الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب السادس والخمسون في وفود صداء إليه صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              روى البغوي والبيهقي وابن عساكر وحسنه عن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله تعالى عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام فأخبرت أنه قد بعث جيشا إلى قومي .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سعد رحمه الله تعالى : «لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة سنة ثمان بعث قيس بن سعد بن عبادة إلى ناحية اليمن وأمره أن يطأ صداء ، فعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين» انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              قال زياد بن الحارث الصدائي فقلت : يا رسول الله قد جئتك وافدا على من ورائي فاردد الجيش وأنا لك بإسلامي قومي وطاعتهم . فقال لي : «اذهب فردهم» . فقلت : يا رسول الله إن راحلتي قد كلت . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فردهم من صدر قناة . قال زياد : وكتب إلى قومي كتابا فقدم وفدهم بإسلامهم . وعند ابن سعد : فقدم منهم بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلا منهم . فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله دعهم ينزلوا علي فنزلوا عليه فحباهم وأكرمهم وكساهم ثم راح بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على من وراءهم من قومهم . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              قال زياد : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أخا صداء إنك لمطاع في قومك» . قال : فقلت : بل الله هداهم للإسلام . فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفلا أؤمرك عليهم ؟ » فقلت : بلى يا رسول الله . فكتب لي كتابا أمرني فيه . فقلت : يا رسول الله مر لي بشيء من صدقاتهم . قال : «نعم» فكتب لي كتابا آخر . قال زياد : وكان ذلك في بعض أسفاره . ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا فأتاه أهل ذلك المنزل يشكون عاملهم ويقولون : أخذنا بكل شيء بيننا وبين قومه في الجاهلية .

                                                                                                                                                                                                                              فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أفعل ذلك ؟ » قالوا : نعم . فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأنا فيهم فقال : «لا خير في الإمارة لرجل مؤمن» .

                                                                                                                                                                                                                              قال زياد : فدخل قوله في قلبي . ثم أتاه آخر فقال : يا رسول الله أعطني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من يسأل الناس عن غنى فصداع في الرأس وداء في البطن» . فقال السائل : أعطني من الصدقة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله عز وجل لم يرض فيها بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك وإن كنت غنيا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن» . [ ص: 350 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال زياد : فدخل في نفسي أني سألته من الصدقات وأني غني . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتشى من أول الليل فلزمت [غرزه] وكنت قريبا منه فكان أصحابه ينقطعون عنه ويستأخرون عنه حتى إذا لم يبق معه أحد غيري فلما كان أذان صلاة الصبح أمرني فأذنت فجعلت أقول أقم الصلاة يا رسول الله ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ناحية المشرق إلى الفجر ويقول لا ، حتى إذا طلع الفجر نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب لحاجته ، ثم انصرف إلي وتلاحق أصحابه فقال : «هل من ماء يا أخا صداء ؟ » فقلت : لا إلا شيء قليل لا يكفيك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اجعله في إناء ثم ائتني به» . ففعلت ، فوضع كفه في الماء . فقال زياد : فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور . ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أخا صداء لولا أني أستحي من ربي عز وجل لسقينا واستقينا ناد في أصحابي من له حاجة في الماء» . فناديت فيهم . فأخذ من أراد منهم شيئا .

                                                                                                                                                                                                                              ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فأراد بلال أن يقيم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أخا صداء هذا أذن فهو يقيم» . قال الصدائي : فأقمت الصلاة . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة أتيته بالكتابين فقلت : يا رسول الله أعفني من هذين الكتابين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما بدا لك ؟ » فقلت : سمعتك يا رسول الله تقول : «لا خير في الإمارة لرجل مؤمن» وأنا مؤمن بالله تعالى ورسوله ، وسمعتك تقول للسائل : «من سأل الناس عن غنى فصداع في الرأس وداء في البطن» وقد سألتك وأنا غني .

                                                                                                                                                                                                                              فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هو ذاك فإن شئت فاقبل وإن شئت فدع» . فقلت : أدع . فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فدلني على رجل أؤمره عليكم» . فدللته على رجل من الوفد الذين قدموا عليه فأمره عليهم .

                                                                                                                                                                                                                              ثم قلنا : يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها واجتمعنا عليها وإذا كان الصيف قل ماؤها فتفرقنا على المياه حولنا ، وكل من حولنا لنا عدو فادع الله لنا في بئرنا أن يسعنا ماؤها فنجتمع عليها ولا نتفرق . فدعا بسبع حصيات ففركهن بيده ودعا فيهن ثم قال :

                                                                                                                                                                                                                              «اذهبوا بهذه الحصيات فإذا أتيتم البئر فألقوا واحدة واحدة واذكروا اسم الله تعالى» .

                                                                                                                                                                                                                              قال زياد الصدائي : ففعلنا ما قال فما استطعنا بعد ذلك أن ننظر إلى قعرها .

                                                                                                                                                                                                                              وعند ابن سعد : ورجعوا أي الخمسة عشر إلى بلادهم ففشا فيهم الإسلام فوافى النبي صلى الله عليه وسلم مائة رجل منهم في حجة الوداع
                                                                                                                                                                                                                              . [ ص: 351 ]

                                                                                                                                                                                                                              تنبيه : في بيان غريب ما سبق :

                                                                                                                                                                                                                              صداء : بضم الصاد وفتح الدال المهملتين والمد : حي من العرب ، باليمن .

                                                                                                                                                                                                                              الجعرانة وقناة : تقدم الكلام عليهما .

                                                                                                                                                                                                                              فشا فيهم الإسلام : ظهر وذاع .

                                                                                                                                                                                                                              الغرز : بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وبالزاي : ركاب كور البعير إن كان من خشب أو جلد .

                                                                                                                                                                                                                              الأداوى : جمع إداوة إناء صغير من جلد يتخذ للماء كالسطيحة ونحوها .

                                                                                                                                                                                                                              القعب : بفتح القاف وسكون العين المهملة وبالموحدة : وهو القدح الضخم .

                                                                                                                                                                                                                              الوضوء : بفتح الواو الماء وبالضم الفعل الذي هو المصدر ويجوز العكس ، والله أعلم . [ ص: 352 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية