الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ 294 ] أخبرنا أبو سعد الماليني ، أخبرنا أبو أحمد بن عدي الحافظ ، قال : سمعت عمر بن محمد الوكيل يقول : حدثني معاذ بن المثنى ، حدثنا سوار بن عبد الله ، حدثنا الأصمعي [ ص: 472 ] قال : جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن أبي العلاء فقال له : يا أبا عمرو ، الله يخلف وعده ؟ قال : " لن يخلف الله وعده " . قال عمرو : فقد قال : قال : " أين ؟ " فذكر آية وعيد لم يحفظها أبو عمرو فقال أبو عمرو : " من العجمة أتيت الوعد غير الإيعاد " ثم أنشد أبو عمرو :


وإني وإن أوعدته أو وعدته سأخلف إيعادي ، وأنجز موعدي

قال البيهقي رحمه الله : " فإن قيل : فقد قال الله تعالى : ( ومن يعص الله ورسوله ، ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ) قيل : هكذا نقول الحدود اسم جمع ، وإنما يصير متعديا لحدود الله تعالى أجمع بترك الإيمان ، وتارك الإيمان مخلد في النار .

فإن قيل قد قال : ( وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين ) قيل : وقد قال : ( إن الأبرار لفي نعيم ) .

والفاسق المؤمن بر بإيمانه .

فإن قيل : ليس برا مطلقا .

قيل : وكذلك ليس بفاجر مطلقا .

فإن قيل : فجوره أحبط إيمانه .

قيل : ليس الفصل بين هذا القول ، وبين من يقول : من المرجئة أن إيمانه أحبط فجوره ، فدل أنه أراد بالفجار الذين قابل بينهم ، وبين الأبرار الكفار ؛ لأن رأس البر الإيمان ، وكذلك رأس الفجور الكفر ، والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله عز وجل : ( إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) [ ص: 473 ]

وقوله : ( لا أضيع عمل عامل منكم ) .

وقوله : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها ، ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) .

وقوله : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) .

وقوله : ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ) .

وقوله : ( فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ) .

وقوله : ( وعد الله المؤمنين ، والمؤمنات ) .

وقوله : ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) فهذه الآيات وما ورد في معناها كلها تدل على أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وأحسن الأعمال الإيمان بالله وبرسوله .

ومن قال بتخليد المؤمن في النار كان قد أضاع أجر عمله ، ولم يجعل له عوضا ، ولأنا وجدنا الله عز وجل وعد على الطاعات ثوابا ، وعلى المعاصي عقابا فليس لأحد أن يقول يرى ما عمل من المعاصي دون ما عمل من الطاعات ، وقد عملهما جميعا إلا ولآخر أن يعكس ذلك فلا يجد القائل بذلك فضلا ، ولأنا قد أجمعنا على حصول طاعاته ، واختلفنا في زوال حكمها فلا يرفع حكم ما تيقناه من حصول الطاعات بمعصية لا تنفيها ولا تضادها .

فإن احتجوا في إبطال الشفاعة بقوله عز وجل : ( ما للظالمين من حميم ، ولا شفيع يطاع ) [ ص: 474 ]

فالظالمون هاهنا هم الكافرون ، ويشهد لذلك مفتتح الآية إذ هي في ذكر الكافرين ، فإن احتجوا بقوله : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) .

قيل : هذا دليلنا ؛ لأن الفاسق مرتضى بإيمانه قال الله عز وجل : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) .

واصطفينا وارتضينا واحد في اللسان ، ثم قال : ( فمنهم ظالم لنفسه ) أي من المصطفين ظالم لنفسه ، والظلم هو الفسق فأخبر أن فيهم ظالما ، وقال في قصة يونس ( إني كنت من الظالمين ) .

وقد روينا من أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) الآية ، قال : " كلهم في الجنة " ، وهو في الجزء السابع من كتاب البعث مذكور بشواهده .

وقيل : معناه ( إلا من ارتضى ) أن يشفعوا له كما قال : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) .

قال الحليمي رحمه الله : " ولا تحتمل الآية غير ذلك ؛ لأن المرتضين عند الله لا يحتاجون إلى شفاعة ملك ، ولا نبي فصح أن المعنى ما قلناه ، ولا يجوز أن يقال إن الله لا يرتضي أن يشفع لصاحب الكبيرة ؛ لأن المذنب هو الذي يحتاج إلى الشفاعة ، فكلما كان ذنبه أكبر كان إلى الشفاعة أحوج ، فكيف يجوز أن يكون اشتداد حاجته إلى الشفاعة حائلا بينه ، وبين الشفاعة ، وليس امتناع الشفاعة للكافرين ؛ لأن ذنبه كبير ، ولكنه بجحده البارئ المشفوع إليه ، أو الرسول الشافع له ، أو ؛ لأن الله تعالى أخبر أنه [ ص: 475 ] لا يشفع فيه أحدا ، وهذه المعاني كلها معدومة في صاحب الكبيرة من أهل القبلة .

وقوله : " ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ) لا يدفع الشفاعة ؛ لأن المراد بالملك الدفع بالقوة ، وإنما الشفاعة تذلل من الشافع للمشفوع عنده ، وإقامة الشفيع بذلك من المشفوع له ، فلا يوم أليق به وأشبه بأحواله من يوم الدين وقد ورد عن سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في إثبات الشفاعة وإخراج قوم من أهل التوحيد من النار ، وإدخالهم الجنة أخبار صحيحة صريحة قد صارت من الاستفاضة ، والشهرة بحيث قارنت الأخبار المتواترة ، وكذلك في مغفرة الله تبارك وتعالى جماعة من أهل الكبائر دون الشرك من غير تعذيب فضلا منه ورحمة ، والله واسع كريم .

قال البيهقي رحمه الله : " وقد ذكرنا هذه الأخبار في كتاب البعث والنشور ، ونحن نشير هاهنا إلى طرف منها قال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) وروينا في الحديث الثابت عن يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله ما دل على أن ذلك في الشفاعة وكذلك عن حذيفة بن اليمان ، وابن عمر وغيرهم . [ ص: 476 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية