اعلم أن من قال ليس فيما يخالف الهوى ، وأنواع البلاء إلا الصبر ، فأما الرضا فلا يتصور ، فإنما أتى من ناحية إنكار المحبة فأما إذا ثبت تصور الحب لله تعالى واستغراق الهم به ، فلا يخفى أن الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب ويكون ذلك من وجهين .
أحدهما أن يبطل الإحساس بالألم ، حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس ، وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمها .
ومثاله : الرجل المحارب ، فإنه في حال غضبه أو في حال خوفه قد تصيبه جراحة ، وهو لا يحس ، بألم ذلك لشغل قلبه .
بل الذي يحجم ، أو يحلق رأسه بحديدة كآلة يتألم به فإن كان مشغول القلب بمهم من مهماته فرغ المزين والحجام وهو لا يشعر به .
وكل ذلك لأن القلب إذا صار مستغرقا بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما عداه ، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه ، أو بحبه ، قد يصيبه ما كان يتألم به ، أو يغتم له لولا عشقه ، ثم لا يدرك غمه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه .
هذا إذا أصابه من غير حبيبه ، فكيف إذا أصابه من حبيبه ؟! وشغل القلب بالحب والعشق من أعظم الشواغل ، وإذا تصور هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف تصور في الألم العظيم بالحب العظيم ، فإن الحب أيضا يتصور تضاعفه في القوة ، كما يتصور تضاعف الألم ، وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسة البصر ، فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة وجمال حضرة الربوبية وجلالها لا يقاس به جمال ولا جلال ، فمن ينكشف له شيء منه فقد يبهره بحيث يدهش ويغشى عليه فلا يحس بما يجري عليه .
فقد روي أن امرأة فتح الموصلي عثرت فانقطع ظفرها فضحكت ، فقيل لها : أما تجدين الوجع ؟ فقالت : إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه .
وكان سهل رحمه الله تعالى به علة يعالج غيره منها ، ولا يعالج نفسه ، فقيل له في ذلك فقال : يا دوست ضرب الحبيب لا يوجع .
وأما الوجه الثاني : فهو أن يحس به ويدرك ألمه ولكن يكون راضيا به بل راغبا فيه ، مريدا له ، أعني بعقله ، وإن كان كارها بطبعه كالذي يلتمس من الفصاد الفصد والحجامة ، فإنه يدرك ألم ذلك إلا أنه راض به ، وراغب فيه ، ومتقلد من الفصاد به منة بفعله فهذا حال الراضي بما يجري عليه من الألم .
وكذلك كل من يسافر في طلب الربح يدرك مشقة السفر ولكن حبه لثمرة سفره طيب عنده مشقة السفر وجعله راضيا بها .
ومهما أصابه بلية من الله تعالى ، وكان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته رضي به ورغب فيه ، وأحبه وشكر الله عليه ، هذا إن كان يلاحظ الثواب والإحسان الذي يجازى به عليه ، ويجوز أن يغلب الحب بحيث يكون حظ المحب في مراد محبوبه ورضاه لا لمعنى آخر وراءه ، فيكون مراد حبيبه ورضاه محبوبا عنده ومطلوبا ، وكل ذلك موجود في المشاهدات في حب الخلق ، وقد تواصفها المتواصفون في نظمهم ونثرهم ولا معنى له إلا ملاحظة جمال الصورة الظاهرة بالبصر ، فإن نظر إلى الجمال فما هو إلا جلد ولحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث بدايته من نطفة مذرة ونهايته جيفة قذرة وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة .
وإن نظر إلى المدرك للجمال فهي العين الخسيسة التي تغلط فيما ترى كثيرا فترى الصغير كبيرا ، والكبير صغيرا ، والبعيد قريبا ، والقبيح جميلا فإذا تصور استيلاء هذا الحب ؛ فمن أين يستحيل ذلك في حب الجمال الأزلي الأبدي الذي لا منتهى لكماله ، المدرك بعين البصيرة التي لا يعتريها الغلط ولا يدور بها الموت بل تبقى بعد الموت حية عند الله ، فرحة برزق الله تعالى مستفيدة بالموت مزيد تنبيه واستكشاف ، فهذا أمر واضح من حيث النظر بعين الاعتبار ويشهد لذلك الوجود حكايات أحوال المحبين وأقوالهم .
فقد قال شقيق البلخي من يرى ثواب الشدة لا يشتهي المخرج منها ، وقال الجنيد سألت سريا السقطي هل يجد المحب ألم البلاء ؟ قال : لا . قلت وإن : ضرب بالسيف ؟ قال : نعم ، وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة ضربة على ضربة .
وقال بعضهم : أحببت كل شيء يحبه ، حتى لو أحب النار أحببت دخول النار وقال بشر بن الحارث مررت برجل وقد ضرب ألف سوط في شرقية بغداد ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس فتبعته ، فقلت له : لم ضربت ؟ فقال : لأني عاشق . فقلت له ولم : سكت ؟ قال : لأن معشوقي كان بحذائي ينظر إلي فقلت فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر قال فزعق زعقة خر ميتا .
وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى : إذا نظر أهل الجنة إلى الله تعالى ذهبت عيونهم في قلوبهم من لذة النظر إلى الله تعالى ثمانمائة سنة لا ترجع إليهم . فما ظنك بقلوب وقعت بين جماله وجلاله إذا لاحظت جلاله هابت ، وإذا لاحظت جماله تاهت . وقال بشر قصدت عبادان في بدايتي فإذا برجل أعمى مجذوم مجنون قد صرع والنمل يأكل لحمه ، فرفعت رأسه فوضعته في حجري وأنا أردد الكلام فلما أفاق قال : من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربي ؟! لو قطعني إربا إربا ما ازددت له إلا حبا . قال بشر : فما رأيت بعد ذلك نقمة بين عبد وبين ربه فأنكرتها .
وقال أبو عمرو محمد بن الأشعث إن أهل مصر مكثوا أربعة أشهر لم يكن لهم غذاء إلا النظر إلى وجه يوسف الصديق عليه السلام كانوا إذا جاعوا نظروا إلى وجهه ، فشغلهم جماله عن الإحساس بألم الجوع ، بل في القرآن ما هو أبلغ من ذلك ، وهو قطع النسوة أيديهن لاستهتارهن بملاحظة جماله حتى ما أحسسن بذلك .
وقال سعيد بن يحيى رأيت بالبصرة في خان عطاء بن مسلم شابا وفي يده مدية ، وهو ينادي بأعلى صوته والناس حوله ، وهو يقول :
يوم الفراق من القيامة أطول والموت من ألم التفرق أجمل قالوا الرحيل فقلت لست براحل
لكن مهجتي التي تترحل
ويروى أن يونس عليه السلام قال لجبريل : دلني على أعبد أهل الأرض . فدله على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه وذهب ببصره ، فسمعه وهو يقول : إلهي متعتني بهما ما شئت أنت ، وسلبتني ما شئت أنت ، وأبقيت لي فيك الأمل ، يا بر يا وصول .
ويروى عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أنه اشتكى له ابن فاشتد وجده عليه حتى قال بعض القوم : لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث فمات الغلام ، فخرج ابن عمر في جنازته ، وما رجل أشد سرورا أبدا منه ، فقيل له في ذلك فقال ابن عمر : إنما كان حزني رحمة له ، فلما وقع أمر الله رضينا به .
وقال مسروق كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك ؛ فالديك يوقظهم للصلاة ، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم ، والكلب يحرسهم قال فجاء الثعلب فأخذ الديك فحزنوا له ، وكان الرجل صالحا فقال : عسى أن يكون خيرا . ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار فقتله ، فحزنوا عليه ، فقال الرجل : عسى أن يكون خيرا . ثم أصيب الكلب بعد ذلك ، فقال : عسى أن يكون خيرا . ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا ، فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم قال : وإنما أخذوا أولئك لما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة ، فكانت الخيرة لهؤلاء في هلاك هذه الحيوانات ، كما قدره الله تعالى .


