الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 310 ] 55 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبب الذي أنزلت فيه الآيتان اللتان أول سورة الحجرات : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا الآية يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية

335 - حدثنا بكار بن قتيبة ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا نافع بن عمر الجمحي ، حدثنا ابن أبي مليكة ، عن ابن الزبير قال : { قدم الأقرع بن حابس على رسول الله عليه السلام فقال أبو بكر : يا رسول الله ، استعمله على قومه . وقال عمر : لا تستعمله يا رسول الله ، فتكلما في ذلك حتى ارتفعت أصواتهما . فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ؟ قال : ما أردت خلافك . قال : فنزلت : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول .

قال : فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم لم يسمع النبي عليه السلام حتى يستفهمه
. قال : وما ذكر أباه ولا جده ، يعني أبا بكر والزبير رضي الله عنهما .

336 - حدثنا يوسف بن يزيد ، حدثنا يعقوب بن أبي عباد [ ص: 311 ] المكي ، حدثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة قال : كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب من بني تميم ، أشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر لا أحفظ اسمه ، قال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي . فقال : ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم إلى آخر الآية .

حدثنا يوسف ، حدثنا يعقوب ، حدثنا نافع قال : قال ابن أبي مليكة فقال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه . قال ابن أبي مليكة : ولم يذكر ذلك عن أبيه أبي بكر .

[ ص: 312 ] قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث أن الآية التي أنزلت في المعنى الذي كان من أبي بكر وعمر المذكور في هذا الحديث هي : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول ، وقد روي أن الآية التي أنزلت في ذلك هي قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله الآية .

337 - كما حدثنا محمد بن عبد الله بن مخلد الأصبهاني أبو الحسين ، حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثني هشام بن يوسف في تفسير ابن جريج : لا تقدموا بين يدي الله ورسوله أخبرني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبرهم ، أنه قدم ركب من بني تميم على النبي عليه السلام فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد بن زرارة . وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس . فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ! فقال عمر : ما أردت خلافك ؛ فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله .

فكان ما في الحديثين الأولين أشبه بأن تكون الآية المذكورة فيهما هي التي أنزلت فيما كان من أبي بكر وعمر في المعنى المذكور فيهما ، والله أعلم .

وقد شد ذلك ما قد روي مما كان عند نزولها من ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري . :

338 - حدثنا فهد ، حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة المنقري ، حدثنا سليمان يعني : ابن المغيرة ، حدثنا ثابت [ ص: 313 ] عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي قال : { وكان ثابت بن قيس رفيع الصوت ، فلما نزلت هذه الآية جلس في بيته ، وقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي ، وأجهر له بالقول ، حبط عملي ، وأنا من أهل النار . ففقده النبي عليه السلام فأتاه رجل من أصحابه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدك . فقال : أنزلت في هذه الآية ، أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجهر له بالقول ، فحبط عملي ، وأنا من أهل النار . فأتى به الرجل فقال : إنه يقول : كذا وكذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل هو من أهل الجنة } . قال أنس : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة ، فلما كان يوم اليمامة كان في بعضنا بعض الانكشاف فأقبل ، وقد تكفن وتحنط فقال : بئس ما عودتم أقرانكم فقاتلهم حتى قتل رحمه الله .

[ ص: 314 ] فأما نزول الآية الأخرى التي تلوناها في هذا الباب ، فكان فيما روي عن عائشة في معنى سوى ذلك المعنى الذي نزلت فيه الآية الأخرى .

339 - كما حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني ، حدثني أبي في إملاء أبي يوسف عليهم عن يحيى بن الحارث التيمي ، عن حبال بن رفيدة ، عن مسروق بن الأجدع قال : كنا عند عائشة أم المؤمنين يوم عرفة والناس يسألون يرون أنه يوم النحر . فقالت لجارية لها : أخرجي لمسروق سويقا وحليه ، فلولا أني صائمة لذقته . فقال لها : أصمت هذا اليوم ، وهو يشك فيه ؟ فقالت : نزلت هذه الآية في مثل هذا اليوم : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله كان قوم يتقدمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصوم وفيما أشبهه ، فنهوا عن ذلك .

وكما حدثنا الحسن بن بكر بن عبد الرحمن أبو علي المروذي ، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي ، أخبرنا جعفر الأحمر ، عن يحيى الجابر ، عن حبال بن رفيدة ، عن مسروق : أن رجلا صام يوم الشك ، [ ص: 315 ] فقالت له عائشة : لا تفعل ، فإنهم كانوا يرون أن هذه الآية نزلت فيه : لا تقدموا بين يدي الله ورسوله .

فدل ما ذكرنا عند تصحيح ما روينا أن كل واحدة من الآيتين اللتين تلونا كان نزولها في معنى غير المعنى الذي كان فيه نزول الآية الأخرى منهما .

وفي حديث ابن الزبير معنى يجب أن يوقف عليه ، وهو ما في حديث بكار بن قتيبة الذي روينا من قول أبي بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي . ومن قول عمر عند ذلك : ما أردت خلافك . وما في حديث يوسف بن يزيد ، ومحمد الأصبهاني مكان ذلك ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي . وقول عمر له عند ذلك : ما أردت خلافك . فالذي في حديث بكار أولى عندنا وأشبه بهما ؛ لأن ذلك سؤال من أبي بكر لعمر : ما الذي أراد به خلافه ، والذي في حديثي يوسف ومحمد : ما أردت إلا خلافي . هو على سبيل الخصومة والنكير من أبي بكر لعمر ، ما كان منه في ذلك ، وقد برأهما الله تعالى من الاختلاق الذي يوقع بينهما الاختلاف في هذا ، وما أشبهه ، وطهر قلوبهما ، وجعل كل واحد منهما وليا لصاحبه في الدنيا والآخرة ؛ ولأنه لا يخالف باطنها ظاهرها .

وقد روي عن مجاهد في تأويل قول الله تعالى : ولا تجهروا له بالقول .

ما قد حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا الفريابي ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض [ ص: 316 ] قال : لا تنادوا نداء لا تقولوا : يا محمد ، ولكن قولوا قولا لينا : يا رسول الله .

وروي عنه أيضا في تأويل قوله تعالى : لا تقدموا بين يدي الله ورسوله .

ما قد حدثنا ابن أبي مريم أيضا قال : حدثنا الفريابي ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لا تقدموا بين يدي الله ورسوله قال : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يفيضه الله على لسانه .

وروي عن الحسن البصري في ذلك :

ما حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا عبيد الله بن محمد التيمي ، وموسى بن إسماعيل ، وسهل بن بكار ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن لا تقدموا بين يدي الله ورسوله قال : لا تذبحوا حتى يذبح النبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 317 ] قال : وقال الكلبي : لا تقدموا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بقول ولا عمل
.

فالذي رويناه في هذا الباب عن الحسن وعن مجاهد فيه توكيد لما ذكرنا مما يوافقه ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية