الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[نقض دار علي بن أفلح]

وفي محرم هذه السنة: نقضت دار علي بن أفلح وكان المسترشد قد أكرمه ولقبه جمال الملك ، فظهر أنه عين لدبيس فتقدم بنقض داره فهرب ، وسنذكر حاله عند وفاته في زمان المقتفي إن شاء الله تعالى .

وفي صفر: عزم الخليفة على عمل السور فأشير عليه بالجباية من العقار ، وتقدم [ ص: 218 ] من الديوان إلى ابن الرطبي فأحضر أبو الفرج قاضي باب الأزج ، وأمر أن يجبى العقار لبناء السور ، وابتدئ بأصحاب الدكاكين فقلق الناس لذلك فجمع من ذلك مال كثير ثم أعيد على الناس ، فكثر الدعاء للخليفة وأنفق عليه من ماله ، وكان قد كتب القاضي أبو العباس ابن الرطبي إلى المسترشد قصة يقول فيها: "الخادم أدام الله ظل المواقف المقدسة طالع بما يعتقد إن أداه أدى حق النعمة عليه ، وإن كتمه كان مقصرا في تأدية ما يجب عليه وعالما أن الله يسأله عنه ، فلو فرض في وقته قضاء شخص يقول له يا أحمد بن سلامة قد خدمت العلم منذ الصبا حتى انتهيت إلى سن الشيوخ ، وطول العمر في خدمة العلم نعمة مقرونة بنعمة وخدمت إمام العصر خدمة زال عنها الارتياب عنده فيما تنهيه ، وعرفت بحكم مخالطتك لأبناء الزمان أن الناصح قليل والمشفق نادر ، وهو أدام الله أيامه بنجوة عما تتحدث به الرعية لا تصل إليه حقائق الأحوال إلا من جانب مخصوص ، فما عذرك عند الله في كتمانك ولست ممن يراد وأمثالك إلا لقول حق وإيراد صدق لا لعمارة ولا لجمع مال ، فلم يجد لنفسه جوابا يقوم عذره عنده فكيف عند الله تعالى ، وهذا الوقت الذي قد تجدد فيه من يتوهم أنه على شيء في خدمه وإثارة مال من جباية يغرر بنفسه مع الله تعالى وبمجد مولانا وأولى الأوقات باستمالة القلوب وإذاعة الصدقات وأعمال الصالحات هذا الوقت وحق الله يا مولانا أن الذي تتحدث به الناس فيما بينهم من أن أحدهم كان يعود من معيشته ويأوي إلى منزله فيدعو بالنصر والحفظ للدولة قد صاروا يجتمعون في المساجد والأماكن شاكين مما قد التمس منهم ، ويقولون كنا نسمع أن في البلد الفلاني مصادرة فنعجب ونحن الآن في كنف الإمامة المعظمة نشاهد ونرى ، والناس بين محسن الظن ومسيء ، والمحسن يقول: ما يجوز أن يطلع أمير المؤمنين على ما يجري فيقر عليه ، والمسيء الظن يقول: الفاعل لهذا أقل أن يقدم عليه إلا عن علم ورضا ، وقد كاد كل ذي ولاء وشفقة يضل ويتبلد ، وفي يومنا هذا حضر عند الخادم شيخ فقيه يعرف بإسماعيل الأرموي والخادم يذكر الدرس ، فقال:

ليبك على الإسلام من كان باكيا [ ص: 219 ] وحكي أن له دويرات بالجعفرية أجرتها دينار قد طولب بسبعة دنانير ، فيا مولانا الله الله في الدين والدولة اللذين بهما الاعتصام ، فما هذا الأمر مما يهمل ، وكيف يجوز أن يشاع عنا هذا الفعل الذي لا مساغ له في الشرع ويجعل الخلق شهودا وما يخلو في أعداء الدولة من يكون له مكاتب ومخبر يرفع هذا إليهم ، فما يبلع الأعداء في القدح إلى مثل هذا وما المال ولماذا يراد إلا لإنجاد الأنصار والأولياء ، وهل تنصرف الحقوق المشروعة إلا في مثل هذا ، وليس إلا عزمة من العزمات الشريفة يصلح بها ضمائر الناس ويؤمر بإعادة ما أخذ من الضعفاء ، وإن كان ما أخذ من الأغنياء باقيا أعيد ، وإن مست حاجة إليه عوملوا فيه ، وكتب قرضا على الخزائن المعمورة وجعل ذلك مضاهيا لما جرت به العوائد الشريفة عند النهضات التي سبقت واقترن بها النظر في تقديم الصدقات ، وختام الختمات والخادم وإن أطال فإنه يعد ما ذكره ذمرا بالعرض لكثرة ما على قلبه منه والأمر أعلى" .

وكان الابتداء بعمارة السور يوم السبت النصف من صفر ، وكان كل أسبوع تعمل أهل محلة ويخرجون بالطبول والجنكات ، وعزم الخليفة على ختان أولاده وأولاد إخوته ، وكانوا اثني عشر ، فأذن للناس أن يعلقوا ببغداد فعلقت ، وعمل الناس القباب ، وعملت خاتون قبة بباب النوبي ، وعلقت عليها من الثياب الديباج والجواهر ما أدهش الناس ، وعملت قبة في درب الدواب على باب الشييد العلوي ، وعليها غرائب الحلي والحلل ونصب عليها ستران من الديباج الرومي ، ومقدار كل واحد منهما عشرين ذراعا في عشرين ، وعلى أحدهما اسم المتقي لله ، وعلى الآخر المعتز بالله ، وأظهر الناس مخبئاتهم من الثياب والجوهر سبعة أيام بلياليهن .

ثم وصل الخبر بأن دبيسا حين هرب مضى إلى غزية ، فأضافوه وسألهم أن يحالفوه ، فقالوا: ما يمكننا معاداة الملوك ونحن بطريق مكة وأنت بعيد النسب منا وبنو المنتفق أقرب إليك نسبا ، فمضى إليهم وحالفوه وقصد البصرة في ربيع الأول وكبس [ ص: 220 ] مشهد طلحة والزبير فنهب ما هناك ، وقتل خلقا كثيرا ، وعزم على قطع النخل فصانعه أصحابها عن كل رأس شيئا معلوما .

ووصل الخبر أن السلطان محمودا قبض على وزيره شمس الدين عثمان بن نظام الملك ، وتركه في القلعة لأن سنجر كان أمره بإبعاده فحبسه ، فقال أبو نصر المستوفي للسلطان: متى مضى هذا إلى سنجر لم نأمنه والصواب قتله هاهنا وإنفاذ رأسه ، فبعث السلطان من ذبحه ، وأرسل السلطان محمود إلى الخليفة ليعزل أخا عثمان ، وهو أحمد بن نظام الملك ، فبلغ ذلك أحمد فانقطع في داره وبعث إلى الخليفة يسأله أن يعفى من الحضور بالديوان لئلا يعزل من هناك ، فأجابه ولم يؤذ بشيء .

وناب أبو القاسم ابن طراد في الوزارة ثم بعث إلى عميد الدولة ابن صدقة وهو بالحديثة فاستحضر فأقام بالحريم الطاهري أياما ، ثم نفذ له الزبزب وجميع أرباب الدولة ومع سديد الدولة خط الخليفة ، فقرأه عليه وهو: "أجب يا جلال الدين داعي التوفيق مع من حضر من الأصحاب لتعود في هذه الساعة إلى مستقر عزك مكرما" ، فأقبل معهم من الحريم الطاهري ، وجلس في الوزارة يوم الاثنين سادس ربيع الآخر .

وفي جمادى الآخرة: وصل ابن الباقرحي ومعه كتب من سنجر ومحمود بتسليم النظامية إليه ليدرس فيها ، فمنعه الفقهاء فألزمهم الديوان متابعته .

وفي آخر شعبان: وصل أسعد الميهني بأخذ المدرسة والنظر فيها ، وفي نواحيها ، وأزاله ابن الباقرحي عنها ، ففعل واتفق الميهني والوزير أحمد بن النظام على أن دخل المدرسة قليل لا يمكن إجراء الأمر على النظام المتقدم ، وأنهم يقنعون ببعض المتفقهة ويقطعون من بقي ، فاختل بذلك أمر المدرس فدرس يوما واحدا ، وامتنع الفقهاء من الحضور ، وترك التدريس ثم مضى إلى المعسكر ليصلح حاله فأقام خواجا أحمد أبا الفتح بن برهان ليدرس نائبا إلى أن يأتي أسعد الميهني ، فألقى الدرس يوما ، فأحضره الوزير ابن صدقة ، وأسمعه المكروه ، وقال: كيف أقدمت على مكان قد رتب فيه [ ص: 221 ] مدرس؟ ثم ألزمه بيته وتقدم إلى قاضي القضاة فصرفه عن الشهادة ، وأمر أبا منصور ابن الرزاز بالنيابة في المدرسة .

واشتد الغلاء فبلغت كارة الدقيق الخشكار ستة دنانير ونصفا .

التالي السابق


الخدمات العلمية