الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في بيان كبائر الذنوب وصغائرها وفواحشها

قال الله عز وجل : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) .

وقال : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) .

وقال : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) .

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدد الكبائر ما : [ ص: 450 ]

[ 280 ] أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي ، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن عثمان الأدمي ، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ، حدثنا الأويسي ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد ، عن أبي الغيث ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " . قالوا : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " .

رواه البخاري في الصحيح ، عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي . وأخرجه مسلم من وجه آخر ، عن سليمان [ ص: 451 ]

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : " وليس في تقييده ذلك بالسبع منع الزيادة عليهن ، وإنما فيه تأكيد اجتنابهن ، ثم قد ضم إليهن غيرهن " .

روينا عن عبيد بن عمير ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " الكبائر تسع " ، فذكرهن وذكر معهن عقوق الوالدين واستحلال البيت الحرام " .

وفي الحديث الثابت ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال : " الشرك بالله ، وقتل النفس وعقوق الوالدين " . وقال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر : قول الزور - أو قال - شهادة الزور بدل " قول الزور " .

وروي في الحديث الثابت ، عن عبد الله بن عمرو قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما الكبائر ؟ قال : " الإشراك بالله " . قال : ثم ماذا ؟ قال : " عقوق الوالدين " . قال : ثم ماذا ؟ قال : " اليمين الغموس " .

وفي الحديث الثابت ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من الكبائر شتم الرجل والديه " . قالوا يا رسول الله : وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : " نعم ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه " . [ ص: 452 ]

وفي الحديث الثابت ، عن عبد الله بن مسعود قال :

قلت : يا رسول الله ، أي الذنوب أعظم عند الله عز وجل ؟ قال : " أن تجعل لله ندا ، وهو خلقك " قلت : ثم ماذا ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم " . قلت : ثم ماذا ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " .


وفي الحديث الثابت ، عن عبادة بن الصامت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصبة من أصحابه : " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان ، ولا تعصوا في معروف " .

وقد ورد في الكتاب تحريم الميتة ، والدم ولحم الخنزير ، وسائر ما ذكر معهما ، وورد فيه تحريم الخمر والميسر ، وورد فيه تحريم أكل مال اليتيم ، وتحريم أكل الأموال بالباطل ، وتحريم قتل النفس ، وتحريم الزنا ، والسرقة ، وغير ذلك وهو في مواضعه مذكور " .

وورد في السنة حديث جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة " .

وإنما أراد والله أعلم تخصيص الصلاة بوجوب القتل بتركها " وقد أورد الحليمي رحمه الله بعض ما أوردناه ، ثم قال : " وإذا تتبع ما في الكتاب والسنة من المحرمات كثر ، وإنما أوردنا هذا لنبين الصغائر والكبائر بيانا حاويا نأتي به على ما نحتاج إليه في هذا الباب بإذن الله ، [ ص: 453 ] فنقول : قتل النفس بغير حق كبيرة ، فإن كان المقتول : أبا ، أو ابنا ، أو ذا رحم من الجملة ، أو أجنبيا متحرما بالحرم ، وبالشهر الحرام فهو فاحشة .

وأما الخدشة ، والضربة بالعصا مرة أو مرتين فمن الصغائر .

والزنا كبيرة فإن كان بحليلة الجار ، أو بذات محرم ، أولا بواحدة من هاتين ولكن يأتيه في شهر رمضان ، أو في البلد الحرام فهو فاحشة .

قال الله عز وجل : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) .

وأما ما دون الزنا الموجب للحد فإنه من الصغائر ، فإن كان مع امرأة الأب ، أو حليلة الابن ، أو مع أجنبية ، أثم لكن على سبيل القهر والإكراه كان كبيرة ، وقذف المحصنات كبيرة ، وإن كانت المقذوفة أما ، أو أختا ، أو امرأة زانية كان فاحشة .

وقذف الصغيرة والمملوكة ، والحرة المتهتكة من الصغائر ، وكذلك القذف بالخيانة ، والكذب والسرقة .

والفرار من الزحف كبيرة ، فإن كان من واحد أو اثنين ضعيفين ، وهو أقوى منهما أو اثنين حملا عليه بلا سلاح ، وهو شاك السلاح فذلك فاحشة ، وعقوق الوالدين كبيرة فإن كان مع العقوق سب أو شتم أو ضرب فهو فاحشة ، وإن كان العقوق بالاستثقال لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجوههما ، والتبرم بهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت فهذا من الصغائر ، فإن كان ما يأتيه من ذلك يلجئهما إلى أن ينقبضا عنه فلا يأمرانه ، ولا ينهيانه ، ويلحقهما من ذلك ضرر ، فهذا كبيرة .

والسرقة من الكبائر ، وأما أخذ المال في قطع الطريق فاحشة ، ولذلك تقطع يد السارق ، وتقطع يد المحارب ، ورجله من خلاف ، [ ص: 454 ] وقتل النفس في قطع الطريق فاحشة ، ولذلك لا يعمل عفو الوالي عنه إذا قدر عليه قبل التوبة .

وسرقة الشيء التافه صغيرة ، فإن كان المسروق منه مسكينا لا غنى به عما أخذ منه فذلك كبيرة ، وإن لم يكن على السارق الحد .

وأخذ أموال الناس بغير حق كبيرة فإن كان المأخوذ ماله مفتقرا ، أو كان أبا الآخذ أو أمه ، أو كان الآخذ بالاستكراه والقهر فهو فاحشة ، وكذلك إن كان على سبيل القمار ، فإن كان المأخوذ شيئا تافها ، والمأخوذ منه غنيا ، لا يتبين عليه من ذلك ضرر فذلك صغيرة .

وشرب الخمر من الكبائر فإن استكثر الشارب منه حتى سكر ، أو جاهر به فذلك من الفواحش فإن مزج خمرا بمثلها من الماء فذهبت شرتها وشدتها فذلك من الصغار .

وترك الصلاة من الكبائر فإن صار عادة فهو من الفواحش فإن كان أقامها ، ولم يؤتها حقها من الخشوع لكنه التفت فيها ، أو فرقع أصابعه ، أو استمع إلى حديث الناس ، أو سوى الحصى ، أو أكثر من مس الحصى من غير عذر فذلك من الكبائر ، فإن اتخذه عادة فهو من الفواحش .

وإن ترك إتيان الجماعة لغيرها فهو من الصغائر فإن اتخذ ذلك عادة ، وقصد به مباينة الجماعة ، والانفراد عنهم فذلك كبيرة ، وإن اتفق على ذلك أهل قرية ، أو أهل بلد فهو من الفواحش .

ومنع الزكاة كبيرة ورد السائل صغيرة فإن اجتمع على منعه ، أو كان المنع من واحد إلا أنه زاد على المنع الانتهار ، والإغلاظ فذلك كبيرة ، وهكذا إن أتى محتاج رجلا موسعا على الطعام فرآه فتاقت إليه نفسه فسأله منه فرده فذلك كبيرة " [ ص: 455 ]

قال : " والأصل في هذا الباب أن كل محرم بعينه منهي عنه لمعنى في نفسه ، فإن تعاطيه كبيرة ، وتعاطيه على وجه يجمع وجهين ، أو أوجها من التحريم فاحشة ، وتعاطيه على وجه يقصر به عن رتبة المنصوص ، أو تعاطي ما دون المنصوص الذي لا يستوفي معنى المنصوص ، أو تعاطي المنصوص الذي نهى عنه لأن لا يكون ذريعة إلى غيره فهذا كله من الصغائر [ ص: 456 ]

وتعاطي الصغير على وجه يجمع وجهين ، أو أوجها من التحريم كبيرة ، ومثال ذلك موجود فيما مضى ذكره ، وأعاده هاهنا وزاد فيما ذكره من الذريعة أن يدل رجلا على مطلوب ليقتل ظلما ، أو يحضره سكينا وهذا يحرم لقوله : ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) .

لكنه من الصغائر ؛ لأن النهي عنه لئلا يكون ذريعة للظالم إلى التمكن من ظلمه ، وكذلك سؤال الرجل لغيره الذي لا يلزمه طاعة أن يقتل آخر ليس من الكبائر ؛ لأنه ليس فيه إلا إرادة هلاكه من غير أن يكون معها فعل والله أعلم .

قال البيهقي رحمه الله : " وقد نجد اسم الفاحشة واقعا على الزنا ، وإن لم ينضم إليه زيادة حرمة ، لكنه لما رأى الله عز وجل فرق بين الكبائر ، والفواحش في الذكر فرق هو أيضا بينهما فكل ما كان أفحش ذكرا جعله زائدا على الكبيرة والله أعلم " وقد فسر مقاتل بن سليمان الكبائر : " بكل ذنب ختم بالنار ، والفواحش ما يقام فيه الحد في الدنيا " .

ودل كلام الحليمي رحمه الله وغيره من الأئمة على أن الإصرار على الصغيرة كبيرة ، وقد وردت أخبار وحكايات في التحريض على اجتناب الصغائر خوفا من الإصرار عليها فتصير من الكبائر .

التالي السابق


الخدمات العلمية