الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ 120 ] أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا علي بن محمد المروزي ، حدثنا محمد بن إبراهيم الرازي ، حدثنا يحيى بن معاذ قال : " جملة التوحيد في كلمة واحدة ، وهي أن لا تتصور في وهمك شيئا إلا واعتقدت أن الله عز وجل مالكه من جميع الجهات " .

قال البيهقي رحمه الله تعالى : " فإن قال قائل : وأين الدليل على أنه سبحانه موجود ؟ [ ص: 264 ]

قيل : قد بينا أنه أوجد العالم وأحدثه ، والفعل لا يصح وقوعه إلا من ذوي قدرة . والقدرة لا تقوم بنفسها فوجب أنها تقوم بقادر موجود .

ولأن استحالة وقوع الفعل من معدوم كاستحالة وقوعه لا من فاعل ، فلما استحال فعل لا من فاعل استحال فعل من معدوم ، وفي ذلك دليل على وجوده ، فإن قال قائل : وما الدليل على أنه سبحانه قديم لم يزل ؟ قيل : قد ثبت أنه موجود ، ولو كان محدثا لتعلق بغيره لا إلى نهاية ، فالموجود لا ينفك من أن يكون قديما ، أو محدثا ، فلما فسد كونه محدثا ثبت أنه قديم .

وإن شئت قلت : قد بينا احتياج المحدثات إلى مقدم يقدم ما تقدم منها ، ومؤخر يؤخر ما تأخر منها ، ومخصص يخصص بعضها ببعض ، الهيئات دون بعض ، فلو كان الذي يفعل ذلك بها مشاركا لها في الحدوث لشاركها في الحاجة إلى المقدم ، والمؤخر والمخصص ، ولو كان بهذا الوصف لاقتضى كل محدثا قبله ، ويستحيل وجود محدثات ، واحد قبل واحد لا إلى أول لاستحالة الجمع بين الحدوث ، ونفي الابتداء فثبت أنه قديم لم يزل .

فإن قال قائل : فما الدليل على أنه ليس بجسم ، ولا جوهر ولا عرض ؟

قيل : لأنه لو كان جسما لكان مؤلفا . والمؤلف شيئان ، وهو سبحانه شيء واحد ولا يحتمل التأليف .

وليس بجوهر ؛ لأن الجوهر هو الحامل للأعراض ، المقابل للمتضادات ، ولو كان كذلك لكان ذلك دليلا على حدوثه ، وهو سبحانه تعالى قديم لم يزل .

وليس بعرض ؛ لأن العرض لا يصح بقاؤه ، ولا يقوم بنفسه ، - وهو - سبحانه قائم بنفسه لم يزل موجودا ، فلا يصح عدمه . [ ص: 265 ]

فإن قال قائل : فإذا كان القديم سبحانه شيئا لا كالأشياء ، ما أنكرتم أن يكون جسما لا كالأجسام ؟ قيل له : لو لزم ذلك للزم أن يكون صورة لا كالصور ، وجسدا لا كالأجساد ، وجوهرا لا كالجواهر ، فلما لم يلزم ذلك ، لم يلزم هذا . وبعد : فإن الشيء سمة لكل موجود ، وقد سمى الله - سبحانه - نفسه شيئا ، قال الله عز وجل : ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ) ، ولم يسم نفسه جسما ، ولا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا اتفق المسلمون عليه ، قال الله عز وجل : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ، وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ) .

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه لا يشبه المصنوعات ، ولا يتصور في الوهم ؟ قيل : لأنه لو أشبهها لجاز عليه جميع ما يجوز على المصنوعات من سمات النقص [ ص: 266 ] وأمارات الحدث ، والحاجة إلى محدث غيره ، وذلك يقتضي نفيه ، فوجب أنه كما وصف نفسه : ( ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ) .

ولأنا نجد كل صنعة فيما بيننا لا تشبه صانعها كالكتابة لا تشبه الكاتب ، والبناء لا يشبه الباني ، فدل ما ظهر لنا من ذلك على ما غاب عنا ، وعلمنا أن صنعة الباري لا تشبهه .

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه قائم بنفسه ، مستغن عن غيره ؟

قيل : لأن خلاف هذا الوصف يوجب حاجته إلى غيره ، والحاجة دليل الحدث ؛ لأنها تكون إلى وقت ، ثم تبطل بحدوث ضدها ، وما جاز دخول الحوادث عليه كان محدثا مثلها ، وقد قامت الدلالة على قدمه .

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه حي عالم قادر ؟ قيل : ظهور فعله دليل على حياته وقدرته وعلمه ؛ لأن ذلك لا يصح وقوعه من ميت ، ولا عاجز ، ولا جاهل به ، فدل ذلك على أنه بخلاف وصف من لا يتأتى ذلك منه ، ولا يكون بخلاف ذلك إلا وهو حي قادر عالم .

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه مريد ؟

قيل : لأنه حي ، عالم ليس بمكره ، ولا مغلوب ، ولا به آفة تمنعه من ذلك ، وكل حي خلا مما يضاد العلم ، ولم يكن به آفة تخرجه من الإرادة كان مريدا مختارا قاصدا .

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه سميع بصير ؟ قيل : لأنه حي ، ويستحيل وجود حي يتعرى عن الوصف بما يدرك المسموع ، والمرئي ، أو بالآفة المانعة منه ، ويستحيل تخصيصه من أحد هذين الوصفين ، بالآفة ؛ لأنها منع ، والمنع يقتضي مانعا وممنوعا ، ومن كان ممنوعا كان مغلوبا ، وذلك صفة الحدث ، والباري قديم لم يزل ، فهو سميع بصير لم يزل ولا يزال . [ ص: 267 ]

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه متكلم ؟ قيل : لأنه حي ليس بساكت ، ولا به آفة تمنعه من الكلام ، وكل حي كان كذلك ، كان متكلما ، ولأنه يستحيل لزوم الخطاب ، ووجود الأمر عمن لا يصح منه الكلام ، فوجب أن يكون متكلما .

فإن قال قائل : فما الدليل على أنه لم يزل حيا ، قادرا ، عالما ، مريدا ، سميعا ، بصيرا ، متكلما ؟ قيل : لأنه لو لم يكن كذلك لكان موصوفا بأضدادها من موت ، أو عجز أو آفة ، ولو كان كذلك لاستحال أن يقع منه فعل ، وفي صحة الفعل منه دليل على أنه لم يزل كذلك ، ولا يزال كذلك .

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه حي ، قادر ، عالم ، مريد ، سميع ، بصير ، متكلم ، له الحياة والقدرة والعلم والإرادة ، والسمع ، والبصر ، والكلام ؟

قيل : لأنه يستحيل إثباث موجود بهذه الأوصاف مع نفي هذه الصفات عنه ، وحين لزم إثباته بهذه الأوصاف لزم إثبات هذه الصفات له ، قال الله عز وجل : ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) .

وقال تعالى ( وسع كل شيء علما ) .

وقال : ( وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) .

أي علمه قد أحاط بالمعلومات كلها - إلى سائر الآيات التي وردت في هذا المعنى ، وقال : ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . فأثبت القوة لنفسه ، وهي القدرة ، وأثبت العلم ، فدل على أنه عالم بعلم ، قادر بقدرة ، ولأنه لو جاز عالم لا علم له لجاز علم لا لعالم به ، كما أنه لو جاز فاعل لا فعل له ، لجاز فعل لا لفاعل ، فلا استحال فاعل لا فعل له كما استحال فعل لا فاعل له ، كذلك يستحيل عالم لا علم له كما يستحيل علم لا لعالم . [ ص: 268 ]

ولأن العلم لو لم يكن شرطا في كون العالم عالما لم يضر عدمه في كل عالم ، حتى يصح كل عالم أن يكون عالما مع عدم العلم ، وحين كان شرطا في كون بعضهم عالما وجب ذلك في كل عالم لامتناع اختلاف الحقائق من الموصوفين .

ولأن إحكام الفعل يمتنع مع عدم العلم منا به كما يمتنع مع كوننا غير عالمين به ، فكما وجب استواء جميع المحكمين في كونهم علماء ، كذلك يجب استواءهم في كون العلم لهم لاستحالة وقوعه من غير ذي علم به منا كاستحالة وقوعه من غير عالم به منا .

ولأن حقيقة العلم ما يعلم به العالم ، وبعدمه يخرج عن كونه عالما ، فلو كان القديم عالما بنفسه كانت نفسه علما له ، ولا يجوز أن يكون العالم في معنى العلم .

فإن عارضوا ما ذكرنا من الآيات بقول الله عز وجل : ( وفوق كل ذي علم عليم ) قلنا : لسنا نقول : إن الله ذو علم على التنكير ، وإنما نقول : إنه ذو العلم على التعريف كما نقول : إنه ذو الجلال ، والإكرام على التعريف ، ولا نقول إنه ذو جلال وإكرام على التنكير فمعنى الآية إذا : وفوق كل ذي علم محدث من هو أعلم منه " .

فإن قالوا : فيقولون : إن علمه قديم وهو قديم . قيل : من أصحابنا من لا يقول ذلك مع إثباته له أزليا ، ومنهم من يقول : ذلك ولا يجب به الاشتباه ؛ لأن القديم هو المتقدم في وجوده بشرط المبالغة ، والتقدم في الوجود هو الوجود ، والوجود لا يوجب الاشتباه عند أحد ، فكذلك التقدم في الوجود لا يوجب الاشتباه ، ولأن القدم وصف مشترك يقال : شيخ قديم ، وبناء قديم ، وعرجون قديم ، فالاشتباه لا يقع بالاشتراك في الوصف المشترك ، ولأنه لو كان الاشتباه يقع بالاشتراك في القدم ، لكان يقع بالاشتراك في الحدث ، فلما لم يقع بالاشتراك في الحدث ، لم يقع بالاشتراك في القدم . [ ص: 269 ]

ولأن عندنا حقيقة المشتبهين هما الغيران اللذان يجوز على أحدهما جميع ما يجوز على صاحبه وينوب منابه ، وصفات الله تعالى ليست بأغيار له .

فإن قالوا : لو كان له علم لم يخل من أن يكون هو أو غيره أو بعضه قيل : هذه دعوى بل ما ينكر من علم لا يجوز أن يقال هو هو لاستحالة أن يكون العلم عالما ، ولا يجوز أن يقال : غيره لاستحالة مفارقته له ، ومعنى الغيرين ما لا يستحيل مفارقة أحدهما لصاحبه بوجه ، ولا يجوز أن يقال بعضه إذ ليس الموصوف به متبعضا .

فإن قال : لو كان له علم لكان عرضا مكتسبا ، أو مضطرا إليه ، وكان اعتقادا من جنس علومنا ؛ لأن ذلك حكم العلم المعقول .

قيل : ليس الأمر كذلك ؛ لأن العلم لم يكن علما ؛ لأنه عرض أو بصفة مما ذكرتم ، وإنما كان علما ؛ لأن العالم به يعلم ، ثم ينظر فإن كان العلم محدثا كان علمه عرضا مكتسبا ، أو مضطرا إليه ، وإن لم يكن محدثا لم يصح وصفه بما يوجب الحدث ، ولما وجب أن يكون عالما غير معتقد ، ولا مكتسب ولا مضطر وجب أن يكون له علم لا يصح وصفه بشيء مما ذكرتم ، فإن قالوا : لو كان عالما بعلم لكان محتاجا إلى علمه .

قيل : لا تجوز عليه الحاجة ؛ لأنه غني ، ليس علمه ، ولا سائر صفاته الذاتية أغيارا له ، ولا أبعاضا حتى يصح وصفه بالحاجة إلى غيره أو إلى بعضه ، فإن قالوا : فيقولون إن علمه علم بكل ما يصح أن يعلم .

قيل : كذلك نقول ، ولذلك وصف الله تعالى علمه ، فقال : [ ص: 270 ] ( لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) .

وأما غير الله عز وجل ، فإنه لا يصح أن يكون عالما بكل معلوم ، فلم يصح أن يكون له علم بذلك ، فالله سبحانه وتعالى يجب كونه عالما بكل معلوم ، وكذلك يجب أن يكون علمه علما بكل ما يصح أن يعلم . والكلام في سائر الصفات الذاتية كالكلام في العلم ، ولا يجوز في شيء من ذلك أن يقال : إنه يجاوره ؛ لأن المجاورة تقتضي المماسة ، أو المقاربة في المكان ، وذلك صفة للأجسام التي هي محل الحوادث ، ولا يقال : إنها تحله ؛ لأن الحلول يقتضي المجاورة ، وقد قامت الدلالة على بطلانها ، ولا يقال : إنها تخالفه أو تفارقه ؛ لأن المفارقة ، والمخالفة فرع للغيرية ، والتغاير بينه ، وبين صفاته محال ، ولا يقال : إنه ملكه ؛ لأن ما يملك يصح أن يفعل ، وصفاته أزلية لا يصح أن تفعل ، ولا يقال : في صفات ذاته إنها في أنفسها مختلفة ، ولا متفقة ؛ لأنها ليست بمتغايرة .

ولا يقال : إنها مع الله أو في الله بل هي مختصة بذاته قائمة به لم يزل كان موصوفا بها ، ولا يزال هو موصوفا بها . ولله تعالى صفات خبرية منها الوجه واليد . وطريق إثباتها ورود خبر الصادق بها فنثبتها ولا نكيفها . وأما صفات الفعل : كالخلق والرزق فإنها أغيار ، وهي فيما لا يزال ، ولا يصح وصفه بها في الأزل ، وأبى المحققون من أصحابنا أن يقولوا : في الله جل ثناؤه أنه لم يزل خالقا ورازقا ، ولكن يقولون : خالقنا لم يزل ، ورازقنا لم يزل ، قادرا على الخلق والرزق ؛ لأنه لم يخلق في الأزل ، ثم خلق ، وإذا سمي خالقا بعد وجود الخلق لم يوجب ذلك تغيرا في ذاته ، كما أن الرجل إذا سمي أبا بعد أن لم يسم أبا ، لم يوجب ذلك تغيرا في نفسه . ومن أصحابنا من قال : يجوز القول بأنه لم يزل خالقا رازقا على معنى أنه سيخلق وسيرزق ، وبالله التوفيق " . [ ص: 271 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية