الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 318 ] 56 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : { إن الشيطان يعقد على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام ، كل عقدة منها يضرب مكانها : عليك ليل طويل ، فإذا أصبح ولم يصل أصبح كسلان خبيث النفس }

340 - حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد ، ومالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : أن رسول الله عليه السلام قال : { يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد ، كل عقدة يضرب مكانها : عليك ليل طويل : ارقد ، فإذا استيقظ فإن ذكر ربه عز وجل انحلت عقدة ، وإن توضأ انحلت عقدة ، وإن صلى انحلت عقدة ، وأصبح نشيطا طيب النفس ، وإن لم يفعل أصبح خبيث النفس كسلان } .

341 - حدثنا فهد ، حدثنا الحسن بن الربيع الكوفي ، حدثنا أبو الأحوص ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه السلام : { إن للشيطان [ ص: 319 ] عند رأس أحدكم حبلا فيه ثلاث عقد ، فإذا استيقظ ووحد الله حلت عقدة ، وإن قام وتوضأ حلت عقدة أخرى ، فإذا هو صلى حلت عقده كلها ، وأصبح خفيفا طيب النفس ، وإن هو نام حتى يصبح أصبح عليه عقد ، وأصبح وهو ثقيل ، خبيث النفس } .

فقال قائل : فكيف تقبلون هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد رويتم عنه النهي عن وصف النفس بالخبث ، وأمره أن يقول من يريد أن يقول : خبثت نفسي ، " لقست نفسي " مكان " خبثت نفسي " .

وذكر في ذلك :

342 - ما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا ابن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يقولن أحدكم : خبثت نفسي ، وليقل : لقست نفسي } .

343 - وما قد حدثنا ابن خزيمة أيضا ، حدثنا إبراهيم بن بشار ، [ ص: 320 ] حدثنا ابن عيينة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

344 - وما قد حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يقول أحدكم : خبثت نفسي ، وليقل : لقست نفسي } .

345 - وما قد حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل ، حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي أمامة ، عن النبي عليه السلام فذكر مثله . ولم يقل : عن أبيه .

فكان جوابنا له في ذلك أن وصف النفس بالخبث وصف لها بالفسق ، ومنه قول الله تعالى : الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات فكان مكروها للرجل أن يفسق نفسه ، إذا لم يكن منها ما يوجب ذلك عليها ، وكان محبوبا له أن يقول مكان ذلك : لقست نفسي ، وإن [ ص: 321 ] معناهما معنى واحد ، وهو الشراسة ، وشدة الخلق ، كذلك معناهما عند أهل العربية ، وممن حكى ذلك عنه منهم أبو عبيد ، حكى ذلك لنا عنه علي بن عبد العزيز ، وقال فيما حكاه لنا عنه في ذلك ، ومنه قول عمر في صفة الزبير : إنه وعقة لقس يعني هذا المعنى .

ولما كان معنى الخبيث معنى اللقس الذي ذكرنا واحدا ، كان أولاهما بمن يريد وصف نفسه بالمعنى الذي يرجعان إليه أحسنهما ، وهو ما أمره النبي عليه السلام به في حديثي عائشة وسهل حتى يكون من نفسه ما يستحق له أن يوصف بالخبث من تركها الصلاة ، وإنشائها واختيارها النوم على ذلك ، فيكون ذلك فسقا منها ، وتستحق بذلك أن توصف بالخبث الذي معناه بهذا الفسق على ما في حديث أبي هريرة ، الذي قد روينا ، فقد بان بحمد الله أن كل معنى من المعنيين اللذين ذكرنا في هذه الروايات غير مخالف للمعنى الآخر المذكور فيها ولا مضاد له ، وأن كل واحد منهما قد انصرف إلى معنى من المعنيين المذكورين في هذه الأحاديث ، غير المعنى الذي انصرف إلى الحديث الآخر منهما ، مع أنه قد روي عن رسول الله عليه السلام بإسناد محمود أنه قال : { وإذا أصبح ولم يصل أصبح لقس النفس } .

346 - وهو ما قد حدثنا الحسن بن غليب بن سعيد الأزدي ، حدثنا عبد الله بن محمد الفهمي المعروف بالبيطري ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله عليه السلام فذكر مثل حديثي الربيع وفهد اللذين ذكرنا في هذا الباب ، إلا أنه قال في آخره : فإن لم يفعل يعني { لم يذكر الله [ ص: 322 ] ولم يتوضأ ، ولم يصل أصبح لقس النفس كسلان } .

فقد ذكر هذا ما ذكرنا ، ودل على أن معنى خبيث النفس أنه لقس النفس ، غير أن الأولى بوصف الرجل نفسه إذا لم يكن منها اختيار للأمور المذمومة ، ومعها الشراسة ، وشدة الخلق بما في حديثي عائشة وسهل ، فإذا كان معها الاختيار للأمور المذمومة ، جاز له وصفها بما في حديثي الأعرج وأبي صالح ، عن أبي هريرة ، ومما في حديث سعيد عن أبي هريرة يصفها بما شاء منهما ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية