الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 154 ] 26 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله عليه السلام من نهيه عن الجلوس بالصعدات ومن إباحته ذلك على الشرائط التي اشترطها في إباحته ذلك

165 - حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا عبد الله بن سنان الهروي ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن جرير بن حازم قال : سمعت إسحاق بن سويد يحدث عن ابن حجير العدوي قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : { أتى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس على الطريق فقال : إياكم والجلوس على هذه الطرق ، فإنها مجالس الشيطان ، فإن كنتم لا محالة فأدوا حق الطريق ، ثم مضى رسول الله عليه السلام فقلت : قال رسول الله عليه السلام : أدوا حق الطريق ، ولم أسأله ما هو ، فلحقته فقلت : يا رسول الله ، إنك قلت كذا وكذا ، فما حق الطريق ؟ قال : حق الطريق : أن ترد السلام ، وتغض البصر ، وتكف الأذى ، وتهدي الضال ، وتعين الملهوف } .

[ ص: 155 ]

166 - وحدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن منهال قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر ، عن النبي عليه السلام بهذا الحديث منقطع الإسناد كما ذكرنا ، وبدون الكلام الذي في حديث يزيد بن سنان .

167 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا عثمان بن حكيم ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، حدثني أبي قال : قال أبو طلحة : { كنا جلوسا بالأفنية فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما لكم ولمجالس الصعدات ؟ فقلنا : اجتمعنا لغير مراب نتذاكر ونتحدث ، قال : فأعطوا المجالس حقها . قالوا : وما حقها يا رسول الله ؟ قال : غض البصر ، ورد السلام ، وطيب الكلام } .

[ ص: 156 ]

168 - حدثنا علي بن معبد ، حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا هريم بن سفيان البجلي ، عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي شريح الخزاعي ، عن النبي عليه السلام قال : { إياكم والجلوس في الصعدات ، فمن جلس في صعيد فليعطه حقه . قالوا : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : إغضاض البصر ، ورد التحية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر } .

169 - حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، حدثني حفص بن ميسرة ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله عليه السلام قال : { إياكم والجلوس بالطرقات ، قالوا : يا رسول الله ، لا بد من مجالسنا نتحدث فيها . فقال رسول الله : فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه . قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر } .

170 - حدثنا محمد بن خزيمة ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا شعبة ، حدثني أبو إسحاق قال : [ ص: 157 ] سمعت البراء بن عازب يقول : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بناس من الأنصار فقال : إن كنتم لا بد فاعلين ، فأفشوا السلام ، وأعينوا المظلوم ، واهدوا السبيل } .

171 - حدثنا فهد ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا شعبة ، حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء : { أن النبي عليه السلام مر بناس جلوس من الأنصار ، فقال : إن كنتم لا بد فاعلين } ، ثم ذكر مثله سواء غير أنه قال فيه : قال شعبة : ولم يسمع هذا الحديث أبو إسحاق من البراء .

قال أبو جعفر : وهذا اختلاف شديد على شعبة في هذا الحديث ؛ لأن حجاجا يذكر فيه سماع أبي إسحاق إياه من البراء ، وأبو الوليد ينفي ذلك ، والله أعلم ما الصواب فيه .

172 - حدثنا فهد ، حدثنا أبو غسان النهدي مالك بن إسماعيل ، [ ص: 158 ] حدثنا إسرائيل بن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : { مر النبي عليه السلام على مجلس للأنصار فقال : إن أبيتم إلا أن تجلسوا ، فردوا السلام ، واهدوا السبيل ، وأعينوا المظلوم } .

قال أبو جعفر : فتأملنا ما في هذه الآثار ، فوجدنا فيها نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس بالصعدات ، ثم أباح بعد ذلك ما أباحه من الجلوس فيها على الشرائط التي اشترطها على من أباحه ذلك منها .

فوقفنا بذلك على أن نهيه كان على الجلوس فيها ، إنما كان على الجلوس الذي ليس معه الشرائط التي اشترطها عند إباحته الجلوس فيها على من آثر أن يجلس فيها ، وعلى أن إباحته الجلوس فيها مضمن بالشرائط التي اشترطها في إباحته الجلوس فيها على من أباحه ذلك منها .

وفي ذلك ما قد دل على تباين نهيه صلى الله عليه وسلم وتباين إباحته ، وأن كل واحد منهما لمعنى ليس في الآخر منهما .

وفي هذه الآثار ما يدل على إباحة الناس الاستعمال من طرقهم العامة ما لا ضرر فيه على أحد من أهلها ، وإذا كان ذلك كذلك كان معقولا أن الجلوس فيها إن كان مما يضيق على المارين بها جلوس الجالسين بها إياها ، غير داخل فيما أباحه عليه السلام منها ، وأن ذلك راجع إلى ما في حديث سهل بن معاذ الجهني ، عن أبيه : { أن رسول الله عليه السلام أمر مناديا في بعض غزواته لما ضيق الناس المنازل ، وقطعوا الطرقات ، فنادى [ ص: 159 ] أن من ضيق منزلا ، وقطع طريقا فلا جهاد له } .

وقد ذكرنا هذا الحديث فيما تقدم منا في كتابنا هذا ، والواجب على ذوي اللب أن يعقلوا عن رسول الله عليه السلام ما يخاطب به أمته ، فإنه إنما يخاطبهم به ليوقفهم على حدود دينهم ، وعلى الآداب التي يستعملونها فيه ، وعلى الأحكام التي يحكمون بها فيه ، وأن يعلم أنه لا تضاد فيها ، وأن كل معنى منها يخاطبهم به يخالف ألفاظه فيه الألفاظ التي قد كان خاطبهم فيما قبله من جنس ذلك المعنى ، وأن يطلبوا ما في كل واحد من ذينك المعنيين إذا وقع في قلوبهم أن في ذلك تضادا أو خلافا ، فإنهم يجدونه بخلاف ما ظنوه فيه ، وإن خفي ذلك على بعضهم ، فإنما هو لتقصير علمه عنه ، لا لأن فيه ما ظنه من تضاد أو خلاف ؛ لأن ما تولاه الله بخلاف ذلك كما قال تعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية