما يوافقها فتستفيد بنيله كمالا فتلتذ بنيله ، وهذا محال على الله تعالى ؛ فإن كل كمال وجمال وبهاء وجلال ممكن في حق الإلهية فهو حاضر وحاصل وواجب الحصول أبدا وأزلا ، ولا يتصور تجدده ولا زواله ، فلا يكون له إلى غيره نظر من حيث إنه غيره ، بل نظره إلى ذاته وأفعاله فقط وليس في الوجود إلا ذاته وأفعاله ولذلك قال الشيخ أبو سعيد الميهني رحمه الله تعالى لما قرئ عليه قوله تعالى : يحبهم ويحبونه فقال : بحق يحبهم ؛ فإنه ليس يحب إلا نفسه على معنى أنه الكل ، وأن ليس في الوجود غيره فمن لا يحب إلا نفسه وأفعال نفسه وتصانيف نفسه فلا يجاوز حبه ذاته وتوابع ذاته من حيث هي متعلقة بذاته ؛ فهو إذا لا يحب إلا نفسه وما ورد من الألفاظ في حبه لعباده فهو مؤول ويرجع معناه إلى كشف الحجاب عن قلبه حتى يراه بقلبه وإلى تمكينه إياه من القرب منه وإلى إرادته ذلك به في الأزل ؛ فحبه لمن أحبه أزلي مهما أضيف إلى الإرادة الأزلية التي اقتضت تمكين هذا العبد من سلوك طرق هذا القرب ، وإذا أضيف إلى فعله الذي يكشف الحجاب عن قلب عبده فهو حادث يحدث بحدوث السبب المقتضي له ، كما قال تعالى لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فيكون تقربه بالنوافل سببا لصفاء باطنه وارتفاع الحجاب عن قلبه وحصوله في درجة القرب من ربه فكل ، ذلك فعل الله تعالى ولطفه به فهو معنى حبه .

ولا يفهم هذا إلا بمثال ، وهو أن الملك قد يقرب عبده من نفسه ويأذن له في كل وقت في حضور بساطه لميل الملك إليه إما لينصره بقوته ، أو ليستريح بمشاهدته ، أو ليستشيره في رأيه ، أو ليهيئ أسباب طعامه وشرابه ؛ فيقال : إن الملك يحبه ويكون معناه ميله إليه لما فيه من المعنى الموافق الملائم له .

وقد يقرب عبدا ولا يمنعه من الدخول عليه لا للانتفاع به ولا للاستنجاد به ولكن لكون العبد في نفسه موصوفا من الأخلاق المرضية والخصال الحميدة بما يليق به أن يكون قريبا من حضرة الملك وافر الحظ من قربه ، مع أن الملك لا غرض له فيه أصلا ، فإذا رفع الملك الحجاب بينه وبينه ، يقال : قد أحبه ، وإذا اكتسب من الخصال الحميدة ما اقتضى رفع الحجاب يقال قد توصل وحبب نفسه إلى الملك .

فحب الله للعبد إنما يكون بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول .

وإنما يصح تمثيله بالمعنى الثاني بشرط أن لا يسبق إلى فهمك دخول تغير عليه عند تجدد القرب ؛ فإن الحبيب هو القريب من الله تعالى ، والقرب من الله في البعد من صفات البهائم والسباع والشياطين والتخلق بمكارم الأخلاق التي هي الأخلاق الإلهية فهو قرب بالصفة لا بالمكان ومن لم يكن قريبا فصار قريبا فقد تغير ، فربما يظن بهذا أن القرب لما تجدد فقد تغير وصف العبد والرب جميعا ؛ إذ صار قريبا بعد أن لم يكن ، وهو محال في حق الله تعالى ؛ إذ التغير عليه محال ، بل لا يزال في نعوت الكمال والجلال على ما كان عليه في أزل الآزال ، ولا ينكشف هذا إلا بمثال في القرب بين الأشخاص ؛ فإن الشخصين قد يتقاربان بتحركهما جميعا ، وقد يكون أحدهما ثابتا فيتحرك الآخر فيحصل القرب بتغير في أحدهما من غير تغير في الآخر بل القرب في الصفات أيضا ، كذلك فإن التلميذ يطلب القرب من درجة أستاذه في كمال العلم وجماله ، والأستاذ واقف في كمال علمه غير متحرك بالنزول إلى درجة تلميذه ، والتلميذ متحرك مترق من حضيض الجهل إلى ارتفاع العلم ، فلا يزال دائبا .

في التغير والترقي إلى أن يقرب من أستاذه ، والأستاذ ثابت غير متغير ، فكذلك ينبغي أن يفهم ترقي العبد في درجات القرب فكلما صار أكمل صفة وأتم علما وإحاطة بحقائق الأمور وأثبت قوة في قهر الشيطان وقمع الشهوات وأظهر نزاهة عن الرذائل صار أقرب من درجة الكمال ، ومنتهى الكمال لله ، وقرب كل واحد من الله تعالى بقدر كماله .

نعم ؛ قد يقدر التلميذ على القرب من الأستاذ وعلى مساواته وعلى مجاوزته ، وذلك في حق الله محال ؛ فإنه لا نهاية لكماله ، وسلوك العبد في درجات الكمال متناه ، ولا ينتهي إلا إلى حد محدود ، فلا مطمع له في المساواة .

التالي السابق


(وقد ذكرنا أن محبة العبد لله تعالى حقيقة وليست بمجاز؛ إذ المحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى الشيء) الملائم (الموافق، والعشق) الذي هو أحد مراتبها (عبارة عن الميل الغالب المفرط) المتجاوز عن الحد، وقد اختلف في إطلاقه، وقد أنكره جماعة من العلماء، ففي الرسالة للقشيري: سمعت أبا علي الدقاق يقول: العشق مجاوزة الحد في المحبة، والحق لا يوصف بأنه يجاوز الحد فلا يوصف بالعشق، ولو جمع الخلق كلهم لشخص واحد لم يلغ ذلك استحقاق قدر الحق، فلا يقال: إن عبدا جاوز الحد في محبة الله ولا يوصف الحق بأنه يعشق ولا العبد في صفته سبحانه، فنفى العشق، ولا سبيل له إلى وصف الحق لا من الحق للعبد ولا من العبد للحق، انتهى .

والذي يقتضيه سياق المصنف هنا وفي بعض مواضع أخر سبق من الكتاب جواز إطلاقه في وصف العبد مع الله تعالى، وقال صاحب القوت: وقد كان أبو يزيد وأبو شعيب المقفع وسري بن مفلس وأبو عبد الله بن الجلاء والجنيد بعدهم رحمهم الله تعالى يذكرون العشق في مقامات خليل ومحب، وزاد أبو يزيد ذكر العشق في مقام وجعله معشوقا، وقد كان يشير بذلك ويظهره عن نفسه لنفسه كأنهم يريدون وصفا من الحب مخصوصا؛ لا عن فعل ولا سبب، بل لوصف تحلى به، ثم قال: إلا أن هذا ليس من معارف العامة ولا تهتدي إليه قلوبهم ولا يقدح في جوهر عقولهم، وليست صفاتهم مكانا لهذا، ولا أخلاقهم مخلقة عليه، ولا علومهم نافذة فيه، فذكره مذكر؛ لأن العقول تنكره والقلوب تمجه والهمم لا تسري فيه؛ فلذلك كان طيه أحسن من نشره، وإنما ينتسخ من قلب إلى قلب، وقد روينا لفظا من هذا المقام في أخبار داود -عليه السلام- أن الله تعالى أوحى إليه: تزعم أنك منقطع إلي وتدعي عشقي وتسيء الظن بي؟! وقد تقدم باقيه (وقد بينا أن الإحسان موافق للنفس والجمال موافق أيضا، وأن الجمال والإحسان تارة يدرك بالبصر وتارة بالبصيرة، والحب يتبع كل واحد منهما فلا يختص بالبصر) هذا ظاهر في حب العبد لله تعالى (فأما حب الله للعبد فلا يمكن أن يكون بهذا المعنى أصلا، بل الأسامي كلها إذا أطلقت على الله تعالى وعلى غير الله) تعالى (لم تنطلق عليهما بمعنى واحد أصلا، حتى إن اسم الوجود الذي هو أعم الأسماء اشتراكا لا يشمل الخالق والخلق على وجه واحد، بل كل ما سوى الله تعالى فوجوده مستفاد [ ص: 611 ] من وجود الله تعالى؛ فالوجود التابع لا يكون مساويا للوجود المتبرع، وإنما الاستواء في إطلاق الاسم نظيره اشتراك الفرس والشجر في اسم الجسم؛ إذ معنى الجسمية وحقيقتها متشابه فيهما من غير استحقاق أحدهما لأن يكون فيه أصلا؛ فليست الجسمية لأحدهما مستفادة من الآخر، وليس كذلك اسم الوجود لله ولا لخلقه) قال السيد الشريف في الرسالة الوجودية التي عبر عنها بعض العارفين بالفارسية ما نصه: اعلم أن الوجود له مراتب:

الأولى: وجود مستفاد من الغير، وهو المشهور في الماهيات الممكنات؛ فهذا لا بد من ثلاثة أشياء، أحدها: ذات ماهية الممكن .

والثاني: وجود هو مستفاد من الغير .

والثالث: هو الغير مفيض الوجود على الماهية، ولا شك أن انفكاك الوجود في هذه الموجودات بنظر ذاتها جائز، بل واقع. الثانية: ذات تقتضي وجودا من حيث إن انفكاكه محال كوجود واجب الوجود عند جمهور المتكلمين، فهاهنا لا بد من الاثنينية، أحدها ذات الواجب، والثاني وجود هو المستفاد منها، وانفكاك الوجود من هذه الموجودات محال لكن باعتبار مغايرتها للذات في التصور يمكن انفكاكه. الثالثة: موجود بوجوده وذاته عينه وقائم بذاته لا بغيره؛ فحقيقة الوجود في هذه المرتبة لا يكون إلا أمرا واحدا، وهو موجود، ووجود الأشياء موجود منه فلاتحاد الوجود والذات انفكاك التصور محال، وفي الوجودية فوق هذه المرتبة لا يمكن التصور، وهذا كحال الواجب الوجود عند المتكلمين وعند الطائفة الصوفية واجب الوجود وجود بحت؛ يعني في واجب الوجود لا يكون شيئان ذات ووجود هو عارض لها، بل واجب الوجود هو ذات محض قائم بذاته، وهم مع الطائفة الأولى متفقون عليه بهذا المقدار ولم يقولوا: الوجود عين الموجود، هذا يفهم من بديهيات العقل لا يمكن، الوجود أعلى وأقوى من هذه المرتبة، وإن كان ممكنا من هذه المرتبة فوقية الوجود لا بد هو واجب الوجود لا هذا، وأرباب النظر يقولون: العقل يحكم أن حقيقته واجب الوجود ينبغي أن يكون وجودا، وواجب الوجود لا ينبغي أن يكون كليا؛ يعني لا يكون كليا والعموم عارض له؛ لأنه إن كان كليا لا بد أن يكون في الخارج له صورة؛ فيلزم أن يكون واجب الوجود مركبا من كلى، وتعين التركيب على واجب الوجود محال، بل ينبغي لواجب الوجود أن يكون في حد ذاته متعينا، وتعينه عين ذاته، حتى لا يتصور بوجه من الوجوه التركيب والتعدد، فينبغي أن يكون الواجب قائما بذاته، وإن كان قائما بالغير فيكون محتاجا إليه، ونسبة الاحتياج إلى الواجب محال، بل تصور الاحتياج إليه كفر، فلزم أن تكون حقيقة الوجود عين الواجب، فحقيقة الوجود بذاته يكون متعينا حقيقيا وقائما بذاته؛ فحينئذ تعدد حقيقة الوجود بحسب الأفراد وعروض حقيقة الوجود لما هيأت الممكنات من المحالات، وقد فهم من هذا أن واجب الوجود وجود مطلق، والمراد بالمطلق أن لا يكون عارض الماهية، بل قائم بذاته ومقيد بتعينه وبذاته متعين ومقيد، وإن إطلاق الوجود على غير واجب الوجود مجاز؛ لأن الوجود عارضه ولا جزؤه ولا عينه، بل موجودية الأشياء لها تعلق به وله أثر فيها، ولا يكون الوجود لها عارضا ولا فيها. هذا كلام أرباب البحث والنظر والعقل، والصوفية يقولون: عندنا طريق غير طريق العقل، وهو المكاشفة، والعقل فيها عاجز، وقد تقرر عندنا أن حقيقة الوجود عين واجب الوجود، وهو لا كلي ولا جزئي ولا خاص ولا عام، بل مطلق من جميع القيود حتى من قيد الإطلاق أيضا، وهذه الحقيقة في جميع الأشياء تتصف بوجود التجلي والظهور، يعني لا تكون الأشياء خالية عنه، وإن كانت خالية عن حقيقة الوجود، فإن لوحظت باعتبار الإطلاق المذكور سميت أحدية الجامعية، وباعتبار عدم القيود والتعينات سميت أحدية الصرف. اهـ .

(وهذا التباعد في سائر الأسامي أظهر كالعلم والإرادة والقدرة وغيرها؛ فكل ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق، وواضع اللغة إنما وضع هذه الأسامي أولا للخلق؛ فإن الخلق أسبق إلى العقول والأفهام من الخالق؛ فكان استعمالها في حق الخالق بطريق الاستعارة والتجوز والنقل) .

قال المصنف في المقصد الأسنى: وكأنا إذا عرفنا أن الله تعالى حي قادر عالم فلم نعرف أولا إلا أنفسنا ولم نعرفه إلا بأنفسنا؛ إذ الأصم لا يتصور أن يفهم معنى قولنا إن الله سميع، والأكمه لا يعرف معنى قولنا إنه بصير، وكذلك إذا قال القائل: كيف يكون الله عالما بالأشياء؛ فنقول له: كما تعلم أنت أشياء، فإذا قال: كيف يكون قادرا؟ فنقول: كما تقدر أنت، فلا يمكنه أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه [ ص: 612 ] ما يناسبه، فيعلم أولا ما هو متصف به، ثم يعلم غيره بالمناسبة إليه، فإذا كان لله وصف وخاصية ليس فينا ما يناسبه ويشاركه ولو في الاسم لم يتصور فهمه البتة، فما عرف أحد إلا نفسه، ثم قايس بين صفات الله تعالى وبين صفات نفسه، وتتعالى صفات الله تعالى وتتقدس عن أن تشبه صفاتنا (والمحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى موافق ملائم، وهذا إنما يتصور في نفس ناقصة فاتها ما يوافقها فتستفيد بنيله كمالا فتلتذ بنيله، وهذا محال على الله تعالى؛ فإن كل جمال وكمال وبهاء وجلال ممكن في حق الإلهية فهو حاضر وحاصل وواجب الحصول أبدا وأزلا، ولا يتصور تجدده ولا زواله، فلا يكون له إلى غيره نظر من حيث إنه غيره، بل نظره إلى ذاته وأفعاله فقط وليس في الوجود إلا ذاته وأفعاله) ، وهذا أيضا صريح في القول بوحدة الوجود، وقد صرح بذلك الشيخ الأكبر في مواضع من الفتوحات (ولذلك قال الشيخ أبو سعيد) الفضيل بن أحمد بن محمد (الميهني) بكسر الميم وسكون التحتية نسبة إلى ميهنة، قرية بخابران بني سرخس وأبي ورد، وأبو سعيد المذكور يعرف بابن أبي الحسن صاحب كرامات، وسمع الحديث من زاهر السرخسي وغيره، توفي سنة 44 (رحمه الله تعالى لما قرئ عليه قوله تعالى:) فسوف يأتي الله بقوم (يحبهم ويحبونه فقال: بحق يحبهم؛ فإنه ليس يحب إلا نفسه على معنى أنه الكل، وأن ليس في الوجود غيره) ؛ إذ وحدته ذاتية وكثرته اعتبارية، فهو عين كلا في تعيناته من حيث الظهور فقط (فمن لا يحب إلا نفسه وأفعال نفسه وتصانيف نفسه فلا يجاوز حبه ذاته وتوابع ذاته من حيث هي متعلقة بذاته؛ فهو إذا لا يحب إلا نفسه) هذا من حيث الحقيقة (وما ورد من الألفاظ في حبه لعباده فهو مؤول ويرجع معناه) إما (إلى كشف الحجاب عن قلبه حتى يراه بقلبه) ، أي: بعين بصيرته الباطنة (و) إما (إلى تمكينه إياه من القرب منه و) إما (إلى إرادته ذلك في الأزل؛ فحبه لمن أحب أزلي مهما أضيف إلى الإرادة الأزلية التي اقتضت تمكين هذا العبد من سلوك طرق هذا القرب، وإذا أضيف إلى فعله الذي يكشف الحجاب عن قلب عبده فهو حادث يحدث بحدوث السبب المقتضي له، كما قال تعالى) في الحديث القدسي الذي رواه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة: (ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) ، وقد تقدم تمامه قريبا (فيكون تقربه بالنوافل سببا في إصفاء باطنه وارتفاع الحجاب عن قلبه وحصوله في درجة القرب من ربه، وكل ذلك فعل الله ولطفه به فهو معنى حبه) فمحبة العبد لله؛ لأجل حب الله له، وحمد الله لعبده من أجل حبه له؛ فالسعداء من العباد محبوبون محمودون من الله، والله محمود منهم، وبحمد الله نالوا حمده، كما نالوا بحبه لهم حبه، وهو معنى قوله تعالى: رضي الله عنهم ورضوا عنه قال القشيري في الرسالة: المحبة حالة شريفة شهد الحق سبحانه بها للعبد وأخبر عن محبته للعبد؛ فالله سبحانه يوصف بأنه يحب العبد، والعبد يوصف بأنه يحب الحق، والمحبة على لسان العلماء هي الإرادة، وليس مراد القوم بالمحبة الإرادة؛ فإن الإرادة لا تتعلق بالقديم، اللهم إلا أن يحمل على إرادة القرب إليه والتعظيم له، ثم قال: فمحبة الحق سبحانه للعبد إرادته لإنعام مخصوص عليه، كما أن رحمته إرادة الإنعام؛ فالرحمة أخص من الإرادة، والمحبة أخص من الرحمة، فإرادة الله تعالى أن يوصل إلى العبد الثواب والإنعام يسمى رحمة، وإرادته بأن يخصه بالقربة والأحوال العلية يسمى محبة، وإرادته سبحانه صفة واحدة فبحسب تفاوت متعلقاتها تختلف أسماؤها، فإذا تعلقت بالعقوبة تسمى غضبا، وإذا تعلقت بعموم النعم تسمى رحمة، وإذا تعلقت بخصوصها تسمى محبة، وقوم قالوا: محبة الحق للعبد مدحه له وثناؤه عليه بالجميل، فيعود معنى محبته على هذا القول إلى كلامه، وكلامه قديم، وقال قوم: محبته للعبد من صفات فعله فهو إحسان مخصوص يلقى العبد به حالة مخصوصة يرقيه إليها، كما قال بعضهم: إن رحمته بالعبد نعمته معه، وقوم من السلف قالوا: محبته من الصفات الخيرية، فأطلقوا اللفظ وتوقفوا على التفسير، فأما ما عدا هذه الجملة مما هو المعقول من صفات محبة الخلق كالميل إلى الشيء والاستئناس بالشيء، وكحالة يجدها المحب مع محبوبه من المخلوقين؛ فالقديم سبحانه يتعالى عن ذلك. اهـ .

المقصود منه: وقوله: فإن الإرادة لا تتعلق بالقديم، أي الإرادة من العبد، وهذا بناء على أن أثرها التخصيص فلا [ ص: 613 ] تتعلق بالقديم، كما لا تتعلق بالمستحيل، وحاصل ما ذكره من الأقوال أربعة؛ وهي ترجع إلى قولين: الإرادة والكلام؛ لرجوع الفعل إلى الإرادة والخبرية إلى الكلام (ولا يفهم هذا إلا بمثال، وهو أن الملك قد يقرب عبده من نفسه ويأذن له في كل وقت في حضور بساطه) والمثول بين يديه (لميل الملك إليه إما لينصره بقوته، أو ليستريح بمشاهدته، أو ليستشيره في رأيه، أو ليهيئ أسباب طعامه وشرابه؛ فيقال: إن الملك يحبه ويكون معناه ميله إليه لما فيه من المعنى الموافق الملائم له، وقد يقرب عبدا ولا يمنعه من الدخول عليه لا للانتفاع به ولا للاستنجاد) في خدمته (ولكن لكون العبد في نفسه موصوفا من الأخلاق المرضية والخصال الحميدة بما يليق به أن يكون قريبا من حضرة الملك وافر الحظ من قربه، مع أن الملك لا غرض له فيه أصلا، فإذا رفع الملك الحجاب بينه وبينه، يقال: قد أحبه، وإذا اكتسب من الخصال الحميدة ما اقتضى رفع الحجاب قد توصل) إلى الملك ( وحبب نفسه إلى الملك؛ فحب الله) تعالى (للعبد إنما يكون بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول، وإنما يصح تمثيله بالمعنى الثاني بشرط أن لا يسبق إلى فهمك دخول تغير عليه عند تجدد القرب؛ فإن الحبيب هو القريب من الله تعالى، والقرب من الله تعالى في البعد من صفات البهائم والسباع والشياطين) من الحرص والطمع والكبر والغضب والشهوة وغيرها من الرذائل (والتخلق بمكارم الأخلاق) ومحاسنها (التي هي الأخلاق الإلهية) وقد تقدم ذكرها (فهو قرب بالصفة لا بالمكان) فإن قلت: ظاهره يشير إلى مشابهة بين العبد وبين الله تعالى؛ لأنه إذا تخلق بأخلاقه كان شبيها له، ومعلوم شرعا وعقلا أنه تعالى ليس كمثله شيء وأنه لا يشبهه شيء، قلت: لا ينبغي أن يظن أن المشاركة بكل وصف توجب المماثلة، بل المماثلة عبارة عن المشاكلة في النوع والماهية، والخاصية الإلهية لا يتصور فيها مشاركة ألبتة (ومن لم يكن قريبا فصار قريبا فقد تغير، فربما يظن بهذا أن القرب لما تجدد فقد تغير وصف العبد والرب جميعا؛ إذ صار قريبا بعد أن لم يكن، وهو محال في حق الله تعالى؛ إذ التغير عليه محال، بل لا يزال في نعوت الكمال والجلال على ما كان عليه في أزل الأزل، ولا ينكشف هذا إلا بمثال في القرب بين الأشخاص؛ فإن الشخصين قد يتقاربان بتحركهما جميعا، وقد يكون أحدهما ثابتا فيتحرك الآخر فيحصل القرب بتغير في أحدهما من غير تغير في الآخر) فهكذا ينبغي أن يفهم قرب العبد من الله تعالى (بل القرب من الصفات أيضا، كذلك فإن التلميذ يطلب القرب من درجة أستاذه في كمال العلم وجماله، والأستاذ واقف في كمال علمه غير متحرك بالنزول إلى درجة تلميذه، والتلميذ متحرك مترق من حضيض الجهل إلى ارتفاع العلم، فلا يزال دائبا في التغير والترقي إلى أن يقرب من أستاذه، والأستاذ ثابت غير متغير، فكذلك ينبغي أن يفهم ترقي العبد في درجات القرب) من الله تعالى (فكلما صار أكمل صفة وأتم علما وإحاطة بحقائق الأمور وأثبت قوة في قهر الشيطان) والنفس (وقع الشهوات وأطهر نزاهة عن الرذائل صار أقرب من درجة الكمال، ومنتهى الكمال لله تعالى، وقرب كل واحد من الله تعالى بقدر كماله، نعم؛ قد يقدر التلميذ على القرب من الأستاذ وعلى مساواته وعلى مجاوزته، وذلك في حق الله تعالى محال؛ فإنه لا نهاية في كماله، وسلوك العبد في درجات الكمال متناه، ولا ينتهي إلا إلى أحد محدود، فلا مطمع له في المساواة) فضلا [ ص: 614 ] عن المجاوزة .




الخدمات العلمية