الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الثامن والأربعون في سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه يرصد عيرا لقريش عند محمد بن عمر ، وابن سعد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله ومن معه لحي من جهينة بالقبلية مما يلي ساحل البحر وتعرف بسرية الخبط وسرية سيف البحر . قال جمهور أئمة المغازي كانت في رجب سنة ثمان .

                                                                                                                                                                                                                              روى البخاري من طرق عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما ، ومسلم من طرق أخر عنه ، وابن إسحاق عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال جابر رضي الله تعالى عنه : «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب ، زاد محمد بن عمر وابن سعد ، والقطب من المهاجرين والأنصار فيهم عمر بن الخطاب» . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              قال جابر : وأمر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح نرصد عيرا لقريش ، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره ، فكنا ببعض الطريق ، وفي رواية فأقمنا بالساحل نصف شهر ففني الزاد ، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع فكن مزود تمر ، وكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا . وفي رواية فكان يعطينا قبضة قبضة ، ثم صار يعطينا تمرة تمرة حتى فني . قيل كيف كنتم تصنعون بها ؟ قال : كنا نمصها كما يمص الصبي [الثدي] ، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية وهب بن كيسان قلت لجابر ما تغني عنكم تمرة ، قال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت . وفي حديث عبادة بن الصامت : فقسمها يوما بيننا فنقصت تمرة عن رجل فوجدنا فقدها ذلك اليوم فأصابنا جوع شديد وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء . وفي رواية عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، رضي الله تعالى عنهما ، وكان قوت كل منا في كل يوم تمرة فكان يمصها ثم يصرها في ثوبه ، وكنا نخبط بقسينا ونأكل حتى تقرحت أشداقنا . فأقسم أخطأها رجل منا يوما فإن انقلب به تنعشه ، فشهدنا له أنه لم يعطها فأعطيها فقام فأخذها ، انتهى ، زاد محمد بن عمر : حتى أن شدق أحدهم بمنزلة مشفر البعير انتهى . فمكثنا على ذلك أياما ، وعند أبي بكر ، ومحمد بن الحسن بن علي المقري عن جابر : كنا نأكل الخبط ثلاثة أشهر ، انتهى . حتى قال قائلهم لو لقينا عدوا ما كان بنا حركة إليه لما نالنا من الجهد . [ ص: 177 ]

                                                                                                                                                                                                                              وفي مغازي محمد بن عمر ، والغيلانيات : فقال قيس بن سعد بن عبادة : من يشتري مني تمرا بجزور أنحرها ها هنا وأوفيه الثمن بالمدينة ؟ فجعل عمر بن الخطاب يقول : واعجباه لهذا الغلام لا مال له يدين في مال غيره . فوجد قيس رجلا من جهينة فقال قيس : بعني جزورا وأوفيك ثمنه من تمر بالمدينة . قال الجهني : والله ما أعرفك فمن أنت ؟ قال : أنا قيس بن سعد بن عبادة بن دليم . قال الجهني : ما أعرفني : بنسبك إن بيني وبين سعد خلة سيد أهل يثرب ، فابتاع منه خمس جزائر كل جزور بوسق من تمر ، واشترط عليه البدوي تمر ذخرة من تمر آل دليم ، فقال قيس : نعم . قال الجهني : أشهد لي . فأشهد له نفرا من الأنصار ومعهم نفر من المهاجرين . فقال عمر بن الخطاب : لا أشهد ، هذا يدان ولا مال له إنما المال لأبيه . فقال الجهني : والله ما كان سعد ليخني بابنه في شقة من تمر وأرى وجها حسنا وفعلا شريفا . فأخذ قيس الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة كل يوم جزورا . فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره وقال : تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك . وفي حديث جابر عن الشيخين : نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم ثلاث جزائر ثم إن أبا عبيدة نهاه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى محمد بن عمر عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه أن أبا عبيدة قال لقيس : عزمت عليك ألا تنحر ، أتريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك ؟ فقال قيس : يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت وهو يقضي ديون الناس ويحمل الكل ويطعم في المجاعة لا يقضي عني شقة من تمر لقوم مجاهدين في سبيل الله ؟ فكاد أبو عبيدة يلين له وجعل عمر يقول اعزم عليه فعزم عليه وأبى عليه أن ينحر فبقيت جزوران فقدم بهما قيس المدينة يتعاقبون عليهما . وبلغ سعد بن عبادة ما كان أصاب الناس من المجاعة فقال : «إن يكن قيس كما أعرف فسوف ينحر القوم» انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              قال جابر : وانطلقنا على ساحل البحر فألقى إلينا البحر دابة يقال لها العنبر ، وفي لفظ حوتا لم نر مثله كهيئة الكثيب الضخم ، وفي رواية مثل الضريب الضخم فأتيناه فأكلنا منها .

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ منه نصف شهر . وفي رواية عند البخاري ثماني عشرة ليلة . وفي رواية عند مسلم شهرا ، ونحن ثلاثمائة حتى سمنا وادهنا من ودكه حتى ثابت منه أجسادنا وصلحت ولقد رأيتنا [ ص: 178 ] نغترف من وقب عينيه بالقلال : الدهن وأخرجنا من عينيه كذا وكذا قلة ودك ونقطع منه القدر كالثور أو كقدر الثور .

                                                                                                                                                                                                                              وأمر أبو عبيدة بضلع من أضلاعه فنصب . وفي رواية : ضلعين فنصبا ، ونظر إلى أطول رجل في الجيش- أي وهو قيس بن سعد بن عبادة فيما يظنه الحافظ- وأطول جمل فحمله عليه ومر من تحته راكبا فلم يصبه أو يصبهما . وتزودنا من لحمه وسائق ، وفي روايةأبي حمزة الخولاني وحملنا منه ما شئنا من قديد وودك في الأسقية . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              قال جابر : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك فقال : «رزق أخرجه الله تعالى لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ؟ »

                                                                                                                                                                                                                              قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله ،
                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية : فأتاه بعضهم بعضو منه فأكله .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية أبي حمزة الخولاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لو نعلم أنا ندركه لم يروح لأجبنا لو كان عندنا منه» .

                                                                                                                                                                                                                              وفي مغازي محمد بن عمر ، والغيلانيات : فلما قدم قيس بن سعد بن عبادة لقيه أبوه فقال : ما صنعت في مجاعة القوم حيث أصابتهم ؟ قال : نحرت ، قال أصبت ثم ماذا ؟ قال نحرت قال : أصبت ثم ماذا ؟ قال نهيت . وفي الصحيح عن أبي صالح ذكوان السمان إن قيس بن سعد بن عبادة قال لأبيه . وفي مسند الحميدي عن أبي صالح عن قيس قلت لأبي : كنت في الجيش فجاعوا . قال : أنحرت ؟ قال : نحرت . قال ثم جاعوا قال : أنحرت ؟ قال : نهيت .

                                                                                                                                                                                                                              وفي مغازي محمد بن عمر ، والغيلانيات قال : من نهاك ؟ قال : أبو عبيدة بن الجراح . قال : ولم ؟ قال : زعم أنه لا مال لي وإنما المال لأبيك . قال : لك أربعة حوائط أدنى حائط منها تجد منه خمسين وسقا . وكتب بذلك كتابا وأشهد أبا عبيدة وغيره . وقدم الجهني مع قيس فأوفاه أوسقه وحمله وكساه .

                                                                                                                                                                                                                              وعند ابن خزيمة عن جابر قال : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل قيس فقال : «إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت» .

                                                                                                                                                                                                                              انتهى . وجاء سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من يعذرني من ابن الخطاب يبخل علي ابني .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية