الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الثاني والعشرون في سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما في سبعين ومائة راكب إلى العيص ، فأخذوا العير وما فيها وأخذوا يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية وأسروا ناسا منهم أبو العاص بن الربيع .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : لما كان قبل الفتح خرج أبو العاص بن الربيع تاجرا بمال له وأموال لرجال من قريش أبضعوها معه . فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصابوا ما معه . وذكر الزهري وتبعه ابن عقبة أن الذين أخذوا هذه العير وأسروا من فيها أبو بصير وأبو جندل وأصحابهما بمنزلهم بسيف البحر ، وأنهما لم يقتلا منهم أحدا لصهر أبي العاص .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر : إنه هرب منهم من السرية . فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستجار بها فأجارته . قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر : فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فكبر وكبر الناس معه صرخت زينب من صفة النساء ، وعند محمد بن عمر : قامت على بابها فنادت بأعلى صوتها وقالت : أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع .

                                                                                                                                                                                                                              قال : فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس فقال : «يا أيها الناس هل سمعتم ما سمعت ؟ » قالوا : نعم . قال : «أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم ، المؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم» زاد محمد بن عمر :

                                                                                                                                                                                                                              «وقد أجرنا من أجارته»
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر : ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله ، فدخلت عليه زينب فسألته أن يرد على أبي العاص ما أخذ منه فقبل . وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أي بنية أكرمي مثواه ، ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له» .

                                                                                                                                                                                                                              وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص ، فقال لهم : «إن هذا الرجل منا حيث علمتم وقد أصبتم له مالا ، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له؛ فإنا نحب ذلك ، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم فأنتم أحق به» . فقالوا : يا رسول الله بل نرده عليه .

                                                                                                                                                                                                                              وعند ابن عقبة : فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسرهم أبو جندل وأبو بصير وما أخذا لهم . فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ،

                                                                                                                                                                                                                              فخطب الناس وقال : «إنا صاهرنا ناسا وصاهرنا أبا العاص فنعم الصهر وجدناه ، وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش ، فأخذهم أبو جندل وأبو بصير فأسروهم وأخذوا ما كان معهم ولم يقتلوا منهم أحدا ، وأن زينب بنت رسول الله سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه ؟ »

                                                                                                                                                                                                                              فقال [ ص: 84 ]

                                                                                                                                                                                                                              الناس : نعم . فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عنده من الأسرى ، رد إليهم كل شيء حتى العقال .
                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر :

                                                                                                                                                                                                                              فردوا عليه كل شيء حتى إن الرجل ليأتي بالدلو ويأتي الرجل بالشنة والإداوة حتى إن أحدهم ليأتي بالشظاظ حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئا .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن هشام : حدثني أبو عبيدة أن أبا العاص بن الربيع لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين قيل له : هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال؛ فإنها أموال المشركين ؟ فقال أبو العاص : بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي . قال ابن هشام : وحدثني عبد الوارث بن سعيد التنوري عن [داود] بن أبي هند ، عن أبي عمرو وعامر بن شراحيل الشعبي بنحو من حديث أبي عبيدة عن أبي العاص قلت : هذا سند صحيح ، رواه أبو عبد الله الحاكم في الكنى بسند صحيح عن الشعبي رحمه الله تعالى أن المسلمين قالوا لأبي العاص : يا أبا العاص ، إنك في شرف من قريش وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره ، فهل لك أن تسلم وتغنم ما معك من أموال أهل مكة ؟ فقال : بئس ما أمرتموني به أن أفتتح ديني بغدرة .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر ، والشعبي : ثم احتمل أبو العاص إلى مكة فأدى إلى كل ذي حق حقه . ثم قام فقال : «يا أهل مكة هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه ؟ يا أهل مكة هل أوفيت ذمتي ؟ » قالوا : اللهم نعم ، فجزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما . قال :

                                                                                                                                                                                                                              «فإني أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا أني خشيت أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم ، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت» .

                                                                                                                                                                                                                              ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة . قال ابن عباس : رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على النكاح الأول لم يحدث شيئا . وفي رواية عنه ردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ست سنين . وفي رواية بعدها : ستة بالنكاح الأول ، وفي الرواية : ولم يحدث نكاحا . رواه ابن جرير .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية