الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فأما نفس المحبة فلم يتعرضوا لها ، وقال بعضهم : المحبة معنى من المحبوب قاهر للقلوب عن ، إدراكه ، وتمتنع الألسن عن عبارته .

وقال الجنيد حرم الله تعالى المحبة على صاحب العلاقة .

وقال كل محبة تكون بعوض ، فإذا زال العوض زالت المحبة .

وقال ذو النون قل لمن أظهر حب الله : احذر أن تذل لغير الله .

وقيل للشبلي رحمه الله : صف لنا العارف والمحب . فقال : العارف إن تكلم هلك ، والمحب إن سكت هلك وقال الشبلي رحمه الله .


يا أيها السيد الكريم حبك بين الحشا مقيم     يا رافع النوم عن جفوني
أنت بما مر بي عليم


عجبت لمن يقول : ذكرت إلفي     وهل أنسى فأذكر ما نسيت


أموت إذا ذكرتك ثم أحيا     ولولا حسن ظني ما حييت
فأحيا بالمنى وأموت شوقا     فكم أحيا عليك وكم أموت
شربت الحب كأسا بعد كأس     فما نفد الشرب وما رويت
فليت خياله نصب لعيني     فإن قصرت في نظري عميت

وقالت رابعة العدوية يوما : من يدلنا على حبيبنا ؟ فقالت خادمة لها : حبيبنا معنا ، ولكن الدنيا قطعتنا عنه .

وقال ابن الجلاء رحمه الله تعالى أوحى الله إلى عيسى عليه السلام إني إذا اطلعت على سر عبد فلم أجد فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبي ، وتوليته بحفظي . وقيل : تكلم سمنون يوما في المحبة ، فإذا بطائر نزل بين يديه ، فلم يزل ينقر بمنقاره الأرض حتى سال الدم منه فمات .

التالي السابق


(فأما نفس المحبة فلم يتعرضوا لها، وقال بعضهم: المحبة معنى من المحبوب قاهر للقلوب، تعجز القلوب عن إدراكه، وتمتنع الألسن عن عبارته. وقال الجنيد) -قدس سره-: (حرم الله تعالى المحبة على صاحب العلاقة) ، أي: بسوى الله تعالى من أهل ومال، (وقال) أيضا: (كل محبة تكون بعوض، فإذا زال العوض زالت المحبة) نقله القشيري في الرسالة، يشير بذلك إلى أعلى مقام في المحبة، وهو محبته لذات الجمال والكمال، لا لأمر وراءه من الإحسان والإفضال، وإنما كان هذا أفضل لتعلقها بالذات والصفات من كل وجه، لأنها أزلية أبدية لا تتغير ولا تنقضي، بل هي في الازدياد كما تقدم .

(وقال ذو النون) المصري -رحمه الله تعالى- (قل لمن أظهر حب الله: احذر أن تذل لغير الله) يشير به إلى أعلى مراتب المحبة، وهو أن يغمر الحب قلبه فلا يحس بغيره، ولا يلتفت إلى سواه. (وقيل [ ص: 681 ] للشبلي رحمه الله تعالى: صف لنا العارف والمحب. فقال: العارف إن تكلم هلك، والمحب إن سكت هلك) نقله القشيري في الرسالة، يشير به إلى أن المحب لما انكشف له من قرب الله وجماله وكماله، فتقوى لذته ويزيد نعيمه، أثمر ذلك طولا في اللسان، وانبساطا لقصور نظره عن طيب حاله، فلو سكت هلك، بخلاف العارف، فإنه أبدا يتطلع إلى ما غاب عنه وما سيأتي، فيكون غالب حاله السكون والقبض، فلو تكلم كاد أن يهلك، ومن هنا قولهم: من عرف الله كل لسانه. (وقال الشبلي رحمه الله تعالى) حين كان بالمارستان ودخل عليه جماعة فسألهم: من أنتم؟ قالوا: نحن أحباؤك. فرماهم بالحجارة فهربوا، فقال: كذبتم، لو كنتم أحبائي ما هربتم. ثم أنشد:

( يا أيها السيد الكريم حبك بين الحشا مقيم يا رافع النوم عن جفوني
أنت بما مر بي عليم )

هكذا أنشده القشيري في الرسالة، وقد تقدمت الإشارة إليه (ولغيره) في هذا المقام، قيل: هو الشبلي لما سيأتي: (

عجبت لمن يقول: ذكرت ربي وهل أنسى فأذكر ما نسيت )

أي؛ لأن الذكر إنما يكون بعد النسيان والغفلة، أما دائم الذكر فلا يقول: ذكرت، فإن الحاصل لا يطلب تحصيله، ومن هنا قال الشيخ سعد الدين الكاشفري: سألني الشيخ عبد الكريم الحضرمي وقال: ما الذكر؟ قلت: لا إله إلا الله. فقال: ما هذا ذكر، هذا عبادة. فقلت له: أفد أنت. فقال: الذكر أن تعلم أنك لا تقدر على وجدانه .

(

أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ولولا حسن ظني ما حييت
فأحيا بالمنى وأموت شوقا فكم أحيا عليك وكم أموت
شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب وما رويت
فليت خياله نصب لعيني فإن قصرت في نظري عميت )

وقرأت في آخر المسلسلات للحافظ أبي مسعود الأصبهاني: أنشدني أحمد بن علي الحافظ قال: أنشدني عبد الله بن يحيى الزمن، أنشدني محمد بن علي الصوفي، عن أبي بكر الشبلي:

أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ولولا ما أؤمل ما حييت
وفي موتي حياتي ما كفاني فكم أحيا عليك ولا أموت
شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب وما رويت

انتهى .

وقال القشيري: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت ابن عبيد يقول: كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد: سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته. فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب بحور السموات والأرض وما روي بعد، ولسانه خارج يقول: هل من مزيد؟ وأنشدوا:

عجبت لمن يقول: ذكرت ربي وهل أنسى فأذكر ما نسيت
شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب وما رويت

وقال القشيري في باب الذكر: كان الشبلي ينشد في مجلسه -

ذكرتك لا أني نسيتك لمحة وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكدت بلا وجد أموت من الهوى وهام علي القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضري شهدتك موجودا بكل مكان
فخاطبت موجودا بغير تكلم ولاحظت معلوما بغير عيان

(وقالت) أم الخير (رابعة) بنت إسماعيل (العدوية) البصرية قدس سرها المتوفية سنة 135 (يوما: من يدلنا على حبيبنا؟ فقالت خادمة لها: حبيبنا معنا، ولكن الدنيا قطعتنا عنه) اعلم أن رابعة قدس سرها كانت رأسا في المعرفة والمحبة، كما هو مشهور من حالها، ولا يخفى عليها مقام المعية، وإنما قالت ما قالت وهي في مقام الاستغراق الذي هو من نتائج المحبة، وغلب عليها الشوق إلى المشاهدة، والمحب في مقام القرب قد يتطلب من يأخذ بيده ويتعلق بالأذيال، فنبهتها الخادمة على أن الوصول إلى مقام المشاهدة لا يكون إلا بعد المفارقة من هذا العالم، فتمتنع عنه القواطع، فما أدق نظرها رحمها الله تعالى، (وقال) أبو عبد الله (ابن الجلاء) الدمشقي -رحمه الله تعالى-: (أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام) : يا عيسى (إني إذا اطلعت على سر عبد) ، وهو داخل القلب (فلم أجد فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبي، وتوليته بحفظي.) يشير به إلى أن المحبة تقتضي عدم المشاركة، وأن لا يكون في القلب [ ص: 682 ] محل لسواه. ولفظ القشيري في الرسالة. وقيل: أوحى الله إلى عيسى -عليه السلام- إني إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبي. (وقيل: تكلم سمنون) بن حمزة المحب رحمه الله تعالى (يوما في المحبة، فإذا بطائر نزل بين يديه، فلم يزل ينقر بمنقاره الأرض حتى سال منه الدم فمات) قال القشيري: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت سمنون، وهو جالس في المسجد يتكلم في المحبة؛ إذ جاء طير صغير قريب منه، ثم قرب، ثم لم يزل يدنو حتى جلس على يده، ثم ضرب بمنقاره إلى الأرض حتى سال منه الدم ثم مات. وفيه دلالة على أن الحيوان يسمع ويفهم، وإنما يمتنع عليه الكلام الأعلى من أفهمه الله كلامه .




الخدمات العلمية