الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة ست وثمانين

فمن الحوادث فيها وقوع الطاعون ،
ويقال طاعون الفتيات ، ماتت فيه الجواري ، وكان بالشام والبصرة وواسط ، والحجاج يومئذ بواسط .

وقيل: إنه كان في سنة سبع وثمانين .

وفيها: مرض عبد الملك . ومات ، وبويع لولده الوليد بن عبد الملك بن مروان . [ ص: 268 ]

باب ذكر خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان

ويكنى أبا العباس ، أمه ولادة العبسية ، وكان أسمر طوالا ، حسن الوجه ، وكان له تسعة عشر ابنا: عبد العزيز ، ومحمد أمهما أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان ، وأبو عبيدة أمه فزارية ، والعباس ، وإبراهيم وليا الخلافة ، وتمام ، وخالد ، وعبد الرحمن ، ومبشر ، ومسرور ، وصدقة ، ومنصور ، ومروان ، وعنبسة ، وعمر وهو فحل بني مروان وكان يركب ومعه ستون من صلبه ذكورا ، وروح ، وبشر ، ويزيد وهو الناقص ولي الخلافة ، ويحيى ، لأمهات شتى .

وقد ذكرنا أن عبد الملك بايع للوليد قبل موته ، وكان أهل الشام يرون للوليد فضلا ويقولون: بنى مسجد دمشق ومسجد المدينة ، وأعطى المجذمين ، وقال: لا تسألوا الناس ، وأعطى كل مقعد خادما ، وكل ضرير قائدا ، وكان الوليد يمر بالبقال فيقف عليه فيأخذ حزمة البقل بيده ، فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس ، فيقول: زد فيها . وما مات الحجاج حتى ثقل على الوليد ، وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ مصانع ، وكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع ، فولي سليمان ، وكان صاحب نكاح وطعام ، وكان الناس يلتقون فيسأل الرجل الرجل عن التزويج [ ص: 269 ] والجواري ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى ختمت ومتى تختم؟

وكثرت الفتوح في أيام الوليد ، وكان مسلمة بن عبد الملك يتغلغل في بلاد الروم ، وقتيبة بن مسلم في بلاد العجم والترك ، وفتح كاشغر ، وافتتح محمد بن القاسم بلاد الهند ، وفتح محمد بن نصير أرض الأندلس ووجد بها مائدة سليمان بن داود عليهما السلام المرصعة بالجواهر .

وكان في الوليد نوع ذكاء وفطنة ، وسمع صوت ناقوس فأمر بهدم البيعة ، فكتب إليه ملك الروم: إن هذه البيعة أقرها من كان قبلك ، فإن كانوا أصابوا فقد أخطأت ، وإن تكن أصبت فقد أخطئوا ، فقال الوليد: من يجيبه؟ فأحجم الناس ، فأمر الوليد أن يكتب إليه: ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما .

وكان الوليد لحانة وكان عبد الملك يقول: أضر بالوليد حبنا له فلم نعربه في البادية - وقال لرجل: ما شآنك؟ فقال له: شيخ يانعي ، فقال له عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول لك: ما شأنك؟ قال: ختني ظلمني ، فقال له الوليد: من ختنك ، فنكس الأعرابي رأسه وقال: ما سؤال أمير المؤمنين عن هذا؟ فقال له عمر: إنما أراد أمير المؤمنين من ختنك؟ فقال: هذا ، وأشار إلى رجل معه .

وكان الوليد أول من كتب من الخلفاء في الطوامير ، وعظم الكتب ، وحلل الخط ، وقال: لتظهر كتبي على كتب غيري .

أخبرنا محمد بن ناصر ، قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الفقيه ، قال: أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري ، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا ، قال: حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد الكلبي ، قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي ، قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك ، ومهدي بن سابق ، قالا: حدثنا الهيثم بن عدي ، عن صالح بن كيسان ، قال: [ ص: 270 ]

كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب صديقا للوليد يأتيه ويؤانسه ، فجلسا يوما يلعبان بالشطرنج إذ أتاه الإذن ، فقال: أصلح الله الأمير رجل من أخوالك من أشراف ثقيف قدم غازيا وأحب السلام عليك ، فقال: دعه ، فقال عبد الله: وما عليك ائذن له ، فقال: نحن على لعبنا وقد انحجبت ، قال: فادع بمنديل وضعه عليها ويسلم الرجل ونعود ، ففعل ثم قال: ائذن له ، فدخل وله هيئة ، بين عينيه أثر السجود ، وهو معتم قد رجل لحيته ، فسلم وقال: أصلح الله الأمير ، قدمت غازيا فكرهت أن أجوزك حتى أقضي حقك ، قال: حياك الله وبارك عليك . ثم سكت عنه ، فلما أنس أقبل عليه الوليد فقال: يا خال هل جمعت القرآن؟ قال: لا كانت تشغلنا عنه شواغل ، قال: هل حفظت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه أو أحاديثه شيئا؟ قال: كانت تشغلنا عن ذلك أموالنا ، قال: فأحاديث العرب وأيامها وأشعارها؟ قال: لا ، قال: فأحاديث أهل الحجاز ومضاحكها؟ قال: لا ، قال: فأحاديث العجم وآدابها؟ قال: ذلك شيء ما كنت أطلبه . فرفع الوليد المنديل ، وقال: شاهك ، قال عبد الله بن معاوية: سبحان الله ، قال: لا والله ما معنا في البيت أحد . فلما رأى ذلك الرجل منهما خرج وأقبلوا على لعبهم .

ولما دفن عبد الملك دخل الوليد المسجد فصعد المنبر ، فخطب فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ، الله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين ، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة قوموا فبايعوا .

فكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السكوني وهو يقول:


الله أعطاك التي لا فوقها وقد أراد المشركون عوقها     عنك ويأبى الله إلا سوقها
إليك حتى قلدوك طوقها

ثم تتابع الناس على البيعة . [ ص: 271 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية