الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 427 ] 72 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقدار من الحال الذي تحرم به المسألة

486 - حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا بشر بن بكر ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني ربيعة بن يزيد ، عن أبي كبشة السلولي ، حدثني سهل بن الحنظلية ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم ، قلت : يا رسول الله ، وما ظهر غنى ؟ قال : أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم ، أو ما يعشيهم } .

487 - حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب أن مالكا حدثه عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، [ ص: 428 ] عن رجل من بني أسد قال : { أتيت النبي عليه السلام فسمعته يقول لرجل يسأله : من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا .

والأوقية يومئذ أربعون درهما
} .

488 - وحدثنا ابن مرزوق ، حدثنا أبو عاصم النبيل ، وحدثنا الحسن بن نصر ، حدثنا الفريابي ، قالا : حدثنا الثوري ، عن حكيم بن جبير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبيه ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شينا أو كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة ، قيل : يا رسول الله ، وما غناه ؟ قال : خمسون درهما ، أو حسابها من الذهب } .

[ ص: 429 ]

489 - وحدثنا أحمد بن خالد بن يزيد البغدادي ، حدثنا أبو هشام الرفاعي ، حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا الثوري ، فذكر بإسناده مثله ، غير أنه قال : { كدوحا في وجهه } ، ولم يشك ، وزاد : فقيل لسفيان : لو كان عن غير حكيم . فقال : حدثنا زبيد ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد .

490 - وحدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، حدثني أبي ، { عن رجل من مزينة ، أنه أتى أمه فقالت : يا بني ، لو ذهبت إلى رسول الله عليه السلام فسألته . قال : فجئت إلى رسول الله عليه السلام ، وهو قائم يخطب الناس ، وهو يقول : من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفه الله ، ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق سأل إلحافا } .

فتأملنا هذه المقادير التي رويت عن رسول الله عليه السلام في تحريم المسألة بوجودها هل يتهيأ لنا تصحيحها حتى لا يكون شيء منها ضدا لما سواه منها فوجدناه محتملا أن يكون أول هذه المقادير التي حرمت بها المسألة هو المقدار الذي في حديث ابن الحنظلية ، ثم تلاه تحريمها بوجود ما في حديث الأسدي ، ثم تلاه تحريمها بوجود ما في حديث ابن مسعود ، ثم تلاه تحريمها بوجود ما في حديث المزني .

فكان المقدار الذي في حديث المزني هو المقدار الذي يتناهى تحريم [ ص: 430 ] المسألة عند وجوده ، فصار أولى هذه المقادير التي رويناها بالاستعمال في هذا الباب .

فإن قال قائل : فكيف استعملت في هذا أغلظ المقادير بدءا ، ثم استعملت بعده ما هو أخف منه حين استعملتها كلها كذلك ، ولم تستعمل الأخف منها أولا ، ثم بعده ما هو أغلظ منه حتى تأتي عليها كلها ؟

فكان جوابنا له : أن نسخ الأشياء تكون بمعنى من معنيين : فمعنى منها للعقوبة ، وهو نسخ التخفيف بالتغليظ ، وهو قول الله تعالى : فبظلم من الذين هادوا الآية .

ومعنى منها بخلاف العقوبة ، وهو نسخ التغليظ بالتخفيف ، وذلك رحمة من الله ، وتخفيف عن عباده ، ومنه قوله تعالى : يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إلى قوله : من الذين كفروا فكان فرض الله تعالى عليهم في هذه الآية أن لا يفروا من عشرة أمثالهم ، وكان معقولا في ذلك أنه جائز لهم أن يفروا مما هو أكثر من هذا ، ثم نسخها الله رحمة منه لهم وتخفيفا لضعفهم فقال : الآن خفف الله عنكم الآية ، فرد الله فرضه عليهم أن لا يفروا من مثليهم ، وكان معقولا في ذلك أن لهم أن يفروا من أكثر من مثليهم من العدد ، ومنه قوله تعالى : يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا إلى قوله : ترتيلا .

فكان ذلك مفروضا عليه ، وعلى أمته في قيام الليل ، ثم نسخ الله ذلك رحمة منه له ولهم بقوله : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل إلى قوله : فاقرؤوا ما تيسر منه .

[ ص: 431 ] فكان النسخ فيما ذكرنا وفي أمثاله فيما لا سخط فيه ولا غضب منه من التغليظ إلى التخفيف ، ولم يكن المسلمون الذين كانت المقادير التي ذكرنا توجب كل مقدار منها تحريم المسألة عليهم ، كان منهم ذنب يستحقون عليه العقوبة ، فيردون من التخفيف إلى التغليظ ، فوجب بذلك في النسخ الذي ذكرنا أن يكونوا ما ردوا من بعضه إلى ما سواه منه هو رد لهم من غليظة إلى خفيفة ، فوجب بذلك استعمال ما ذكرنا فيه في هذا الباب .

فوقفنا بذلك على أن المقدار الذي تحرم به المسألة ، هو المقدار الذي في حديث المزني ، دون ما سواه من المقادير المذكورة في غيره في هذا الباب ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية