الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 330 ] 58 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله عليه السلام في قول الله عز وجل : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين وفي قوله تعالى : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين

357 - حدثنا محمد بن علي بن داود البغدادي ، حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي ، حدثنا شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : { لما نزلت : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين شق ذلك على المسلمين ، فنزلت ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة شطر أهل الجنة ، وقال مرة أخرى : نصف أهل الجنة ، وتقاسموهم النصف الباقي } .

فتأملنا هاتين الآيتين فوجدنا الأولى منهما قد تقدمها قول الله تعالى : [ ص: 331 ] وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون ، فجعل المقربين أعلاهم رتبة ، وأشرفهم منزلة ، ووصفهم بالسبق ، ثم أخبر أنهم ثلة من الأولين ، كأنه جل وعز يعني ممن تقدمهم من الأمم ، وقليل من الآخرين .

ووجدنا الثانية منهما قد تقدمها قوله تعالى : إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ، وكان الذي في الأولى فمن قوله تعالى : وقليل من الآخرين على المقربين ، والذي سبق في الآية الثانية فمن قوله : وثلة من الآخرين على أصحاب اليمين ، وهم غير المقربين .

ووجدناه تعالى قد بين ذلك في آخر السورة التي فيها هاتان الآيتان بقوله : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنـزل من حميم وتصلية جحيم .

فعقلنا بذلك أن المقربين هم غير أصحاب اليمين ، وأنهم أعلى الثلاث الفرق رتبة وأعلاهم منزلة ، وأنهم في العدد أقل من أصحاب اليمين ، وهم المذكورون في الآية الأولى من الآيتين الأوليين ، وأن المذكورين في الآية الثانية منهما هم أصحاب اليمين ، وكان الزوجان جميعا : المقربون ، وأصحاب اليمين هم أهل الجنة إلا أن المقربين منهم أعلى فيها رتبة ، وأشرف فيها منزلة من أصحاب اليمين . ودلنا ذلك أن فرح أصحاب [ ص: 332 ] رسول الله عليه السلام بالآية الثانية كان لما علموا بها أن من أهل الجنة سوى المقربين منهم أصحاب اليمين ، والله أعلم بما أراد به من ذلك .

ثم طلبنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته التي تدخل الجنة ، كم هو ممن يدخل الجنة سواها .

358 - فوجدنا يزيد بن سنان ، قد حدثنا قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري ، حدثنا هشام الدستوائي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن { ابن مسعود قال : تحدثنا عند نبي الله عليه السلام ليلة حتى أكرينا الحديث ، ثم رجعنا إلى أهلينا ، فلما أصبحنا غدونا على نبي الله عليه السلام فقال : عرضت علي الأنبياء بأممها وأتباعها من أمتها ، فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة من أمته ، والنبي معه العصابة من أمته ، والنبي معه النفر من أمته ، والنبي وما معه أحد من أمته حتى مر علي موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل ، فلما رأيتهم أعجبوني فقلت : يا رب ، من هؤلاء ؟ قال : هذا أخوك موسى بن عمران ومن تبعه من بني إسرائيل . فقلت : يا رب ، فأين أمتي ؟ قال : انظر عن يمينك . فنظرت فإذا الظراب ظراب مكة تهوش قد سد بوجوه الرجال ، قال : رضيت ؟ قلت : رب ، رضيت . من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء أمتك ، أفرضيت ؟ قلت : رضيت رب . ثم قال : انظر عن يسارك فنظرت ، فإذا الأفق قد سد [ ص: 333 ] بوجوه الرجال قال : رضيت ؟ قلت : رب رضيت . قال : فإن مع هؤلاء سبعين ألفا ، يدخلون الجنة لا حساب عليهم ، فأنشأ عكاشة بن محصن أخي بني أسد بن خزيمة فقال : يا نبي الله ، ادع الله أن يجعلني منهم . قال : اللهم اجعله منهم ، ثم أنشأ رجل آخر فقال : يا نبي الله ، ادع الله أن يجعلني منهم . قال : سبقك بها عكاشة .

قال : وذكر لنا أن نبي الله عليه السلام قال : إن استطعتم فدى لكم أبي وأمي أن تكونوا من السبعين فافعلوا ، فإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب ، فإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الأفق ، فإني قد رأيت عنده ناسا يتهوشون كثيرا .

وذكر لنا أن رجالا من المؤمنين تراجعوا فيهم فقالوا : ما ترون عمل هؤلاء السبعون ألفا حتى صيروا من أمرهم ؟ فقالوا : هؤلاء ولدوا في الإسلام ، فلم يزالوا يعملون به حتى ماتوا . قال : ليس كذلك ، ولكنهم الذين لا يكتوون ، ولا يسترقون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون .

قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : إني لأرجو أن يكون معي من أمتي ربع أهل الجنة ، فكبرنا ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا الثلث فكبرنا ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا الشطر فكبرنا ، ثم قرأ هذه الآية : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين
} .

[ ص: 334 ]

359 - ووجدنا يزيد قد حدثنا قال : حدثنا خلف بن موسى العمي ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن الحسن ، والعلاء بن زياد ، عن عمران : أن ابن مسعود قال : تحدثنا ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر هذا الحديث ، غير أنه ذكر فيه عند قوله : { فإذا النبي ليس معه أحد ، وقد أنبأكم الله تعالى عن قوم لوط ، يعني فيما كان قاله لهم : أليس منكم رجل رشيد .

360 - ووجدنا أبا أمية قد حدثنا قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله قال : { أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره إلى قبة من أدم بمنى ، ثم قال لأصحابه : ألا ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قالوا : بلى ، قال : ألا ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قالوا : بلى . قال : والذي نفسي بيده ، إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل [ ص: 335 ] الجنة ، وسأحدثكم بقلة المسلمين في الكفار يوم القيامة ، مثل شعرة سوداء في جلد ثور أبيض ، أو شعرة بيضاء في جلد ثور أسود ، ولن تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة } .

361 - حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت عمرو بن ميمون يحدث عن ابن مسعود قال : { كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة نحوا من أربعين فقال لنا : أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قلنا : نعم . قال : فوالذي نفس محمد بيده ، إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة ، وما أنتم في الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر } .

362 - ووجدنا إبراهيم بن مرزوق ، قد حدثنا قال : حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو ، عن عبد الله ، ثم ذكر مثله ، غير أنه زاد فقال : { أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قلنا : نعم . قال : أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ فقلنا : نعم . قال : أترضون أن تكونوا نصف أهل الجنة ؟ قلنا : نعم } ، ثم ذكر بقية الحديث .

[ ص: 336 ]

363 - حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا عبد الحميد بن موسى ، وحكيم بن سيف قالا : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأودي قال : سمعت ابن مسعود قال : { خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأسند ظهره إلى قبة أدم ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ فقلنا : نعم . يا رسول الله ، قال : أوما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ فقلنا : نعم يا رسول الله ، قال : والذي نفسي بيده ، إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، ألا إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ألا وإن المسلمين يوم القيامة في القلة مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود ، والشعرة السوداء في الثور الأبيض } .

364 - ووجدنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث ، قد حدثنا قال : حدثنا يوسف بن عدي الكوفي ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ فكبر الناس ، فقال : أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ فكبر الناس فقال : أما ترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة ، وسأحدثكم عن ذلك ، ما المسلمون في الكفار إلا [ ص: 337 ] كالشعرة السوداء في الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود .

ثم وجدنا الله قد زاده على ما رجا من ذلك ، فجعل أمته ثلثي أهل الجنة
} .

365 - كما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا الحارث بن حصيرة ، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن { ابن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أنتم وربع أهل الجنة ، لكم ربعها ، ولسائر الناس ثلاثة أرباعها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فكيف أنتم وثلثها ؟ فقالوا : فذلك أكبر ، قال : فكيف أنتم والشطر ؟ قالوا : ذلك أكبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أهل الجنة يوم القيامة عشرون ومائة صف أنتم منهم ثمانون صفا } .

366 - وكما حدثنا إبراهيم أيضا ، حدثنا عفان ، حدثنا [ ص: 338 ] عبد العزيز بن مسلم القسملي ، حدثنا أبو سنان ، عن محارب بن دثار ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله عليه السلام : { أهل الجنة مائة وعشرون صفا ، هذه الأمة منها ثمانون صفا } .

فإلى هذا تناهى ما وقفنا عليه مما يروى عن رسول الله عليه السلام في هذا الباب مما شرف الله به نبيه في أمته ، وأعطاه مما لم يعطه غيره من أنبيائه صلوات الله عليه وعليهم ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية