الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 236 ] 44 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله عليه السلام من قوله : وإياك واللو ، فإنها تفتح عمل الشيطان

259 - حدثنا يونس ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن عجلان ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي عليه السلام قال : { المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ، ولا تعجز ، فإن فاتك شيء فقل : قدر الله وما شاء فعل ، وإياك واللو ؛ فإنها تفتح عمل الشيطان } .

فتأملنا إسناد هذا الحديث هل هو موصول أو قد دخله تدليس من ابن عجلان أتاه به عن الأعرج يحدث به عنه بغير سماع منه إياه .

260 - فوجدنا محمد بن أحمد بن جعفر الكوفي الذهلي أبا العلاء ، قد حدثنا قال : حدثنا أحمد بن جميل المروزي ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا محمد بن عجلان ، عن ربيعة ، عن الأعرج ، [ ص: 237 ] عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه السلام { المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ولا تعجز ، فإن غلبك أمر فقل : قدر الله وما شاء صنع ، وإياك واللو ؛ فإنها تفتح من الشيطان } .

ثم سمعته من ربيعة ، وحفظي له من محمد .

261 - ووجدنا يحيى بن عثمان ، قد حدثنا قال : حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا ابن المبارك ، ثم ذكر بإسناده مثله ، وقال في آخره : ثم سمعته من ربيعة بن عثمان ، ولم يذكر في أوله ربيعة .

فوقفنا بذلك على أن محمد بن عجلان إنما حدث به عن الأعرج تدليسا منه به عنه ، وأنه إنما كان أخذه من ربيعة بن عثمان عنه .

ثم تأملنا حديث ربيعة عن الأعرج ، هل هو سماعه إياه منه ، أو على التدليس به عنه .

262 - فوجدنا فهدا قد حدثنا قال : حدثنا أحمد بن حميد الكوفي ، ختن عبيد الله بن موسى ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ربيعة بن عثمان ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه السلام : { المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، فإن فاتك شيء فقل : قدر [ ص: 238 ] الله وما شاء فعل ، وإياك ولو ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان } .

فوقفنا بذلك على أن أصل هذا الحديث في إسناده إنما هو عن ابن عجلان ، عن ربيعة بن عثمان ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن الأعرج ، ثم بان لنا معنى "لو" المحذر منها في هذا الحديث بعد وقوفنا على أن "لو" ليست مكروهة في كل الأشياء ، إذ كان الله قد ذكر في كتابه إباحتها في شيء ذكرها فيه ، وهو قوله لنبيه فيما ذكر من جوابه لمن سأله عن الساعة : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ، إذ قد كان رسوله ذكرها فيما ذكرها فيه .

263 - كما حدثنا عبد الملك بن مروان الرقي ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن أبي كبشة الأنماري قال : { ضرب لنا رسول الله عليه السلام مثل الدنيا مثل أربعة : رجل آتاه الله مالا وآتاه علما ، فهو يعمل بعلمه في ماله ، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا ، فهو يقول : لو أن الله آتاني مثل ما آتى فلانا لفعلت فيه مثل الذي يفعل ، فهما في الأجر سواء ، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما ، فهو يمنعه من حقه ، وينفقه في الباطل ، ورجل لم يؤته الله مالا ولم يؤته علما ، فهو يقول : لو أن [ ص: 239 ] الله آتاني مثل ما آتى فلانا ، لفعلت فيه مثل ما يفعل ، فهما في الوزر سواء } .

فلم تكن " لو " مكروهة فيما ذكرنا ، فعلمنا بذلك أنها إنما هي مكروهة ، محذر منها في غير ما وصفنا .

ثم تأملنا ذلك لنقف على الموضع الذي هي مكروهة فيه .

فوجدنا الله قد ذكر في كتابه ما كان من قوم ذمهم بما كان من قول كان منهم ، وهو قوله تعالى : يقولون لو كان لنا من الأمر شيء فرد ذلك عليهم بقوله : قل إن الأمر كله لله ثم عاد يخبر عنهم بما كانوا عليه في ذلك مما أخفوه عن نبيه عليه السلام ، فقال : يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ، ثم عاد تعالى بعد يخبر عنهم بما كانوا يقولون فقال : يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا فرد [ ص: 240 ] تعالى ذلك عليهم بما أمر نبيه أن يقوله لهم فقال : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ، ثم عاد بعد ذلك إلى المؤمنين محذرا لهم أن يكونوا أمثالهم فقال : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، ثم أخبر المؤمنين بالمعنى الذي به ابتلي بذلك أولئك الكافرون فقال : ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ، ثم أخبرهم بحقائق الأمور التي يجري عليها الخلق من الموت والحياة فقال : والله يحيي ويميت الآية .

ووجدناه سبحانه وتعالى قد قال في كتابه : أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت إلى قوله : من المحسنين فرد الله ذلك عليهم بقوله : بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها الآية .

قال : فكان فيما تلونا في اللوات ما قد عقل به ما هي فيه غير مذمومة ، وما هي فيه مذمومة ، وكذلك فيما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب من حديث أبي كبشة .

ثم وجدنا العرب تذم اللو ، وتحذر منها ، فتقول : احذر لوا ، تريد به قول الإنسان لو علمت أن هذا يلحقني لعملت خيرا .

وفيما ذكر ما قد دل على أن " اللو " المكروهة هي ما في حديث أبي هريرة الذي روينا ، وعلى أن اللو التي ليست بمكروهة هي اللو المذكورة في حديث أبي كبشة الذي رويناه أيضا .

وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الحجاج الأزدي ، [ ص: 241 ] عن سلمان أنه قال : الإيمان بالقدر أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولا تقولن لشيء أصابك لو فعلت كذا وكذا .

قال أبو جعفر : يعني لكان كذا وكذا ، ولم يكن كذا وكذا . وقد بان مما شرحنا وذكرنا أن لا تضاد ولا اختلاف في شيء مما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، وأن ما تلونا من كتاب الله تعالى شاد لذلك ، شاهد له ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية