الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 219 ] 110 - باب بيان مشكل ما روي عنه عليه السلام من قوله { الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات }

749 - حدثنا ابن مرزوق ، حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا عبد الله بن عون وحدثنا أبو أمية ، حدثنا عبد الله بن حمران ، عن ابن عون ، عن الشعبي قال : سمعت النعمان بن بشير يقول : قال رسول الله عليه السلام : { إن الحلال بين والحرام بين وإن بين ذلك أمورا مشتبهات } وربما قال : { مشتبهة وسأضرب لكم مثلا : إن لله حمى وإن حمى الله ما حرم وإنه من يرع حول الحمى يوشك أن يرتع } .

750 - حدثنا فهد ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن الشعبي قال : سمعت النعمان يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس ، من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى فيوشك أن يواقعه ، ألا وإن [ ص: 220 ] لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه } .

751 - حدثنا أبو أمية ، حدثنا المعلى بن منصور الرازي ، حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : شهدت النعمان بن بشير على منبرنا هذا يقول : سمعت رسول الله عليه السلام يقول : { إن الحلال بين وإن الحرام بين وإن بين الحلال والحرام مشتبهات فمن تركها استبرأ لدينه وعرضه ، ومن رتع فيها يوشك أن يقع في الحرام كمن رعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى وإن الحرام حمى الله الذي حرم على عباده } .

752 - حدثنا بحر بن نصر ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا شيبان أبو معاوية ، عن عاصم بن بهدلة ، عن خيثمة ، والشعبي ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات فهو للحرام أترك ، ومحارم الله حمى فمن رتع حول الحمى كاد أن يرتع فيه } .

[ ص: 221 ] فسأل سائل عن المعنى المقصود إليه بهذا الحديث ما هو ؟

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله : أن لله شرائع قد شرعها وتعبد عباده بها ، فمنها ما ذكره في كتابه محكما كشف لهم معناه ، ومنها ما ذكره في كتابه متشابها فمن ذلك قوله في كتابه : هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات وكان المحكم منه الذي كشف لهم معناه قوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله : وبنات الأخت وكان المتشابه منه الذي لم يكشف لهم مراده فيه منه قوله : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ومنه قوله في الصيام : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ومنه قوله في الآية التي ذكر فيها ما حرم عليكم : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ومنه قوله : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف .

فكان المحكم والمتشابه اللذان ذكرهما في كتابه هما الجنسان اللذان ذكرنا .

ومنها ما أجراه على لسان نبيه عليه السلام على هذا المعنى وأجرى بعضه على لسانه محكما مكشوف المعنى كالصلوات الخمس في اليوم والليلة ، وكما يقصره المسافر منها في سفره ، وكما لا يقصره منها فيه ويكون فيه في سفره كمثل ما كان فيه في حضره .

ومنها ما تعتد به النساء في أيام حيضهن من ترك الصلاة والصيام [ ص: 222 ] ومن قضاء الصيام بعد ذلك في أيام طهرها وترك قضاء الصلاة بعد ذلك وكان ذلك مما أجراه على لسانه محكما .

ومما أجراه على لسانه متشابها منه قوله : { البيعان بالخيار ما لم يفترقا } .

ومنه قوله : { أفطر الحاجم والمحجوم } في أشياء من أشكال ذلك فاحتاجوا إلى طلب حقائقها وما عليهم فيها ، وكان ذلك من جنس ما أنزل الله عليه في كتابه متشابها ، وكان المعنى الأول من جنس ما أنزله عليه في كتابه محكما .

فكان معنى قوله : { الحلال بين والحرام بين } هو ما كان من الحلال المحكم ومن الحرام المحكم .

وكان معنى قوله : { وبين ذلك أمور مشتبهات } هو ما قد يحتمل أن يكون من الحلال البين ويحتمل أن يكون من الحرام البين ، كمثل ما ذكرنا من الجمع بين الأختين بملك اليمين ما قد رده بعضهم إلى التحليل ورده بعضهم إلى التحريم ، وأمثال لذلك يكون الدليل يقوم في قلوب بعضهم بتحليل ذلك ، وفي قلوب بعضهم بتحريمه ، وعند ذلك ما يتباين أهل الورع ممن سواهم ، فيقف أهل الورع عند الشبه ويتهمون فيها آراءهم ويقدم عليها من سواهم .

[ ص: 223 ] فقال قائل : أفيكون هذا الذي ذكرته مانعا للحكام من الحكم فيما يدخل عليهم فيه ما وصفته .

فكان جوابنا له في ذلك أن المفترض على الحكام في ذلك بعد اجتهاد رأيهم فيه إمضاء ما يؤديهم فيه آراؤهم إليه كما أمرهم رسول الله عليه السلام .

753 - كما حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث وبكر بن إدريس بن الحجاج قالا : حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا حيوة بن شريح ، عن ابن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر } . قال : فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن حزم فقال : هكذا حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة [ ص: 224 ] وفي ذلك ما قد دل أن المفروض على الحكام استعمال الاجتهاد فيما يحكمون به ، وأنه قد يكون معه الصواب وقد يكون فيه الخطأ ، وأنهم لم يكلفوا في ذلك إصابة الصواب ، وإنما كلفوا فيه الاجتهاد ، وأنه واسع لهم في ذلك إمضاء الحكومات عليه ، ثم يرجع المحكوم لهم في ذلك إلى المعنى الذي كانوا عليه قبل تلك الحكومات لهم من الورع عن الدخول فيها ومن الإقدام عليها .

فإن قال قائل : فهل يتهيأ لك كشف ذلك لنا في مسألة من هذا الجنس حتى نقف عليه ؟ قلنا له : نعم ، قد اختلف أهل العلم في رجل قال لامرأته أنت علي حرام ، فقال قائلون منهم : قد طلقت عليه ثلاث تطليقات لا تحل له بعدهن حتى تنكح زوجا غيره ، وقال قائلون منهم : إنها يمين يكون بها مؤليا ، وقال قائلون منهم : إنها ظهار يكفرها ما يكفر الظهار ، وقال قائلون منهم : إنها تطليقة تبين بها منه إلا أن يعني من الطلاق ثلاثا فيلزمه ذلك .

وقال قائلون منهم : إنها تطليقة يملك فيها رجعتها إلا أن ينوي [ ص: 225 ] من الطلاق أكثر منها فيلزمه ذلك . فكان من يلي ممن يرى حرمتها عليه بقول من هذه الأقوال ، ثم خوصم إلى حاكم لا يرى حرمتها عليه به ويرى أنها باقية على نكاحه على ما قد قاله في ذلك من قاله ممن قد ذكرناه من أهل العلم فيه فقضى له بذلك وقع في اختلاف من أهل العلم .

فطائفة منهم تقول : له استعمال ذلك وترك رأيه فيه الذي يخالفه ، وممن كان يقول ذلك : محمد بن الحسن .

وطائفة منهم تقول : بل يستعمل في ذلك ما يراه ، ويترك ذلك الحكم إذ كان إنما هو حكم له لا حكم عليه ، وممن كان يقول ذلك : أبو يوسف ، وهو أولى القولين عندنا بالحق ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية