الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 277 ] 50 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله عليه السلام في رفع العلم عن الناس وقبضه منهم

301 - حدثنا الربيع ، حدثنا ابن وهب ، سمعت الليث يقول : حدثني إبراهيم بن أبي عبلة ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي ، عن جبير بن نفير أنه قال : حدثني عوف بن مالك الأشجعي : { أن رسول الله عليه السلام نظر إلى السماء يوما فقال : هذا أوان يرفع العلم ، فقال له رجل من الأنصار : يقال له : لبيد بن زياد يا رسول الله ، يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة ، ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله تعالى ، قال : فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث عوف فقال : صدق عوف ، ألا أخبرك بأول ذلك يرفع ؟ الخشوع حتى لا ترى خاشعا } .

[ ص: 278 ]

302 - حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، حدثنا خطاب بن عثمان الفوزي ، حدثنا محمد بن حمير ، حدثني ابن أبي عبلة ، عن الوليد الجرشي ، حدثنا جبير ، عن عوف ، ثم ذكر مثله إلا أنه قال مكان لبيد بن زياد : زياد بن لبيد ، وإلا أنه قال : { يرفع يا رسول الله ، وفينا كتاب الله ، وقد علمناه أبناءنا ونساءنا ؟ } .

303 - حدثنا الربيع الجيزي ، والحسين بن نصر البغدادي قالا : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرني يحيى بن أيوب ، حدثنا أبو إسماعيل إبراهيم بن أبي عبلة ، أن الوليد بن عبد الرحمن حدثه عن جبير ، { عن عوف قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هذا أوان يرفع العلم ، فقلنا : يا رسول الله ، يرفع العلم وعندنا كتاب الله ، قد قرأناه ، وعلمناه صبياننا ونساءنا ؟ فذكر ضلالة أهل الكتابين اليهود والنصارى ، ثم قال : ذهابه بذهاب أوعيته .

قال جبير : فلقيت شداد بن أوس ، فذكرت له حديث عوف فقال : صدق عوف ، وأول ما يرفع الخشوع ، حتى لا ترى خاشعا
} .

[ ص: 279 ]

304 - وحدثنا فهد ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه { عن أبي الدرداء أنه قال : كنا مع رسول الله عليه السلام فشخص ببصره إلى السماء فقال : هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء . فقال زياد بن لبيد الأنصاري : يا رسول الله ، وكيف يختلس منا ، وقد قرأنا القرآن ، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا ، فقال : ثكلتك أمك يا زياد ، وإن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة ، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ، فماذا يغني عنهم } .

قال جبير : فلقيت عبادة بن الصامت فقلت له : ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء ، فأخبرته بالذي قال : قال : فقال : صدق أبو الدرداء ، إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس الخشوع ، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة ، فلا ترى فيه خاشعا
.

305 - حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا وكيع بن الجراح ، عن الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، { عن زياد بن لبيد قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا وذاك عند أوان ذهاب العلم ، قلنا : يا رسول الله ، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ونساءنا ، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم [ ص: 280 ] القيامة ؟ قال : ثكلتك أمك ابن أم لبيد ، إن كنت أراك من أفقه رجل بالمدينة ، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يفقهون مما فيهما شيئا ؟ }

قال أبو جعفر : فأنكر منكر هذه الأحاديث ، وقال : كيف يكون العلم يرفع في زمن النبي عليه السلام ، وأيامه هي الأيام السعيدة التي لا أمثال لها ، والوحي إنما كان ينزل عليه فيها ، فمحال أن يكون العلم الذي ينزل فيها ، ويبقى في أيدي الناس ليبلغه بعضهم بعضا إلى يوم القيامة ، كما أمروا به فيه يكون ذلك مرفوعا في تلك الأيام ؛ لأن ذلك لو كان كذلك انقطع التبليغ ، وبقي الناس في أيام رسول الله بلا علم ، وكانوا بعده في خروجهم عنه أغلط وهذا يستحيل ؛ لأن العلم إنما علم ليأخذه خلف عن سلف إلى يوم القيامة .

فكان جوابنا له في ذلك أن هذا الحديث من أحسن الأحاديث وأصحها ، وأن الذي فيه من نظر النبي عليه السلام إلى السماء ، ومن قوله عند ذلك هذا أوان يرفع فيه العلم ، إنما هو إشارة منه إلى وقت يرفع فيه العلم ، قد يجوز أن يكون هو وقت يكون بعده ؛ لأن هذا إنما هو كلمة يشار بها إلى الأشياء من ذلك قوله تعالى : هذا يومكم الذي كنتم توعدون ليس هم فيه يوم أنزل ذلك على رسول الله عليه السلام ، ومنه قوله تعالى : هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ليس على شيء مرئي يوم قيل لهم ذلك في أمثال لهذا كثيرة في القرآن .

[ ص: 281 ] فمثل ذلك ما في حديث عوف قد يحتمل أن يكون رسول الله عليه السلام لما نظر إلى السماء أري فيها الزمان الذي يرفع فيه العلم فقال ما قال من أجل ذلك .

ومما يدل على ما ذكرنا من هذا احتجاجه عليه السلام بضلالة أهل الكتابين اليهود والنصارى ، وعند اليهود منهم التوراة ، وعند النصارى منهم الإنجيل ، ولم يمنعاهم من الضلالة ، وإنما كان ذلك بعد ذهاب أنبيائهم صلوات الله عليهم ، لا في أيامهم .

فكذلك ما تواعد رسول الله عليه السلام به أمته في حديث عوف هذا يحتمل أن يكون بعد أيامه ، وبعد ذهاب من تبعه وخلفه بالرشد والهداية من أصحابه رضوان الله عليهم ، ومن سائر أمته سواهم .

وفي حديث عوف الذي ذكرنا قول جبير : فلقيت شداد بن أوس ، فذكرت ذلك له ، فقال : صدق عوف ، وأول ما يرفع من ذلك الخشوع ، حتى لا ترى خاشعا .

والخشوع الذي أراد شداد في هذا الحديث والله أعلم ، هو الإخبات والتواضع والتذلل لله عز وجل .

وكذلك حدثنا الوليد بن محمد التميمي النحوي ، أبو القاسم المعروف بولاد ، حدثنا أبو جعفر المصادري ، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى في قول الله تعالى : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين قال : الخاشعون المخبتون المتواضعون .

قال أبو جعفر : يعني لله تعالى حتى يرى ذلك فيهم ، ويكون [ ص: 282 ] علامة لهم كما قال تعالى في وصفه أصحاب نبيه : والذين معه أشداء على الكفار إلى قوله : سيماهم في وجوههم من أثر السجود وأثر السجود فيما قد روي عن المتقدمين .

ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا أبو عامر العقدي ، عن سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد سيماهم في وجوههم من أثر السجود قال : الخشوع والتواضع .

وبه عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : سيماهم في وجوههم من أثر السجود قال : الخشوع .

وما قد حدثنا ابن مرزوق ، حدثنا حبان بن هلال ، عن أبان بن يزيد ، عن مالك بن دينار ، عن مجاهد قال : سيماهم في وجوههم قال : أثر التراب .

وما قد حدثنا ابن مرزوق ، حدثنا هارون بن إسماعيل الخزاز ، عن ابن المبارك ، عن مالك بن دينار قال : سمعت عكرمة وسئل سيماهم في وجوههم من أثر السجود قال : أثر التراب .

قال أبو جعفر : وكل هذا صفات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف نظن أن هذه الصفات ترفع عنهم ، وكان فيما ذكرنا [ ص: 283 ] مما يقوي التأويل الذي تأولنا عليه ما رواه عوف عن رسول الله عليه السلام مما حملنا عليه ما قد روي عن شداد فيه من الدليل على رفع العلم في الأوان الذي يرفع فيه ، ونعوذ بالله منه ؛ لأنه هو الزمان الذي لا خشوع فيه مع الناس ، وإذا لم يكن معهم الخشوع كانت معهم القسوة والاستكبار ، ونعوذ بالله من ذلك .

وفي حديث يحيى بن أيوب الذي يعود إلى عوف وشداد ، من قول رسول الله عليه السلام في ذهاب العلم أنه ذهاب أوعيته ، ومثل ذلك ما قد روي عن رسول الله عليه السلام :

306 - كما قد حدثنا محمد بن عمرو بن يونس ، حدثنا عبد الله بن نمير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي عليه السلام قال : { إن الله لا يقبض العلم بأن ينتزعه انتزاعا ، ولكن يقبضه بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا ، سئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا } .

307 - وكما حدثنا علي بن معبد ، حدثنا أبو يحيى الأسدي محمد بن عبد الله بن كناسة ، حدثنا هشام بن عروة ، ثم ذكر بإسناده مثله .

[ ص: 284 ]

308 - وكما قد حدثنا عبد الملك بن مروان الرقي ، حدثنا شجاع بن الوليد ، عن هشام بن عروة ، ثم ذكر بإسناده .

309 - وكما حدثنا فهد ، حدثنا أبو غسان ، حدثنا زهير ، أخبرني هشام بن عروة ، ثم ذكر بإسناده نحوه .

310 - وكما حدثنا يونس ، وعبد الغني بن أبي عقيل جميعا ، قالا : حدثنا ابن وهب ، حدثنا مالك ، عن هشام بن عروة ، ثم ذكر بإسناده مثله .

311 - وحدثنا فهد ، حدثنا سعيد بن كثير بن عفير ، حدثنا ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال : وأخبرني عروة ، عن عائشة ، عن رسول الله عليه السلام مثله .

[ ص: 285 ] قال أبو جعفر : هكذا قال يونس بن يزيد في هذا الحديث عن عائشة مكان ابن عمرو ، فيما رويناه قبله ، وقد خالفه في ذلك معمر عن الزهري فقال فيه : عن ابن عمرو .

312 - كما حدثنا عبيد بن رجال ، حدثنا مؤمل بن يهاب ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله عليه السلام فذكر هذا الحديث .

ولما وقع في هذا الحديث هذا الاختلاف في إسناده بحثنا عن ذلك لنقف على الصحيح منه .

313 - فوجدنا الربيع بن سليمان الأزدي قد حدثنا قال : حدثنا طلق بن السمح اللخمي ، حدثنا أبو شريح عبد الرحمن بن شريح ، حدثنا أبو الأسود ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت له : يا ابن أخي ، إني قد أخبرت أن عبد الله بن عمرو بن العاص حاج في عامي هذا ، وأنه قد حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة ، فلقي عروة عبد الله بن [ ص: 286 ] عمرو فأخبره فقال : سمعت رسول الله عليه السلام يقول ، ثم ذكر هذا الحديث .

فقوي في قلوبنا أن يكون هذا الحديث يرجع إلى عبد الله بن عمرو ، لا إلى عائشة ، حتى وقفنا على ما هو أولى من ذلك .

314 - وهو ما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرني هارون بن سعيد الأيلي ، حدثني خالد بن نزار الأيلي ، حدثني قاسم بن مبرور ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير ، عن عبد الله بن عمرو ، وعن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر هذا الحديث .

[ ص: 287 ] فوقفنا بذلك على أن الحديث كان عند عروة عن عائشة ، وعن ابن عمرو جميعا ، وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري هذا الحديث عن عروة ، فرده إلى ابن عمرو لا إلى عائشة .

315 - كما حدثنا المطلب بن شعيب بن حبان الأزدي ، وفهد قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني يحيى بن سعيد ، عن عروة ، عن ابن عمرو ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث .

وقد روي في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا عن غير عائشة ، وغير ابن عمرو :

316 - ما قد حدثنا ابن معبد ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا الأعمش ، عن شقيق قال : كنت مع عبد الله ، وأبي موسى في المسجد فقالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن بين يدي الساعة أياما ينزل فيها الجهل ، ويرفع فيها العلم ، ويكثر فيها الهرج } ؛ والهرج القتل .

317 - وما قد حدثنا فهد ، حدثنا علي بن معبد ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عبيدة ، عن أبي وائل قال : جلس ابن مسعود ، وعبد الله بن قيس في ناحية من المسجد الأيمن ، [ ص: 288 ] فقال ابن مسعود : حدثنا يا أبا موسى ، حدثنا عن الأيام التي سمعت من رسول الله عليه السلام تكون بين يدي الساعة . فقال أبو موسى : سمعت رسول الله عليه السلام يقول : { يأتي عليكم أيام يقبض فيهن العلم ، وينزل فيهن الجهل ، ويكثر فيهن الهرج ، فقال ابن مسعود : وما الهرج ؟ قال : هو القتل بالحبشية } .

318 - وما قد حدثنا فهد ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا جعفر بن برقان ، عن يزيد يعني : ابن الأصم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه السلام : تظهر الفتن ، ويكثر الهرج ، قلنا : وما الهرج ؟ قال : القتل ، ويقبض العلم . فقال عمر لما سمع أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إن قبض العلم ليس بشيء ينتزع من صدور الرجال ، ولكنه فناء العلماء .

319 - وما قد حدثنا أبو أمية ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا شيبان يعني النحوي ، عن عاصم ، عن زياد بن قيس ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ويل للعرب من شر قد اقترب ، يقبض العلم ، ويكثر الهرج ، قلت : يا رسول [ ص: 289 ] الله ، وما الهرج ؟ قال : القتل } .

320 - وما قد حدثنا يونس ، حدثني ابن وهب ، حدثني يحيى بن أيوب ، عن زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ ، عن أبيه : أن رسول الله عليه السلام قال : { لا تزال الأمة على شريعة ما لم يظهر منهم ثلاث ، يقبض منهم العلم ، ويكثر فيهم ولد الحنث ، ويظهر فيهم الصقارون . قالوا : وما الصقارون يا رسول الله ؟ قال : نشء يكون في آخر الزمان ، تحيتهم بينهم إذا التقوا التلاعن } .

ففيما روينا عن رسول الله عليه السلام من هذه الآثار ، ما قد دل على [ ص: 290 ] أن أوان رفع العلم هو على زمان لم يكن حين قال رسول الله عليه السلام فيه ما قال ، وإنما هو على زمان يكون بين يدي الساعة ، فقد اتفقت آثار رسول الله عليه السلام كلها التي روينا في هذا الباب ، ويصدق بعضها بعضا ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية