الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ 132 ] أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو زكريا العنبري ، حدثنا محمد بن عبد السلام ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا عمرو بن محمد ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله عز وجل : ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ) قال : " كان الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح ، وصالح ، وهود ، ولوط ، وشعيب ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن من الأنبياء من له اسمان إلا إسرائيل ، وعيسى فإسرائيل يعقوب ، وعيسى المسيح " .

قال البيهقي رحمه الله تعالى : " والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يتضمن الإيمان له ، وهو قبول ما جاء به من عند الله عنه ، والعزم على العمل به ؛ لأن تصديقه في أنه رسول الله التزام لطاعته ، وهو راجع إلى الإيمان بالله ، والإيمان له ؛ لأنه من تصديق الرسل ، وفي طاعة الرسول طاعة المرسل ؛ لأنه بأمره أطاعه . [ ص: 280 ]

قال الله تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) .

قال : " والنبوة اسم مشتق من النبأ ، وهو الخبر إلا أن المراد به في هذا الموضع خبر خاص ، وهو الذي يكرم الله عز وجل به أحدا من عباده فيميزه عن غيره بإلقائه إليه ، ويوقفه به على شريعته بما فيها من أمر ونهي ووعظ وإرشاد ، ووعد ووعيد ، فتكون النبوة على هذا الخبر والمعرفة بالمخبرات الموصوفة . والنبي صلى الله عليه وسلم هو المخبر بها ، فإن انضاف إلى هذا التوقيف أمر بتبليغه الناس ودعائهم إليه كان نبيا رسولا ، وإن ألقي إليه ليعمل به في خاصته ، ولم يؤمر بتبليغه ، والدعاء إليه كان نبيا ، ولم يكن رسولا ، فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا .

قال : " وقد أرشد الله تعالى إلى أعلام النبوة في القرآن كما أرشد إلى آيات الحدث الدالة على الخالق والخلق ، فقال عز اسمه : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) .

وقال : ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) .

وقال : ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) .

فأخبر تعالى أنه بعث الرسل لقطع حجة العباد ، وقيل في ذلك وجوه : أحدها : أن الحجة التي قطعت على العباد هي أن لا يقولوا : إن الله جل ثناؤه إن كان خلقنا لنعبده ، فقد كان ينبغي أن يبين لنا العبادة التي يريدها منا ويرضاها لنا ، ما هي ؟ وكيف هي ؟ فإنه وإن كان في عقولنا الاستجداء له ، والشكر على نعمه التي [ ص: 281 ] أنعمها علينا ، فلم يكن فيها أن التذلل والعبودية منا بماذا ينبغي أن يكون ، وعلى أي وجه ينبغي أن يظهر فقطعت حجتهم بأن أمروا ، ونهوا وشرعت لهم الشرائع ، ونهجت لهم المناهج فعرفوا ما يراد منهم ، وزالت الشبهة عنهم .

والآخر : أن الحجة التي قطعت هي ألا يقولوا : إنا ركبنا تركيب سهو وغفلة ، وسلط علينا الهوى ، ووضعت فينا الشهوات ، فلو أمددنا بمن إذا سهونا نبهنا ، وإذا مال بنا الهوى إلى وجه قومنا لما كان منا إلا الطاعة ، ولكن لما خلينا ونفوسنا ، ووكلنا إليها ، وكانت أحوالنا ما ذكرنا غلبت الأهواء علينا ، ولم نملك قهرها ، وكانت المعاصي منا لذلك .

والثالث : أن الحجة التي قطعت هي ألا يقولوا : قد كان في عقولنا حسن الإيمان ، والصدق ، والعدل وشكر المنعم وقبح الكذب ، والكفر ، والظلم ، ولكن لم يكن فيها أن من ترك الحسن إلى القبيح عذب بالنار خالدا مخلدا فيها ، وأن من ترك القبيح إلى الحسن أثيب بالجنة خالدا مخلدا فيها ؛ لأنه إذا كان لا يدرك بالعقل أن لله جل جلاله خلقا هو الجنة ، أو خلقا هو النار الغائبة ، فكيف يدرك أن أحدهما معد للعصاة ، والآخر لأهل طاعة .

ولو علمنا أنا نعذب على معاص ، وذنوب متناهية عذابا متناهيا ، أو غير متناه ، أو نثاب على الطاعة المتناهية ثوابا غير متناه ، لما كان منا إلا الطاعة فقطع الله تبارك وتعالى هذه الحجج كلها ببعثة الرسل ، وبالله التوفيق . [ ص: 282 ]

ثم إن الحليمي - رحمه الله تعالى - احتج في صحة بعث الرسل بما عرف من بروج الكواكب ، وعددها وسيرها ، ثم بما في الأرض مما يكون قوتا ، وما يكون دواء لداء بعينه ، وما يكون سما ، وما يختص بدفع ضرر السم ، وما يختص بجبر الكسر وغير ذلك من المنافع ، والمضار التي لا تدرك إلا بخبر .

ثم بوجود الكلام من الناس ، فإن من ولد أصم لم ينطق أبدا ، ومن سمع لغة ، ونشأ عليها تكلم بها ، فبان بهذا أن أصل الكلام سمع ، وأن أول من تكلم من البشر تكلم عن تعليم ووحي كما قال الله عز وجل : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) .

وقال تعالى : ( خلق الإنسان علمه البيان ) .

ثم إن كل رسول أرسله الله تعالى إلى قوم ، فلم يخله من آية أيده بها ، وحجة آتاها إياه ، وجعل تلك الآية مخالفة للعادات ، إذ كان ما يريد الرسول إثباته بها من رسالة الله عز وجل أمرا خارجا ، عن العادات ليستدل لاقتران تلك الآية بدعواه أنه رسول الله " .

وبسط الحليمي - رحمه الله تعالى - الكلام في ذلك إلى أن قال : " والكذب على الله تعالى والافتراء عليه بدعوى الرسالة من عنده من أعظم الجنايات ، فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يظهر على من تعاطى ذلك آية ناقضة للعادات فيفتتن العباد به ، وقد نزل الله تعالى من هذا الصنع نصا في كتابه ، فقال - يعني نبيه صلى الله عليه وسلم - ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) " قال : " وكل آية آتاها الله رسولا ، فإنه يقرر بها عند الرسول أولا أنه رسول حقا ، ثم عند غيره ، وقد يجوز أن يخصه بأن يعلم بها نبوة نفسه ، ثم يجعل له [ ص: 283 ] على قومه دلالة سواها ، ومعجزات الرسل كانت أصنافا كثيرة ، وقد أخبر الله عز وجل أنه أعطى موسى عليه السلام تسع آيات بينات : العصا ، واليد ، والدم ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والطمس ، والبحر .

فأما العصا فكانت حجته على الملحدين والسحرة جميعا ، وكان السحر في ذلك الوقت فاشيا ، فلما انقلبت عصاه حية تسعى ، وتلقفت حبال السحرة وعصيهم ، علموا أن حركتها عن حية حادثة فيها حقيقة ، وليست من جنس ما يتخيل بالحيل ، فجمع ذلك الدلالة على الصانع ، وعلى نبوته جميعا .

وأما سائر الآيات التي لم يحتج إليها مع السحرة ، فكانت دلالات على فرعون وقومه القائلين بالدهر ، فأظهر الله تعالى بها صحة ما أخبرهم به موسى عليه أفضل الصلاة والسلام من أن له ولهم ربا وخالقا ، وألان الله عز وجل الحديد لداود ، وسخر له الجبال والطير ، فكانت تسبح معه بالعشي والإشراق .

وأقدر عيسى ابن مريم عليه أفضل الصلاة والسلام على الكلام في المهد ، فكان يتكلم فيه كلام الحكماء ، وكان يحيي له الموتى ، ويبرئ بدعائه أو بيده إذا مسح الأكمه ، والأبرص ، وجعل له أن يجعل من الطين كهيئة الطير ، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، ثم إنه رفعه من بين اليهود ، لما أرادوا قتله وصلبه ، فعصمه الله تعالى بذلك [ ص: 284 ] من أن يخلص ألم القتل ، والصلب إلى بدنه ، وكان الطب عاما غالبا في زمانه ، فأظهر الله تعالى بما أجراه على يده ، وعجز الحذاق من الأطباء عما هو أقل من ذلك بدرجات كثيرة من أن التعويل على الطبائع ، وإمكان ما خرج عنها باطل وإن للعالم خالقا ، ومدبرا ، ودل بإظهار ذلك له وبدعائه على صدقه . ، وبالله التوفيق .

وأما المصطفى نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين صلوات الله عليهم وعليه وعلى آله الطيبين ، وصحبه أجمعين فإنه أكثر الرسل آيات وبينات ، وذكر بعض أهل العلم أن أعلام نبوته تبلغ ألفا ، فأما العلم الذي اقترن بدعوته ، ولم يزل يتزايد أيام حياته ، ودام في أمته بعد وفاته فهو القرآن المعجز المبين ، الذي هو كما وصفه به من أنزله ، فقال : ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) وقال تعالى : ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ) وقال : ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) وقال : ( إن هذا لهو القصص الحق ) .

وقال : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه ، واتقوا لعلكم ترحمون ) وقال : ( إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة ) .

وقال : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) [ ص: 285 ] فأبان - جل ثناؤه - أنه أنزله على وصف مباين لأوصاف كلام البشر ؛ لأنه منظوم ، وليس بمنثور ، ونظمه ليس نظم الرسائل ، ولا نظم الخطب ، ولا نظم الأشعار ، ولا هو كأسجاع الكهان ، وأعلمه أن أحدا لا يستطيع أن يأتي بمثله ، ثم أمره أن يتحداهم على الإتيان بمثله إن ادعوا أنهم يقدرون عليه أو ظنوه ، فقال تعالى : ( فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) .

ثم نقصهم تسعا ، فقال : ( فأتوا بسورة من مثله ) .

فكان ما يقصه من الأمر غير أن من قبل ذلك دلالة ، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان غير مدفوع عند الموافق والمخالف عن الحصافة والمتانة وقوة العقل والرأي ، ومن كان بهذه المنزلة ، وكان مع ذلك قد انتصب لدعوة الناس إلى دينه لم يجز بوجه من الوجوه أن يقول للناس : أن ائتوا بسورة من مثل ما جئتكم به من القرآن ، ولن تستطيعوه إن أتيتم به ، فأنا كاذب وهو يعلم من نفسه أن القرآن لم ينزل عليه ، ولا يأمن أن يكون في قومه من يعارضه ، وإن ذلك إن كان بطلت دعواه ، فهذا إلى أن نذكر ما بعده دليل قاطع على أنه لم يقل للعرب أن ائتوا بمثله إن استطعتموه ، ولن تستطيعوه إلا وهو واثق متحقق أنهم لا يستطيعونه ، ولا يجوز أن يكون هذا اليقين وقع له إلا من قبل ربه الذي أوحى إليه به فوثق بخبره ، وبالله التوفيق .

وأما ما بعد هذا فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : " ائتوا بسورة من مثله إن كنتم صادقين " فطالت المهلة والنظرة لهم في ذلك ، وتواترت الوقائع والحروب بينه وبينهم ، فقتلت صناديدهم ، وسبيت ذراريهم ونساؤهم ، وانتهبت أموالهم ، ولم يتعرض أحد لمعارضته فلو قدروا عليها لافتدوا بها أنفسهم ، وأولادهم وأهاليهم وأموالهم ، ولكان الأمر في ذلك قريبا سهلا عليهم إذ كانوا أهل لسان وفصاحة وشعر وخطابة ، فلما لم [ ص: 286 ] يأتوا بذلك ولا ادعوه صح أنهم كانوا عاجزين عنه ، وفي ظهور عجزهم بيان أنه في العجز مثلهم إذ كان بشرا مثلهم لسانه لسانهم وعادته عادتهم وطباعه طباعهم وزمانه زمانهم ، وإذا كان كذلك ، وقد جاء القرآن فوجب القطع بأنه من عند الله تعالى جده لا من عنده ، وبالله التوفيق .

فإن ذكروا سجع مسيلمة فكل ما جاء به مسيلمة لا يعدو أن يكون بعضه محاكاة وسرقة وبعضه كأساجيع الكهان ، وأراجيز العرب ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما هو أحسن لفظا ، وأقوم معنى ، وأبين فائدة ، ثم لم تقل له العرب ها أنت تتحدانا على الإتيان بمثل القرآن ، وتزعم أن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لم يقدروا عليه ، ثم قد جئت بمثله مفترى أنه ليس من عند الله وذلك قوله : " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب " وقوله :


تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا     فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا "

وقوله : " إن العيش عيش الآخره فارحم الأنصار والمهاجره " [ ص: 287 ]

وقوله : " تعس عبد الدينار ، والدرهم ، وعبد الخميصة إن أعطي منها رضي ، وإن لم يعط سخط تعس ، وانتكس - وإن شيك - فلا انتقش " فلم يدع أحد من العرب أن شيئا من هذا يشبه القرآن ، وأن فيه كثيرا " كقوله : وحكى الأستاذ أبو منصور الأشعري - رحمه الله تعالى - فيما كتب إلي عن بعض أصحابنا أنه قال : " يجوز أن يكون هذا النظم قد كان ، فيما بينهم فعجزوا عنه عند التحدي ، فصار معجزة ؛ لأن إخراج ما في العادة عن العادة نقض للعادة كما أن إدخال ما ليس في العادة في الفعل نقض للعادة - وبسط الكلام في شرحه .

وأيهما كان فقد ظهرت بذلك معجزته ، واعترفت العرب بقصورهم عنه وعجزهم عن الإتيان بمثله .

التالي السابق


الخدمات العلمية