الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما السبب الخامس للحب فهو المناسبة والمشاكلة ؛ لأن شبه الشيء منجذب إليه ، والشكل إلى الشكل أميل .

ولذلك ترى الصبي يألف الصبي والكبير يألف الكبير ويألف الطير نوعه وينفر من غير نوعه وأنس العالم بالعالم أكثر منه بالمحترف وأنس النجار بالنجار أكثر من أنسه بالفلاح وهذا أمر تشهد به التجربة وتشهد له الأخبار والآثار ، كما استقصيناه في باب الأخوة في الله من كتاب آداب الصحبة فليطلب منه .

وإذا كانت المناسبة سبب المحبة فالمناسبة قد تكون في معنى ظاهر كمناسبة الصبي الصبي في معنى الصبا ، وقد يكون خفيا حتى لا يطلع عليه ، كما ترى من الاتحاد الذي يتفق بين شخصين من غير ملاحظة جمال ، أو طمع في مال ، أو غيره ، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال : الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فالتعارف هو التناسب والتناكر هو التباين وهذا السبب أيضا يقتضي حب الله تعالى لمناسبة باطنة لا ترجع إلى المشابهة في الصور والأشكال ، بل إلى معان باطنة يجوز أن يذكر بعضها في الكتب وبعضها لا يجوز أن يسطر ، بل يترك تحت غطاء الغيرة حتى يعثر عليه السالكون للطريق إذا استكملوا شرط السلوك .

فالذي يذكر هو قرب العبد من ربه : عز وجل : في الصفات التي أمر فيها بالاقتداء والتخلق بأخلاق الربوبية حتى قيل : تخلقوا بأخلاق الله وذلك في اكتساب محامد الصفات التي هي من صفات الإلهية من العلم والبر والإحسان واللطف وإفاضة الخير والرحمة على الخلق والنصيحة لهم وإرشادهم إلى الحق ومنعهم من الباطل إلى غير ذلك من مكارم الشريعة فكل ذلك يقرب إلى الله سبحانه وتعالى لا بمعنى طلب القرب بالمكان ، بل بالصفات .

وأما ما لا يجوز أن يسطر في الكتب من المناسبة الخاصة التي اختص بها الآدمي فهي التي يومئ إليها قوله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ؛ إذ بين أنه أمر رباني خارج عن حد عقول الخلق وأوضح من ذلك قوله تعالى : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ولذلك أسجد له ملائكته ويشير إليه قوله تعالى : إنا جعلناك خليفة في الأرض إذ لم يستحق آدم خلافة الله تعالى إلا بتلك المناسبة وإليه يرمز قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق آدم على صورته حتى ظن القاصرون أن لا صورة إلا الصورة الظاهرة المدركة بالحواس فشبهوا وجسموا وصوروا تعالى الله رب العالمين عما يقول الجاهلون علوا كبيرا ، وإليه الإشارة بقوله تعالى لموسى عليه السلام : مرضت فلم تعدني ، فقال : يا رب وكيف ذلك ؟ قال : مرض عبدي فلان فلم تعده ولو عدته وجدتني عنده وهذه المناسبة لا تظهر إلا بالمواظبة على النوافل بعد إحكام الفرائض كما قال الله تعالى : لا يزال يتقرب العبد إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به وهذا موضع يجب قبض عنان القلم فيه فقد تحزب الناس فيه إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهر وإلى غالين مسرفين جاوزوا حد المناسبة إلى الاتحاد ، وقالوا بالحلول حتى قال بعضهم : أنا الحق وضل النصارى في عيسى عليه السلام فقالوا : هو الإله وقال آخرون منهم تدرع الناسوت باللاهوت وقال آخرون اتحد به وأما الذين انكشف لهم استحالة التشبيه والتمثيل واستحالة الاتحاد والحلول واتضح لهم مع ذلك حقيقة السر فهم الأقلون ولعل أبا الحسن النوري عن هذا المقام كان ينظر إذا ؛ غلبه الوجد في قول القائل .

لا زلت

أنزل من ودادك منزلا تتحير الألباب عند نزوله

فلم يزل يعدو في وجده على أجمة قد قطع قصبها وبقي أصوله حتى تشققت قدماه وتورمتا مات من ذلك وهذا هو أعظم أسباب الحب وأقواها وهو أعزها وأبعدها وأقلها وجودا ، فهذه هي المعلومة من أسباب الحب ، وجملة ذلك متظاهرة في حق الله تعالى تحقيقا لا مجازا ، وفي أعلى الدرجات لا في أدناها ، فكان المعقول المقبول عند ذوي البصائر حب الله تعالى فقط ، كما أن المعقول الممكن عند العميان حب غير الله تعالى فقط ثم كل من يحب من الخلق بسبب من هذه الأسباب يتصور أن يحب غيره لمشاركته إياه في السبب ، والشركة نقصان في الحب وغض من كماله ولا ينفرد أحد بوصف محبوب إلا وقد يوجد له شريك فيه ، فإن لم يوجد فيمكن أن يوجد إلا الله تعالى فإنه موصوف بهذه الصفات التي هي نهاية الجلال والكمال ولا شريك له في ذلك وجودا ، ولا يتصور أن يكون ذلك إمكانا فلا جرم لا يكون في حبه شركة فلا يتطرق النقصان إلى حبه ، كما لا تتطرق الشركة إلى صفاته فهو المستحق إذ الأصل المحبة ، ولكمال المحبة استحقاقا لا يساهم فيه أصلا .

التالي السابق


(وأما السبب الخامس للمحب فهو المناسبة والمشاكلة; لأن شبه الشيء منجذب إليه، والشكل إلى الشكل أميل، ولذلك ترى الصبي يألف الصبي والكبير يألف الكبير ويألف الطير نوعه وينفر عن غير نوعه) كل ذلك للتناسب (وأنس العالم بالعالم أكثر منه بالمحترف) أي: المستقل بالحرفة والكسب (وأنس التجار بالتجار أكثر من أنسه بالفلاح) وبالعكس، (وهذا أمر تشهد به التجربة وتشهد له الأخبار والآثار، كما استقصيناه في باب الأخوة في الله في كتاب آداب [ ص: 568 ] الصحبة فليطلب منه، وإذا كانت المناسبة سبب التحاب فالمناسبة قد تكون في معنى ظاهر كمناسبة الصبي الصبي في معنى الصبا، وقد يكون خفيا حتى لا يطلع عليه، كما ترى من الاتحاد الذي يتفق بين شخصين من غير ملاحظة جمال، أو طمع في مال، أو غيره، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) تقدم قريبا، ( فالتعارف هو التناسب والتناكر هو التباين) أي: فما تناسب منها في عالم الأزل حصل بينها الائتلاف في عالم الشهادة، وما تباين منها هناك أوجب حصول الاختلاف ههنا، (وهذا السبب أيضا يقتضي حب الله تعالى لمناسبة باطنة لا ترجع إلى المشابهة والصور والأشكال، بل إلى معان باطنة يجوز أن يذكر بعضها في الكتب وبعضها لا يجوز أن يسطر، بل يترك تحت غطاء الغيرة حتى يعثر عليه السالكون للطريق إذا استكملوا شرط السلوك) ووصلوا إلى مقام القرب (فالذي يذكر هو قرب العبد من ربه -عز وجل- في الصفات التي أمر فيها بالاقتداء والتخلق بأخلاق الربوبية حتى قيل: تخلقوا بأخلاق الله) أي: تخلقوا بها في صفاته وأسمائه، (وذلك في اكتساب محامد الصفات التي هي من صفات الإلهية من العلم والبر والإحسان واللطف وإفاضة الخير والرحمة على الخلق والنصيحة لهم وإرشادهم إلى الحق ومنعهم من الباطل إلى غير ذلك من مكارم الشريعة) ، وذلك فيما أمكنه منها (فكل ذلك تقرب إلى الله تعالى) لأنه به يصير العبد ربانيا، أي: قريبا من الرب تعالى فإنه يصير رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة، فإنهم على بساط القرب، فمن ضرب إلى شبه من صفاتهم نال شيئا من قربهم بقدر ما نال من أوصافهم المقربة لهم إلى الحق تعالى (لا بمعنى طلب القرب بالمكان، بل بالصفات) ، ومهما تفاوتت درجات الكمال واقتصر منهن الكمال على واحد حتى لم يكن الكمال المطلق إلا له، ولم يكن للموجودات الأخر كمال مطلق، بل كانت لها كمالات متفاوتة بالإضافة فأكملها أقرب لا محالة إلى الذي له الكمال المطلق أعني قربا بالمرتبة والدرجة لا بالمكان (وأما ما لا يجوز أن يسطر في الكتب من المناسبة الخاصة التي اختص بها الآدمي) دون سائر المخلوقات، (فهي التي يومئ إليها قوله تعالى: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ; إذ بين أنه أمر رباني خارج عن حد عقول الخلق) ، وهكذا شأن أمور الربوبية ألا له الخلق والأمر .

(وأوضح من ذلك قوله تعالى: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) فقعوا له ساجدين ، (ولذلك سجد له الملائكة) إثر ذلك النفخ والتسوية، ومن قوله: " وأوضح من ذلك" إلى هنا قد سقط من بعض النسخ، وقد أشار إلى ذلك المصنف في كتاب النفخ والتسوية، ومنهم من أنكر نسبة هذا الكتاب إليه كما ذكرنا في مقدمة كتاب العلم، (ويشير إليه قوله تعالى: إنا جعلناك خليفة في الأرض إذ لم يستحق آدم خلافة الله تعالى إلا بتلك المناسبة) لأنه أنموذج من نور الله تعالى، ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة، وإن كان لا يرقى إلى ذروة المساواة، وهذا ربما هزك للتفطن لسر الآية (وإليه يرمز قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق آدم على صورته) تقدم الكلام عليه (حتى ظن القاصرون) من العلماء (أن لا صورة إلا الصورة الظاهرة المدركة بالحواس) الظاهرة، وأنكروا الصورة الباطنة المدركة بالبصيرة الباطنة (فشبهوا وجسموا وصوروا تعالى الله رب العالمين عما يقول الجاهلون علوا كبيرا، وإليه الإشارة بقوله تعالى لموسى عليه السلام: مرضت فلم تعدني، فقال: يا رب وكيف ذلك؟ قال: مرض عبدي فلان فلم تعده ولو عدته وجدتني عنده) روى مسلم من حديث أبي هريرة أن الله تعالى [ ص: 569 ] يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده . الحديث (وهذه المناسبة لا تظهر إلا بالمواظبة على النوافل بعد إحكام الفرائض كما قال الله تعالى: لا يزال يتقرب العبد إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به) . قال العراقي: رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وقد تقدم . قلت: رواه أحمد والحكيم وأبو يعلى والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب، والحاكم في الزهد وابن عساكر من حديث عائشة: قال الله عز وجل: من آذى لي وليا فقد استحل محاربتي، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء الفرائض، وما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت عينه التي يبصر بها، وأذنه التي يسمع بها، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ويده التي يبطش بها، وفؤاده الذي يعقل به ولسانه الذي يتكلم به، وإن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته . . الحديث . وروى ابن السني في الطب من حديث ميمونة: قال الله تعالى: ما تقرب إلي العبد بمثل أداء فرائضي، وإنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت رجله التي يمشي بها ويده التي يبطش بها، ولسانه الذي ينطق به وقلبه الذي يعقل به، إن سألني أعطيته، وإن دعاني أجبته . . ويروى في حديث أنس: وما تعبد إلي عبدي المؤمن بمثل الزهد في الدنيا، ولا تقرب عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا . . الحديث، رواه بطوله ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء والحكيم وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الأسماء وابن عساكر، وقال المصنف في مشكاة الأنوار: منتهى معراج الخلائق مملكته الفردانية، فليس وراء ذاك مرقى إذ المرقى لا يتصور إلا بكثرة، فإنه نوع إضافة يستدعي بأنه الارتقاء وما إليه الارتقاء، وإذا ارتفعت الكثرة خفت الوحدة وبطلت الإضافة وطاحت الإشارة فلم يبق علو ولا وسفل ولا نازل ولا مرتق، فاستحال الترقي واستحال العروج، فليس وراء الأعلى علو ولا مع الوحدة كثرة، ولا مع انتفاء الكثرة عروج، فإن كان من تغير حال، فبالنزول إلى السماء الدنيا أعني بالإشراق من علو إلى أسفل; لأن الأعلى له أسفل وليس له أعلى، فهذه غاية الغايات ومنتهى الطلبات يعلمه من يعلمه، وينكره من يجهله، وهو من العلم الذي هو كهيئة المكنون الذي لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله، ولا يبعد أن قال العلماء: إن النزول إلى السماء الدنيا هو نزول ملك، فقد توهم بعض العارفين ما هو أبعد منه إذ قال هذا المستغرق بالفردانية أيضا: له نزول إلى السماء الدنيا، وأن ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس أو تحريك الأعضاء، وإليه الإشارة في الخبر: صرت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وإذا كان هو سمعه وبصره ولسانه فهو السامع والباصر والناطق إذا لا غيره وإليه الإشارة بقوله: مرضت فلم تعدني . . الحديث . فحركات هذا الموحد من السماء الدنيا وإحساساته كالسمع والبصر من سماء فوقه وعقله فوق ذلك، وهو يترقى من سماء العقل في منتهى معراج الخلائق ومملكة الفردانية إلى سبع طبقات ثم بعده يستوي على عرش الوحدانية، ومنه يدبر الأمر لطبقات سماواته، فربما نظر الناظر إليه فأطلق القول بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن إلى أن يمعن النظر فيه، فيعلم أن ذلك له تأويل كقوله: أنا الحق وسبحاني . . بل كقوله: مرضت فلم تعدني . . وكنت سمعه وبصره ولسانه، (وهذا موضع يجب قبض عنان القلم فيه) فما يطيق الناس من هذا الفن أكثر من هذا المقدار، (فقد تحزب الناس فيه إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهر) ، فلم يفهموا من الصورة إلا الصورة الظاهرة المدركة بالحواس، وكذا في النزول إلى السماء الدنيا وإضراب ذلك، وإلى (غالين مسرفين) تجاوزوا في الحدود (وجاوزوا حد المناسبة إلى الاتحاد، وقالوا بالحلول حتى قال بعضهم: أنا الحق) والقول بالاتحاد باطل لأن قول القائل: إن العبد صار الرب . . كلام متناقض في نفسه وحيث يطلق الاتحاد ويقول هو هو لا يكون إلا بطريق التوسع اللائق بعادة الصوفية والشعراء، فإنهم لأجل تحسين موقع الكلام في الأفهام يسلكون سبيل الاستعارة كما يقول الشاعر:


أنا من أهوى ومن أهوى أنا



وذلك مؤول عنده، فإنه لا يعني أنه هو تحقيقا بل كأنه هو فإنه مستغرق [ ص: 570 ] الهم به، كما يكون هو مستغرق الهم بنفسه فيعبر عن هذه الحالة بالاتحاد على سبيل التجوز، ومن لم يجد في القلب إلا جلال الله وجماله حتى صار مستغرقا به يصير كأنه هو لا أنه هو تحقيقا، وفرق بين قولنا هو هو وكأنه هو، ولكن قد يعبر بقولنا هو هو عن قولنا كأنه هو، وقول أنا الحق اشتهر به الحسين بن منصور الحلاج، وقد أجاب عنه المصنف في المقصد الأسنى فقال: حظ العبد من اسمه تعالى أن يرى نفسه باطلا ولا يرى غير الله حقا، والعبد وإن كان حقا فليس هو حقا لنفسه، بل هو حق لغيره وهو الله سبحانه وتعالى فإنه موجود به لا بذاته، بل هو بذاته باطل لولا إيجاد الحق له، فقد أخطأ من قال: أنا الحق بأحد وجهين أحدهما أن يعني أنه بالحق، وهذا بعيد; لأن اللفظ ينبئ عنه ولأن ذلك لا يخصه، بل كل شيء سوي فهو بالحق .

الثاني أن يكون مستغرقا بالحق حتى لا يكون فيه متسع لغيره وما أخذ كلية الشيء واستغرقه، فقد يقال إنه هو: فإن جاوزت هذين التأويلين إلى الاتحاد فذلك محال قطعا، وأما الحلول فهو أيضا باطل، فإن المفهوم منه أمران أحدهما النسبة التي بين الجسم وبين مكانه الذي يكون فيه، وذلك لا يكون إلا بين جسمين فالبريء عن معنى الجسمية يستحيل في حقه ذلك، والثاني النسبة التي بين العرض والجوهر، فإن العرض يكون قوامه بالجوهر فقد يعبر بأنه حال فيه، وذلك محال على كل ما قوامه بنفسه فدع عنك ذكر الرب تعالى في هذا المعرض، فإن كل ما قوامه بنفسه يستحيل أن يحل فيما قوامه بنفسه إلا بطريق المجاورة الواقعة بين الأجسام، فلا يتصور الحلول بين عبدين، فكيف يتصور بين العبد والرب .

(وضل النصارى في عيسى عليه السلام فقالوا: هو الله) ، وقد غلطوا في ذلك ومنشأ غلطهم أنهم نظروا إلى كمال ذاته، وقد تزين بما تلألأ فيه من حلية الحق فظنوا أنه هو الإله (وقال آخرون) منهم (تدرع الناسوت باللاهوت وقال آخرون اتحد به) أي: اتحد الناسوت باللاهوت، وكل هذه أخلاط فاحشة تقتضي المروق عن الدين والوقوع في الكفر الصريح، (وأما الذين انكشف لهم استحالة التشبيه والتمثيل) المفهوم من قوله تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (واستحالة الاتحاد والحلول) ، وكذا استحالة الانتقال والاتصاف بأمثال صفات الله تعالى على سبيل الحقيقة (واتضح لهم مع ذلك حقيقة السير فهم الأقلون ولعل أبا الحسن) أحمد بن محمد (النوري) البغدادي المتوفى سنة 295 من أقران الجنيد نسب إلى نور الوعظ (عن هذا المقام كان ينظر; إذ غلبه الوجد في قول القائل إذ أنشد له) :


( لا زلت أنزل من ودادك منزلا تتحير الألباب عند نزوله )



(فلم يزل يعدو في وجده) حتى وقع (على أجمة قد قطع قصبها وبقي أصوله) محددة كالسنان (حتى تشقق قدماه وتورمتا ومات من ذلك) ، وقد تقدم هذا في كتاب الوجد والسماع، (وهذا هو أعظم أسباب الحب وأقواها وهو أعزها وأبعدها وأقلها وجودا، فهذه هي المعلومة من أسباب الحب، وجملة ذلك متظاهرة في حق الله تعالى تحقيقا لا مجازا، وفي أعلى الدرجات لا في أدناها، فكان المعقول المقبول عند ذوي البصائر) والكشوفات الباطنة (حب الله تعالى فقط، كما أن المعقول الممكن عند العميان حب غير الله تعالى فقط) .

وقال الكمال محمد بن إسحاق الصوفي في مقاصد المنجيات ما نصه: الناس يتفاوتون في الحب تفاوتا لا ينحصر على قدر الأسباب الموجبة لحب الله تعالى، فإن المحبة تكون عن مسببة عن معرفة إنعام الله تعالى وإحسانه وأفضاله، وتكون مسببة عن جمال الله وكماله، وهذه أفضل وأعلى لتعلقها بالذات والصفات من كلا طرفيها، وهو السلب والإثبات وما قبلها متعلق بالله من حيث قدرته على الإنعام والإحسان، ففيها شغل عن الله، ولأن الإحسان يزيد وينقص هذا والمحبة الناشئة عن الجمال والكمال من أشرف نعم الله على العباد لأنها تعريف له بما هو به وتقريب منه إلا أن التصور يصير كامنا تحت أشعة الأفضل إذا امتلأ القلب بالأفضل ويكون الحكم والجزاء للغالب .

والإمام الغزالي ذكر للمحبة أسبابا خمسة: إذا أمعنت النظر فيها رأيتها داخلة تحت هذين السببين; إما محبة العبد لله من أجل أن الله خلقه وأبقاه وخلق له الآلات المكملة لبقائه فهو من جملة إحسان الله إليه، وأما محبته لأجل إحسانه العام على سائر العباد فهو من جماله الفعلي وكماله الذاتي، وأما محبتك العبد لله لأجل الأوصاف الباطنة من العلم والقدرة [ ص: 571 ] والإرادة ومؤازرة الأرواح القدسية وتنزيهها عن الحلول في المواطن والقرب والبعد والكمية، فذلك أيضا من أفضال الله تعالى على عبده لأنه الذي خلقه وعدله وخلق له بعد التعديل روحا مقدسة من الحس وعوارضه وأقام له بها أعراضا شريفة هي علوم ومعارف يعرف بها ربه. انتهى .

(ثم كل من يحب من الخلق بسبب من هذه الأسباب) الخمسة (يتصور أن يحب غيره لمشاركته إياه في السبب، والشركة نقصان في الحب وغض عن كماله ولا ينفرد أحد بوصف محبوب إلا وقد يوجد له شريك فيه، فإن لم يوجد فيمكن أن يوجد إلا الله تعالى فإنه موصوف بهذه الصفات التي هي نهاية الأوصاف و) نهاية (الجلال والكمال ولا شريك له في ذلك وجودا، ولا يتصور أن يكون ذلك إمكانا فلا جرم لا يكون في حبه شركة فلا يتطرق النقصان إلى حبه، كما لا تتطرق الشركة إلى صفاته فهو المستحق إذ الأصل المحبة، ولكمال المحبة استحقاقا لا يساهم فيه أصلا) أي: لا يشارك، وهذه الخواص الإلهية ليست إلا لله تعالى، ولا يعرفها إلا الله تعالى، فلا جرم لا يتصور أن يعرفها إلا هو، أو من هو مثله، وإذا لم يكن له مثل فلا يعرفها غيره، وهذا يشوش قلوب أكثر الضعفاء ويوهم القول بالتعطيل، وذلك لعجزهم عن فهم هذا الكلام، والله الموفق .




الخدمات العلمية