الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الثامن والسبعون في وفود فزارة إليه صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن سعد ، والبيهقي عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السعدي رضي الله تعالى عنه قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وكانت سنة تسع قدم عليه وفد بني فزارة ، بضعة عشر رجلا ، فيهم خارجة بن حصن ، والحر بن قيس بن حصن وهو أصغرهم- وهم مسنتون- على ركاب عجاف ، فجاءوا مقرين بالإسلام . فنزلوا دار رملة بنت الحدث . وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلادهم ،

                                                                                                                                                                                                                              فقال أحدهم : يا رسول الله ، أسنتت بلادنا ، وهلكت مواشينا ، وأجدب جنابنا ، وغرث عيالنا ، فادع لنا ربك يغيثنا ، واشفع لنا إلى ربك ، وليشفع لنا ربك إليك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سبحان الله ، ويلك ، هذا أنا أشفع إلى ربي عز وجل فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه ؟ لا إله إلا هو العلي العظيم وسع كرسيه السماوات والأرض فهي تئط من عظمته وجلاله كما يئط الرحل الجديد» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله عز وجل ليضحك من شففكم وأزلكم وقرب غياثكم» . فقال الأعرابي : يا رسول الله ، ويضحك ربنا عز وجل ؟ فقال : «نعم» .

                                                                                                                                                                                                                              فقال الأعرابي : لن نعدمك من رب يضحك خيرا . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله ، وصعد المنبر فتكلم بكلمات ، وكان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء . فرفع يديه حتى رئي بياض إبطيه وكان مما حفظ من دعائه : «اللهم اسق بلادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا طبقا واسعا ، عاجلا غير آجل ، نافعا غير ضار ، اللهم اسقنا رحمة ولا تسقنا عذابا ولا هدما ولا غرقا ولا محقا ، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» . فقام أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله ، التمر في المربد ، وفي لفظ المرابد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم اسقنا» فعاد أبو لبابة لقوله ، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لدعائه . فعاد أبو لبابة أيضا فقال : التمر في المربد يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره» . قالوا : ولا والله ما نرى السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار ، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس ، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت . قال : فلا والله ما رأينا الشمس سبتا . وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه .

                                                                                                                                                                                                                              فجاء ذلك الرجل أو غيره فقال : يا رسول الله ، هلكت الأموال وانقطعت السبل فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فدعا ورفع يديه حتى رئي بياض إبطيه ثم قال : «اللهم حوالينا ولا علينا ، [ ص: 395 ] اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر فانجابت السحابة عن المدينة انجياب الثوب»
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              تنبيه : في بيان غريب ما سبق :

                                                                                                                                                                                                                              خارجة : بالخاء المعجمة وبعد الألف راء مكسورة فجيم .

                                                                                                                                                                                                                              ابن حصن : بالحاء والصاد المهملتين وزن علم- ابن بدر .

                                                                                                                                                                                                                              الحر : بضم الحاء المهملة وتشديد الراء ، ابن أخي عيينة ، بالرفع بدل من الجر ، وهو مرفوع على معطوف على المبتدأ قبله .

                                                                                                                                                                                                                              مشتون : بميم مضمومة فشين معجمة فتاء أي دخلوا في الشتاء وقيل بسين مهملة ساكنة فنون مكسورة : مسنتون .

                                                                                                                                                                                                                              عجاف : بكسر العين المهملة وتخفيف الجيم ، والعجفاء هي التي بلغت في الهزال النهاية .

                                                                                                                                                                                                                              رملة بنت الحارث بن ثعلبة .

                                                                                                                                                                                                                              غرث : بفتح الغين المعجمة وكسر الراء وبالثاء المثلثة ، يغرث بفتح الراء فهو غرثان إذا جاع ، وقوم غرثى وغراثى وامرأة غرثى ونسوة غراث ، والغرث بفتح أوله وثانيه الجوع .

                                                                                                                                                                                                                              انجابت : بفتح الجيم وبعد الألف موحدة .

                                                                                                                                                                                                                              الجناب : ما قرب من محلة القوم والجمع أجنبة يقال أخصب جناب القوم وفلان خصيب الجناب .

                                                                                                                                                                                                                              يغيثنا : بفتح أوله من الغيث ، أو بضم التحتية من الإغاثة والإجابة .

                                                                                                                                                                                                                              شفعت : بفتح الفاء خلافا لمن أخطأ فكسرها .

                                                                                                                                                                                                                              وسع كرسيه السماوات والأرض : بسطت الكلام على الكرسي في كتاب : « الجواهر والنفائس في تكبير كتاب العرائس» . بما يراجع منه . والصواب أن الكرسي غير العلم خلافا لمن زعم أنه العلم .

                                                                                                                                                                                                                              تئط : بفتح الفوقية وكسر الهمزة وطاء مهملة مشددة ، والأطيط صوت الرحل والأقتاب ، يعني أن الكرسي ليعجز عن حمله وعظمه ، إذا كان معلوما أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله ، وهذا مثل لعظمة الله تعالى وجلاله ، وإنما لم يكن أطيط [ ص: 396 ]

                                                                                                                                                                                                                              وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى ، والرحل بالحاء المهملة .

                                                                                                                                                                                                                              شففكم : بفتح الشين المعجمة والفاء : اسم من الشف ، والشفف هنا أقصى ما وجدوه من الضيق .

                                                                                                                                                                                                                              الأزل : بفتح الهمزة وسكون الزاي وباللام : الضيق ، وقد أزل الرجل بفتح الزاي يأزل بكسرها أزلا بإسكانها صار في ضيق وجدب .

                                                                                                                                                                                                                              لن نعدمك : بفتح النون وسكون العين وفتح الدال المهملتين .

                                                                                                                                                                                                                              صعد : بكسر العين المهملة في الماضي وفتحها في المستقبل .

                                                                                                                                                                                                                              وكان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلى آخره : قد بسطت الكلام على ذلك في كتابي : «جامع الخيرات في الأذكار والدعوات» . وخلاصة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الدعاء في الصحيحين أو أحدهما في نحو ثلاثين حديثا ، وأجاب العلماء رحمهم الله تعالى بأن المراد لا يرفع يديه الرفع البالغ أو أن المراد لم يره رفع ، أو أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الاستسقاء ، يعني ظهور كفيه إلى السماء ، كما في مسلم ، فيكون الحديث لا يرفع هذا الرفع إلا في الاستسقاء .

                                                                                                                                                                                                                              حتى رئي بياض إبطيه : بكسر الراء وفتح الهمزة ، ورئي بضم الراء وكسر الهمزة وعليها فهو مبني للمفعول .

                                                                                                                                                                                                                              الغيث : بفتح الغين المعجمة وسكون المثناة التحتية فثاء مثلثة .

                                                                                                                                                                                                                              اسق : يجوز فيه وصل الهمزة وقطعها أسق ثلاثي ورباعي ، كذا ما بعده .

                                                                                                                                                                                                                              الري : [بكسر الراء وفتحها وتشديد التحتية] .

                                                                                                                                                                                                                              مريعا : بفتح الميم وكسر الراء وسكون التحتية وبالعين المهملة من الريع وهو الخصب وروي مربعا بضم الميم وسكون الراء وبالموحدة المكسورة وبالعين المهملة . [وروي] مرتعا بالمثناة الفوقية من رتعت الدابة إذا أكلت ما شاءت .

                                                                                                                                                                                                                              طبقا : بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وبالقاف أي مستوعبا للأرض منطبقا عليها .

                                                                                                                                                                                                                              أبو لبابة : بضم اللام وفتح الموحدتين بينهما ألف .

                                                                                                                                                                                                                              المربد : بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة وبالدال المهملة والجمع مرابد بفتح الميم ، والمربد هو الموضع الذي يجعل فيه التمر لينشف كالبيدر للحنطة . [ ص: 397 ]

                                                                                                                                                                                                                              ثعلب : بلفظ اسم الحيوان المعروف ، وهو مخرج ماء المطر من جرين التمر .

                                                                                                                                                                                                                              القزعة : بفتح القاف والزاي : القطعة الرقيقة من السحاب .

                                                                                                                                                                                                                              سلع : بفتح أوله وإسكان ثانيه : جبل بالمدينة .

                                                                                                                                                                                                                              ما رأينا الشمس سبتا : قال في المطالع أي مدة . قال قاسم بن ثابت : والناس يحملونه على أنه من سبت إلى سبت ، وإنما السيف قطعة من الدهر . وقال في النهاية : قيل أراد أسبوعا من السبت إلى السبت فأطلق عليه اسم اليوم ، وقيل أراد بالسبت مدة من الزمان قليلة كانت أو كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                              فجاء ذلك الرجل أو غيره : قال في النور إنه هو ، وذلك لأن في الصحيح ما يؤيده ويرشد إلى أنه الرجل الأول ، وقد سماه بعض حفاظ هذا العصر خارجة بن حصن بن حذيفة ، أخا عيينة بن حصن .

                                                                                                                                                                                                                              الأكمة : تل وقيل شرفة كالرابية وهو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد وربما غلظ وربما لم يغلظ والجمع أكم وأكمات مثل قصبة [وقصب] وقصبات ، وجمع الأكم إكام مثل جبل وجبال وجمع الإكام أكم بضمتين مثل كتاب وكتب ، وجمع الأكم آكام مثل عنق وأعناق .

                                                                                                                                                                                                                              الظراب : بكسر الظاء المعجمة المشالة جمع ظرب بفتح الظاء وكسر الراء وهي الروابي الصغيرة .

                                                                                                                                                                                                                              انجابت : انقطعت والجوب القطع . [ ص: 398 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية