الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الرابع والثلاثون في بعثه صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري رضي الله تعالى عنه ليفتك بأبي سفيان بن حرب قبل إسلامه .

                                                                                                                                                                                                                              روى البيهقي عن عبد الواحد بن عوف وغيره ، قالوا : إن أبا سفيان قال لنفر من قريش : ألا أحد يغتر محمدا فإنه يمشي في الأسواق . فأتاه رجل من الأعراب فدخل عليه منزله؛ فقال : «قد وجدت أجمع الرجال قلبا وأشدهم بطشا وأسرعهم شدا؛ فإن أنت قويتني خرجت إليه حتى أغتاله ومعي خنجر مثل خافية النسر ، فأسوره ثم آخذ في عير فأسير وأسبق القوم عدوا؛ فإني هاد بالطريق خريت» . قال : «أنت صاحبنا» .

                                                                                                                                                                                                                              فأعطاه بعيرا ونفقة وقال : «اطو أمرك» . فخرج ليلا فسار على راحلته خمسا وصبح ظهر الحرة صبح سادسة . ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دل عليه ، فعقل راحلته ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد بني عبد الأشهل . فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن هذا ليريد غدرا . والله تعالى حائل بينه وبين ما يريد» . فذهب ليجني على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجذبه أسيد بن الحضير بداخلة إزاره ، فإذا بالخنجر فسقط في يديه وقال : دمي دمي فأخذ أسيد بلببه فدعته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اصدقني ما أنت ؟ » قال : «وأنا آمن ؟ » . قال : «نعم» . فأخبره بأمره وما جعل له أبو سفيان .

                                                                                                                                                                                                                              فخلى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم وقال : «يا محمد والله ما كنت أفرق الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي ، ثم اطلعت على ما هممت به مما سبقت به الركبان ولم يعلمه أحد ، فعرفت أنك ممنوع وأنك على حق وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان» . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم . فأقام الرجل أياما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج ولم يسمع له بذكر
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام إسحاق بن راهويه عن عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه قال : «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث معي رجلا من الأنصار» - قال ابن هشام : هو سلمة بن أسلم بن حريس الله إلى أبي سفيان بن حرب ، وقال : «إن أصبتما فيه غرة فاقتلاه» . وقال ابن إسحاق : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرا بعد مقتل خبيب بن عدي وأصحابه وبعث معه جبار بن صخر الأنصاري ، فخرجا حتى قدما مكة وحبسا جمليهما بشعب من شعاب يأجج . ثم دخلا مكة ليلا ، فقال جبار- أو سلمة- لعمرو : «لو أنا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين» . فقال عمرو : «إن القوم إذا تعشوا جلسوا بأفنيتهم وإنهم إن رأوني عرفوني فإني أعرف بمكة من الفرس الأبلق» . فقال : «كلا؛ إن [ ص: 124 ] شاء الله» . فقال عمرو : «فأبى أن يطيعني» . [قال عمرو] : فطفنا بالبيت وصلينا ، ثم خرجنا نريد أبا سفيان ، فو الله إنا لنمشي بمكة إذ نظر إلي رجل من أهل مكة فعرفني . قال ابن سعد : هو معاوية بن أبي سفيان . فقال معاوية : «عمرو بن أمية فوالله إن قدمها إلا لشر» . فأخبر قريشا بمكانه فخافوه وطلبوه وكان فاتكا في الجاهلية ، وقالوا : «ولم يأت عمرو بخير» . فحشدوا له وتجمعوا . قال عمرو : «فقلت لصاحبي : «النجاء» . فخرجنا نشتد حتى أصعدنا في جبل ، وخرجوا في طلبنا حتى إذا علونا الجبل يئسوا منا فرجعنا فدخلنا كهفا في الجبل فبتنا فيه وقد أخذنا حجارة فرضمناها دوننا ، فلما أصبحنا غدا رجل من قريش . قال ابن سعد : هو عبيد الله بن مالك بن عبيد الله التميمي . قلت : قال ابن إسحاق : هو عثمان بن مالك أو عبد الله . يقود فرسا له ويخلي عليها فغشينا ونحن في الغار ، فقلت : إن رآنا صاح بنا فأخذنا فقتلنا . قال : ومعي خنجر قد أعددته لأبي سفيان فأخرج إليه فأضربه على ثديه ضربة ، وصاح صيحة فأسمع أهل مكة ، وأرجع فأدخل مكاني . وجاءه الناس يشتدون وهو بآخر رمق فقالوا : من ضربك ؟ فقال عمرو بن أمية : وغلبه الموت فمات مكانه ولم يدلل على مكاننا . ولفظ رواية إسحاق بن راهويه : فما أدركوا منه ما استطاع أن يخبرهم بمكاننا . فاحتملوه؛ فقلت لصاحبي لما أمسينا : النجاء .

                                                                                                                                                                                                                              فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة فمررنا بالحرس وهم يحرسون جيفة خبيب بن عدي ، فقال أحدهم : «والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية ، لولا أنه بالمدينة لقلت هو عمرو بن أمية» . قال : فلما حاذى الخشبة شد عليها فاحتملها وخرجا شدا ، وخرجوا وراءه حتى أتى جرفا بمهبط مسيل يأجج ، فرمى بالخشبة في الجرف فغيبه الله تعالى عنهم فلم يقدروا عليه .

                                                                                                                                                                                                                              ولفظ رواية ابن إسحاق : ثم خرجنا فإذا نحن بخبيب على خشبة فقال لي صاحبي :

                                                                                                                                                                                                                              «هل لك أن تنزل خبيبا عن خشبته ؟ » قلت : «نعم فتنح عني فإن أبطأت فخذ الطريق» فعمدت لخبيب فأنزلته عن خشبته ، فحملته على ظهري ، فما مشيت به عشرين ذراعا حتى نذر بي الحرس .

                                                                                                                                                                                                                              ولفظ ابن أبي شيبة ، وأحمد بن عمرو : «فخليت خبيبا ، فوقع إلى الأرض فانتبذت غير بعيد فالتفت فلم أر خبيبا وكأنما الأرض ابتلعته فما رئي لخبيب رمة حتى الساعة» . قال :

                                                                                                                                                                                                                              «وقلت لصاحبي : «النجاء النجاء! حتى تأتي بعيرك فتقعد عليه ، وكان الأنصاري لا رجلة له» . قال :

                                                                                                                                                                                                                              «ومضيت حتى أخرج على ضجنان ، ثم أويت إلى جبل فأدخل كهفا فبينا أنا فيه إذ دخل علي شيخ من بني الديل أعور في غنيمة له فقال : «من الرجل ؟ » فقلت : «من بني بكر ، فمن أنت ؟ » قال : «من بني بكر» . فقلت : «مرحبا» فاضطجع ثم رفع عقيرته فقال :


                                                                                                                                                                                                                              ولست بمسلم ما دمت حيا ولا دان بدين المسلمين

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 125 ] فقلت في نفسي : سيعلم . فأمهلته حتى إذا نام أخذت قوسي فجعلت سيتها في عينه الصحيحة ، ثم تحاملت عليه حتى بلغت العظم ، ثم خرجت النجاء حتى جئت العرج ، ثم سلكت ركوبة حتى إذا هبطت النقيع إذا رجلان من مشركي قريش كانت قريش بعثتهما عينا إلى المدينة ينظران ويتجسسان ، فقلت : «استأسرا» . فأبيا ، فأرمي أحدهما بسهم فأقتله ، واستأسر الآخر ، فأوثقته رباطا وقدمت به المدينة . وجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ، ثم دعا له بخير .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية