الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الخامس عشر في سرية الرجيع

                                                                                                                                                                                                                              كانت في صفر سنة ثلاث . واختلف في سببها وفي عدد رجالها ، فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه كما في الصحيح وعروة ، وابن عقبة كما رواه البيهقي عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عشرة عيونا إلى مكة ليأتوه بخبر قريش ، وجزم ابن سعد بأنهم عشرة وسمى منهم سبعة :

                                                                                                                                                                                                                              1- عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح .

                                                                                                                                                                                                                              2- ومرثد بن أبي مرثد ، كناز بن [حصين بن يربوع بن طريف الغنوي] .

                                                                                                                                                                                                                              3- وعبد الله بن طارق [حليف بني ظفر] .

                                                                                                                                                                                                                              4- وخبيب بن عدي [أحد بني جحجبي بن كلفة بن عمرو بن عوف] .

                                                                                                                                                                                                                              5- وزيد بن الدثنة [بن معاوية أخو بني بياضة بن عمرو بن زريق] .

                                                                                                                                                                                                                              6- وخالد بن البكير [الليثي] .

                                                                                                                                                                                                                              7- ومعتب بن عبيد ، ويقال : ابن عوف .

                                                                                                                                                                                                                              وذكرهم محمد بن عمر رحمه الله تعالى ثم قال : «ويقال كانوا عشرة» . انتهى . والظاهر أن الثلاثة كانوا تبعا فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم . وذكر ابن إسحاق أنهم كانوا ستة؛ وهم [من ذكرنا] ما عدا معتب . وذكر ابن عقبة ، وابن إسحاق ، ومحمد بن عمر ، وابن سعد وغيرهم ، ولفظ محمد بن عمر أحسن سياقا . [ ص: 40 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال نقلا عن شيوخه : «مشت بنو لحيان من هذيل ، بعد قتل سفيان [بن خالد] بن نبيح الهذلي إلى عضل والقارة ، وهما حيان ، فجعلوا لهم فرائض أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكلموه فيخرج إليهم نفرا من أصحابه يدعونهم إلى الإسلام . قالوا : فنقتل من أردنا ونسير بهم إلى قريش بمكة ، فنصيب بهم ثمنا ، فإنه ليس شيء أحب إليهم من أن يؤتوا بأحد من أصحاب محمد يمثلون به ويقتلونه بمن قتل منهم ببدر . فقدم سبعة نفر من عضل والقارة [وهما حيان إلى خزيمة] مقرين بالإسلام . فقالوا : (يا رسول الله ، إن فينا إسلاما فاشيا ، فابعث معنا نفرا من أصحابك يقرئوننا القرآن ويفقهوننا في الإسلام ) . فبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة نفر ، وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد ، ويقال : عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح . قلت : وهو الصحيح ، فقد رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه . فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا بالهدة- وفي رواية بالهدأة بين عسفان ومكة .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو هريرة وعروة وابن عقبة : فغدروا بهم فنفروا لهم ، وفي لفظ : فاستصرخوا عليهم قريبا من مائة رام ، وفي رواية في الصحيح في الجهاد : «فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل» .

                                                                                                                                                                                                                              والجمع واضح بأن تكون المائة الأخرى غير رماة . وذكر أبو معشر في مغازيه أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم نزلوا بالرجيع سحرا ، فأكلوا تمر عجوة فسقط نواه في الأرض وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون النهار . فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنما فرأت النوى فأنكرت صغرهن ، وقالت : هذا تمر يثرب ، فصاحت في قومها : «قد أتيتم ، فاقتصوا آثارهم حتى نزلوا منزلا فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة ، فجاءوا في طلبهم فوجدوهم قد ركنوا في الجبل ، انتهى . فلم يرع القوم إلا بالرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم . فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد ، وفي لفظ : قردد ، بواد يقال له غران .

                                                                                                                                                                                                                              وجاء القوم فأحاطوا بهم ، فقالوا : «لكم العهد والميثاق أن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلا ، إنا والله لا نريد قتلكم ، إنما نريد أن نصيب منكم شيئا من أهل مكة » . فقال عاصم : «أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ، اللهم إني أحمي لك اليوم دينك فاحم لحمي ، اللهم أخبر عنا رسولك» .

                                                                                                                                                                                                                              قال إبراهيم بن سعد كما رواه أبو داود الطيالسي : «فاستجاب الله تعالى لعاصم ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وخبر أصحابه بذلك يوم أصيبوا» . وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كما في الصحيح : وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أصيبوا خبرهم ، فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصما في سبعة [في نفر النبل] . وبقي خبيب ، وزيد ، وعبد الله بن طارق كما عند ابن [ ص: 41 ] إسحاق . قال ابن إسحاق وغيره : «فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد [بن شهيد] ، وأسلمت بعد ذلك ، وكانت قد نذرت حين قتل ابنيها مسافع والجلاس ابني طلحة بن أبي طلحة العبدري ، وكان عاصم قتلهما يوم أحد ، لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن الخمر في قحفه ، وجعلت لمن جاء به مائة ناقة ، فمنعته الدبر . وفي حديث أبي هريرة في الصحيح : «وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه ، وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر» ، قال الحافظ : «لعله عقبة بن أبي معيط؛ فإن عاصما قتله صبرا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد أن انصرفوا من بدر ، وكأن قريشا لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الدبر لها من أخذ رأس عاصم ، فأرسلت من يأخذه أو عرفوا بذلك ورجوا أن تكون الدبر تركته فيتمكنوا من أخذه» . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر يطير في وجوههم ويلدغهم ، فحمته من رسلهم ، فلم يقدروا منه على شيء . انتهى . فلما حالت بينهم وبينه ، قالوا : دعوه حتى يمسي ، فتذهب عنه فنأخذه ، فبعث الله تبارك وتعالى الوادي فاحتمله فذهب به . وكان عاصم رضي الله تعالى عنه قد أعطى الله عهدا ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك ، فبر الله عز وجل قسمه ، فلم يروه ولا وصلوا منه إلى شيء .

                                                                                                                                                                                                                              وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول حين بلغه خبره : «يحفظ الله تبارك وتعالى العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته» . وصعد خبيب وزيد ، وعبد الله الجبل ، فلم يقدروا عليهم حتى أعطوهم العهد والميثاق ، فنزلوا إليهم ، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها ، فقال عبد الله بن طارق : «هذا أول الغدر ، والله لا أصحبكم؛ إن لي بهؤلاء القتلى أسوة» فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه ، كذا في الصحيح .

                                                                                                                                                                                                                              وعند ابن إسحاق . وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة ، فأعطوا بأيديهم فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران ، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبروه بالظهران ، وانطلقوا بزيد وخبيب فباعوهما بمكة ، قال : والذي باعهما زهير ، وجامع الهذليان . قال ابن هشام باعوهما بأسيرين من هذيل [كانا بمكة ] وقال محمد بن عمر : بيع الأول بمثقال ذهبا ، ويقال بخمسين فريضة ، وبيع الثاني بخمسين فريضة ، ويقال : اشترك فيه ناس من قريش ودخلوا بهما في شهر حرام في ذي القعدة فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرم . [ ص: 42 ]

                                                                                                                                                                                                                              ذكر قتل زيد بن الدثنة رضي الله تعالى عنه

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق وابن سعد : فاشترى زيدا صفوان بن أمية ، وأسلم بعد ذلك ، ليقتله بأبيه أمية بن خلف وحبسه عند ناس من بني جمح ، ويقال عند نسطاس غلامه . فلما انسلخت الأشهر الحرم بعثه صفوان مع غلامه نسطاس إلى التنعيم وأخرجه من الحرم ليقتله ، واجتمع رهط من قريش ، منهم أبو سفيان بن حرب . فقال أبو سفيان حين قدم ليقتل : «أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك ؟ » قال : «والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي» . فقال أبو سفيان : «ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا» . ثم قتله نسطاس ، وأسلم بعد ذلك . وذكر ابن عقبة أن زيدا وخبيبا قتلا في يوم واحد وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع يوم قتلا وهو يقول : «وعليكما السلام» .

                                                                                                                                                                                                                              ذكر قصة قتل خبيب بن عدي رضي الله تعالى عنه وما وقع في ذلك من الآيات

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو هريرة كما في الصحيح : «فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل» .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عقبة : «واشترك في ابتياع خبيب ، زعموا أبا إهاب بن عزيز ، وعكرمة بن أبي جهل ، والأخنس بن شريق ، وعبيدة بن حكيم بن الأوقص ، وأمية بن أبي عتبة ، وصفوان بن أمية وبنو الحضرمي ، وهم أبناء من قتل من المشركين يوم بدر» وقال ابن إسحاق : «فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل ، وكان أخا الحارث بن عامر لأمه» . وقال ابن هشام : كان ابن أخته لا ابن أخيه ، عقبة بن الحارث بن عامر؛ ليقتله بأبيه الحارث . قال أبو هريرة كما في الصحيح : «وكان خبيب بن عدي قتل الحارث يوم بدر» . انتهى . فجلس خبيب في بيت امرأة يقال لها ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب ، وأسلمت بعد ذلك ، فأساؤوا إساءة . فقال لهم : «ما يصنع القوم الكرام هنا بأسيرهم ؟ !» فأحسنوا إليه بعد .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد عن موهب مولى الحارث أنهم جعلوا خبيبا عنده ، فكأنه كان زوج ماوية . قالت ماوية كما عند محمد بن عمر ، وموهب كما عند ابن سعد أنهما قالا لخبيب :

                                                                                                                                                                                                                              «ألك حاجة ؟ » فقال : «نعم؛ لا تسقوني إلا العذاب ، ولا تطعموني ما ذبح على النصب ، وتخبروني إذا أرادوا قتلي» . [ ص: 43 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن بعض بنات الحارث بن عامر ، قال خلف في الأطراف : اسمها زينب ، وابن إسحاق ومحمد بن عمر عن ماوية قالت زينب : «ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب ، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة ، وإنه لموثق في الحديد ، وما كان إلا رزقا رزقه الله تعالى خبيبا» .

                                                                                                                                                                                                                              وقالت ماوية : «اطلعت عليه من صير الباب ، وإنه لفي الحديد وإن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه وما أعلم في أرض الله تعالى عنبا يؤكل» . زاد محمد بن عمر :

                                                                                                                                                                                                                              كان خبيب يتهجد بالقرآن ، فكان يسمعه النساء فيبكين ويرفقن عليه .

                                                                                                                                                                                                                              فلما انسلخت الأشهر الحرم ، وأجمعوا على قتله قالت ماوية كما عند محمد بن عمر :

                                                                                                                                                                                                                              «فأتيته فأخبرته فوالله ما اكترث بذلك» . وقال : «ابعثني بحديدة أستصلح بها» . قالت : «فبعثت إليه بموسى مع أبي حسين بن الحارث» . قال محمد بن عمر : وكانت تحضنه ولم يكن ابنها .

                                                                                                                                                                                                                              فلما ولى الغلام قلت : «والله أدرك الرجل ثأره ، أي شيء صنعت ؟ بعثت هذا الغلام بهذه الحديدة ، فيقتله ويقول : رجل برجل» . فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ، ثم قال : «لعمرك أما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة ؟ » ثم خلى سبيله . فقلت : «يا خبيب إنما أمنتك بأمانة الله» فقال خبيب : «ما كنت لأقتله وما نستحل في ديننا الغدر» .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الصحيح عن أبي هريرة : «[فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله] استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته ، قالت : فغفلت عن صبي لي حتى أتاه ، فوضعه على فخذه ، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني ، وفي يده الموسى . فقال :

                                                                                                                                                                                                                              «أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله» . قال الحافظ : والجمع بين الروايتين أنه طلب الموسى من كل منهما ، وكان الذي أوصله إليه ابن أحدهما . وأما ابن الذي خشيت عليه حين درج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه ، فهذا غير الذي أحضر إليه الحديدة . والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              فأخرجوه في الحديد حتى انتهوا به إلى التنعيم ، وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكة . فلم يتخلف أحد إما موتور فهو يريد أن يتشفى بالنظر من وتره ، وإما غير موتور فهو مخالف للإسلام وأهله . فلما انتهوا به إلى التنعيم أمروا بخشبة طويلة فحفروا لها .

                                                                                                                                                                                                                              فلما انتهوا بخبيب إليها قال : «هل أنتم تاركي فأصلي ركعتين ؟ » قالوا : نعم . فركع ركعتين أتمهما من غير أن يطول فيهما . ثم أقبل على القوم فقال : «أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة» . [ ص: 44 ]

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن عقبة رحمه الله تعالى أنه صلى الركعتين في موضع مسجد التنعيم . قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ، كما في الصحيح : «فكان خبيب رضي الله تعالى عنه أول من سن هاتين الركعتين عند القتل» انتهى . ثم قال خبيب : «اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا» . قال معاوية بن أبي سفيان : «لقد حضرت مع أبي سفيان ، فلقد رأيتني وإن أبا سفيان ليضجعني إلى الأرض فرقا من دعوة خبيب» . وكانوا يقولون : إن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زالت عنه . وقال حويطب بن عبد العزى : وأسلم بعد ذلك : «لقد رأيتني أدخلت إصبعي في أذني وعدوت هاربا فرقا أن أسمع دعاءه» ، وكذلك قال جماعة منهم .

                                                                                                                                                                                                                              فلما صلى الركعتين جعلوه على الخشبة ثم وجهوه إلى المدينة وأوثقوه رباطا ، ثم قالوا له : «ارجع عن الإسلام نخل سبيلك» . قال : «لا والله ، ما أحب أني رجعت عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعا» . قالوا : «أفتحب أن محمدا في مكانك وأنت جالس في بيتك ؟ » قال : «لا والله ما أحب أن يشاك محمد شوكة وأنا جالس في بيتي» . فجعلوا يقولون : «ارجع يا خبيب» .

                                                                                                                                                                                                                              فقال : «لا أرجع أبدا» . قالوا : «أما واللات والعزى» لئن لم تفعل لنقتلنك . فقال : «إن قتلي في الله لقليل» . ثم قال : «اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو ، اللهم إنه ليس هنا أحد يبلغ رسولك عني السلام ، فبلغه أنت عني السلام» . فلما رفع على الخشبة استقبل الدعاء . وروى محمد بن عمر عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا في أصحابه فأخذته غمية كما كانت تأخذه ، فلما نزل عليه الوحي سمعناه يقول : «وعليه السلام ورحمة الله وبركاته» . ثم قال : «هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام» .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية أبي الأسود عن عروة : «فجاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأخبر أصحابه بذلك» . قال ابن عقبة رحمه الله تعالى : فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك اليوم وهو جالس :

                                                                                                                                                                                                                              «وعليك السلام ، خبيب قتلته قريش » .

                                                                                                                                                                                                                              ثم دعا المشركون أربعين ولدا ممن قتل آباؤهم ببدر كفارا ، فأعطوا كل غلام رمحا وقالوا :

                                                                                                                                                                                                                              هذا الذي قتل آباءكم ، فطعنوه برماحهم طعنا خفيفا فاضطرب على الخشبة ، فانقلب فصار وجهه إلى الكعبة ، فقال : «الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي لنفسه» ثم قتلوه رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث أبي هريرة : «ثم قام إليه أبو سروعة» - واسمه كما في الصحيح في غزوة بدر عن أبي هريرة ، وجزم جماعة من أهل النسب أنه أبو سروعة أخو عقبة بن الحارث ، وأسلم [ ص: 45 ] بعد ذلك- (فقتله) ، وذكر أبو عمر في الاستيعاب أن أبا صبيرة بن العبدري قتل خبيبا مع عقبة ، وصوابه أبو ميسرة كما عند ابن إسحاق رحمه الله تعالى . وروى ابن إسحاق بسند صحيح عن عقبة بن الحارث قال : «لأنا كنت أضعف من ذلك ، ولكن أبا ميسرة العبدري أخذ الحربة فجعلها في يدي ، ثم أخذ بيدي وبالحربة . ثم طعنته بها حتى قتلته» وذكر محمد بن إسحاق ، ومحمد بن عمر وغيرهما أن خبيبا رضي الله تعالى عنه حين رأى ما صنعوا به قال :


                                                                                                                                                                                                                              لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع     وكلهم مبدي العداوة جاهدا
                                                                                                                                                                                                                              علي لأني في وثاق مضيع     وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم
                                                                                                                                                                                                                              وقربت من جذع طويل ممنع     وقد خيروني الكفر والموت دونه
                                                                                                                                                                                                                              وقد هملت عيناي من غير مجزع     وما بي حذار الموت إني لميت
                                                                                                                                                                                                                              ولكن حذاري حر نار تلفع     إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي
                                                                                                                                                                                                                              وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي     فذا العرش صبرني على ما يراد بي
                                                                                                                                                                                                                              فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي     وذلك في ذات الإله وإن يشأ
                                                                                                                                                                                                                              يبارك على أوصال شلو ممزع     لعمرك ما آسى إذا مت مسلما
                                                                                                                                                                                                                              على أي جنب كان في الله مصرعي     فلست بمبد للعدو تخشعا
                                                                                                                                                                                                                              ولا جزعا إني إلى الله مرجعي

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن خبيبا رضي الله تعالى عنه قال :


                                                                                                                                                                                                                              فلست أبالي حين أقتل مسلما     على أي جنب كان في الله مصرعي
                                                                                                                                                                                                                              وذلك في ذات الإله وإن يشأ     يبارك على أوصال شلو ممزع

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد بن عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وحده عينا إلى قريش قال : «فجئت خشبة خبيب وأنا أتخوف العيون ، فرقيت- وفي لفظ : فصعدت فيها- فحللت خبيبا؛ فوقع إلى الأرض ، فانتبذت غير بعيد ، فسمعت وجبة خلفي ، فالتفت فلم أر خبيبا ، وكأنما ابتلعته الأرض؛ فلم أر لخبيب أثرا حتى الساعة» وذكر أبو يوسف رحمه الله تعالى في كتاب اللطائف عن الضحاك رحمه الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل المقداد والزبير في إنزال خبيب عن خشبته ودخلا إلى التنعيم ، فوجدا حوله أربعين رجلا نشاوى ، فأنزلاه ، فحمله الزبير على فرسه ، وهو رطب لم يتغير منه شيء ، فنذر بهم المشركون ، فلما لحقوهم قذفه الزبير فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر القيرواني في حلى العلي أن خبيبا لما قتل جعلوا وجهه إلى غير القبلة فوجدوه مستقبلا لها فأداروه مرارا ثم عجزوا فتركوه . وروى ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله تعالى [ ص: 46 ]

                                                                                                                                                                                                                              عنهما قال : «لما أصيبت السرية التي كان فيها مرثد وعاصم بالرجيع ، قال رجال من المنافقين :

                                                                                                                                                                                                                              يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا ، لا هم قعدوا في أهليهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم» . فأنزل الله عز وجل في ذلك من قول المنافقين : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه [البقرة 204] وهو مخالف لما يقوله بلسانه ، وهو ألد الخصام [البقرة 204] ، أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك ، وإذا تولى؛ أي خرج من عندك سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد [البقرة 205] أي لا يحب عمله ولا يرضاه . وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد [البقرة 206] . كذا ذكر ابن إسحاق أن هذه الآيات نزلت في شأن هذه السرية ، وذكر غيره أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              ومن الناس من يشري نفسه أي يبيع نفسه في الجهاد ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد [البقرة 207] قالوا : نزلت هذه الآية في صهيب رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية