الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الحادي والتسعون في وفود علماء نجران إليه صلى الله عليه وسلم وشهادتهم له بأنه النبي الذي كانوا ينتظرونه وامتناع من امتنع عن ملاعنته .

                                                                                                                                                                                                                              روى البيهقي عن يونس بن بكير [عن سلمة بن يسوع ] عن أبيه عن جده- قال يونس وكان نصرانيا فأسلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه : طس [النمل 1] إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم [النمل 30] ، يعني النمل ، «بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عباده العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام» .

                                                                                                                                                                                                                              فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه قطع به وذعرا شديدا ، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة ، وكان من همدان . ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة إلا الأيهم وهو السيد والعاقب . فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل وقرأه ، فقال الأسقف :

                                                                                                                                                                                                                              يا أبا مريم ، ما رأيك ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما تؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، ولو كان أمرا من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأي وجهدت لك . فقال له الأسقف : تنح فاجلس ناحية . فتنحى شرحبيل فجلس ناحية .

                                                                                                                                                                                                                              فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير ، فأقرأه الكتاب وسأله ما الرأي ؟ فقال نحوا من قول شرحبيل بن وداعة . فقال له الأسقف : تنح فاجلس ، فتنحى فجلس ناحية . ثم بعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يدعى [ ص: 416 ] جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس ، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل بن وداعة ، وعبد الله بن شرحبيل ، فأمره الأسقف فجلس ناحية .

                                                                                                                                                                                                                              فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به ، ورفعت النيران السرج في الصوامع وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا نهارا فإن فزعوا بالليل ضربوا بالناقوس ورفعوا النيران في الصوامع . فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت السرج أهل الوادي أملاه وأسفله ، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع ، وفيه ثلاث وسبعون قرية ، ومائة ألف مقاتل ، فقرأ عليهم الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه . فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني ، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي ، وجبار بن فيض الحارثي فيأتوهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ، ستون راكبا ، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم العاقب وهو عبد المسيح والسيد وهو الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل ، وأوس ، والحارث ، وزيد ، وقيس ، ويزيد ، وبنيه وخويلد ، وعمرو ، وخالد ، وعبد الله ، ويحنس ، منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم : العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم .

                                                                                                                                                                                                                              وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم ، وصاحب مدراسهم ، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم ، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم . فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة وتختموا بالذهب . وفي لفظ : دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده [في المدينة ] حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرات : جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب .

                                                                                                                                                                                                                              فقال بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : ما رأينا وفدا مثلهم . وقد حازت صلاتهم . فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون نحو المشرق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دعوهم» . ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلموا عليه فلم يرد عليهم السلام ، وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب .

                                                                                                                                                                                                                              فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما وكانوا [ ص: 417 ] يعرفونهما ، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا لهما : يا عثمان ويا عبد الرحمن ، أن نبيكما كتب إلينا كتابا فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما ؟ أنعود إليه أم نرجع إلى بلادنا ؟ .

                                                                                                                                                                                                                              فقالا لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو في القوم : ما الرأي في هؤلاء القوم يا أبا الحسن ؟ فقال لهما : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إليه . ففعل وفد نجران ذلك ووضعوا حللهم ونزعوا خواتيمهم ولبسوا ثياب سفرهم ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه فرد عليهم سلامهم ثم قال : «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وأن إبليس لمعهم»
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية