الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
455 - عبد الله بن الزبير بن العوام ، أبو بكر:

أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق ، وهو أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بعد الهجرة .

ولد بقباء على رأس عشرين شهرا من الهجرة ، وحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة ، وأذن أبو بكر في أذنه . ولم يزل مقيما بالمدينة إلى أن توفي معاوية ، فبعث يزيد إلى الوليد بن عتبة يأمره بالبيعة ، فخرج ابن الزبير إلى مكة ، وجعل يحرض الناس على بني أمية ، [ ص: 138 ] فوجد عليه يزيد إلا أنه مشى ابن الزبير إلى يحيى بن الحكم والي مكة ، فبايعه ليزيد ، فقال يزيد: لا أقبل حتى يؤتى به في وثاق ، فأبى ابن الزبير ، وقال: اللهم إني عائذ ببيتك ، وجرت حروب ، وحوصر ابن الزبير ، ثم مات يزيد ، فدعا إلى نفسه ، وسمي أمير المؤمنين ، وولى العمال ، واستوثقت له البلاد ما خلا طائفة من الشام فإنهم بايعوا مروان .

أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز ، قال: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي ، عن أبيه: أن عبد الله بن الزبير رأى في منامه كأنه صارع عبد الملك بن مروان ، فصرع عبد الملك ، وسمره في الأرض بأربعة أوتاد ، فأرسل راكبا إلى البصرة وأمره أن يلقى ابن سيرين ويقص الرؤيا عليه ولا يذكر له من أنفذه ، ولا يسمي عبد الملك ، فسار الراكب حتى أناخ بباب ابن سيرين وقص عليه المنام ، فقال ابن سيرين: من رأى هذا؟ قال: أنا رأيته في رجل بينه وبيني عداوة ، قال: ليس هذه رؤياك ، هذه رؤيا ابن الزبير أو عبد الملك أحدهما في الآخر ، فسأله الجواب ، فقال: ما أفسرها أو تصدقني فلم يصدقه ، فامتنع من التفسير ، فانصرف الراكب إلى ابن الزبير فأخبره بما جرى ، فقال: ارجع واصدقه أني رأيتها في عبد الملك ، فرجع الراكب إلى ابن سيرين برسالة ابن الزبير ، فصدقه ، فقال له: قل له: يا أمير المؤمنين ، عبد الملك يغلبك على الأرض ، ويلي هذا الأمر من ولده لظهره أربعة بعدد الأوتاد التي سمرتها في الأرض .

فلما مات مروان ولي عبد الملك ، وأقبل فقتل مصعب بن الزبير ، وبعث الحجاج إلى عبد الله فحصره وجرى له ما تقدم ذكره .

قال علماء السير: قتل ابن الزبير يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأول ، وصلبه الحجاج على الثنية التي بالحجون ، ثم أنزله فرماه في مقابر اليهود ، وكتب إلى عبد الملك يخبره ، فكتب إليه يلومه ، ويقول: ألا خليت أمه تواريه ، فأذن لها فوارته .

أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال: أخبرنا ابن حيويه ، قال: أخبرنا أحمد بن معروف ، قال: حدثنا الحسين بن الفهم ، قال: حدثنا محمد بن سعد ، قال: أخبرنا يزيد بن هارون ، وعفان بن مسلم ، وأبو عامر العقدي ، قالوا: حدثنا الأسود بن سفيان ، قال: حدثنا نوفل بن أبي عقرب: [ ص: 139 ] أن الحجاج لما قتل ابن الزبير صلبه على عقبة المدينة ، فمر به ابن عمر ، فوقف فقال: السلم عليك أبا خبيب ، أما والله لقد نهيتك عن عدو الله ، أما والله ما علمت أنك [كنت] صواما قواما ، ثم استنزله الحجاج فرمى به في مقابر اليهود ، ثم بعث إلى أمه وقد ذهب بصرها أن تأتيه ، فأبت ، فأرسل إليها: لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك حتى يأتيني بك ، فأرسلت إليه: إني والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني ، فأتاه رسوله فأخبره ، فقال: يا غلام ، ناولني سبتي ، فناوله نعليه فانتعل ثم خرج يتوذف حتى أتاها ، فدخل عليها فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك ، وقد بلغني أنك تعيره فتقول: يا ابن ذات النطاقين ، وقد كنت والله ذات النطاقين: أما أحدهما فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه ، وأما النطاق الآخر فإني كنت أرفع فيه طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي من النمل وغيره ، فأي ذلك ويل أمك عيرته به ، أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيخرج من ثقيف رجلان: كذاب ، ومبير" . فأما الكذاب فقد رأيناه ابن أبي عبيد ، وأما المبير فأنت ذلك ، فوثب فانصرف عنها ولم يراجعها .

أنبأنا عبد الوهاب الحافظ ، قال: أخبرنا أحمد بن الحسين الباقلاوي ، قال: حدثنا أبو علي بن شاذان ، قال: حدثنا دعلج ، قال: حدثنا محمد بن علي بن زيد ، قال: حدثنا سعيد بن منصور ، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال: حدثنا أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، قال: دخلت علي أسماء بنت أبي بكر بعد قتل عبد الله بن الزبير ، فقالت: بلغني أنهم علقوا عبد الله منكسا ، وعلقوا معه هرة ، والله لوددت أني لا أموت حتى يدفع إلي فأغسله وأكفنه وأحنطه ثم أدفنه ، فما لبثت حتى جاء كتاب عبد الملك أن يدفع إلى أهله ، فأتيت به أسماء فغسلته وكفنته وحنطته ثم دفنته .

[ ص: 140 ]

وعن أيوب فأحسبه قال: فما عاشت بعد ذلك إلا ثلاثة أيام حتى ماتت .

قال إبراهيم الحربي: قتل الحجاج ابن الزبير وقطعه قطعا ، فغسلته أسماء أمه -وكانت مكفوفة- فكانت تغسله قطعة قطعة ، ويوضع في الأكفان .

أخبرنا ابن ناصر ، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد بن يوسف ، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال: حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن سعد بن الحسين بن سفيان الثوري ، قال: أخبرنا حرملة بن يحيى ، قال: أخبرنا ابن المذهب ، قال: حدثنا سفيان عن منصور بن عبد الرحمن الجمحي ، عن أمه ، قالت: دخل عبد الله بن عمر المسجد وابن الزبير قد قتل وصلب ، فقيل له: هذه أسماء بنت أبي بكر في المسجد فمال إليها وقال: اصبري فإن هذه الجثث ليست بشيء وإنما الأرواح عند الله ، فقالت: وما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل؟!

أخبرنا عبد الحق ، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد بن يوسف ، قال: أخبرنا أبو بكر بن بشران ، قال: حدثنا الدارقطني ، قال: حدثنا البغوي ، قال: حدثنا محمد بن حميد ، قال: حدثنا علي بن مجاهد ، قال: حدثنا رياح النوبي أبو محمد مولى آل الزبير ، قال: سمعت أسماء بنت أبي بكر تقول للحجاج: إن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم فدفع دمه إلى ابني فشربه ، فأتاه جبريل فأخبره فقال: ما صنعت؟ قال: كرهت أن أصب دمك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمسك النار" ومسح على رأسه ، وقال: "ويل للناس منك وويل لك من الناس" .

أخبرنا علي بن عبد الله الزغواني ، قال: أخبرنا عبد الصمد بن علي بن المأمون ، قال: أخبرنا عبيد الله بن محمد بن [حبابة ، قال: أخبرنا يحيى بن [ ص: 141 ] أحمد بن] صاعد ، قال: أخبرنا عبد الجبار بن العلاء ، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة ، قال: حدثنا هشام بن عروة ، قال: أوصى إلى الزبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة ، فكان ينفق من ماله ، ويحبس عليهم أموالهم ، منهم عثمان ، والمقداد ، وعبد الرحمن بن عوف . قال: وأوصى إلى عبد الله بن الزبير عائشة وحكيم بن حزام ، وقال: اعتد بمكرمتين لم يعتد بهما أحد من الناس ، وأوصت له عائشة بحجرتها واشترى حجرة سودة ، فصارت له حجرتان من حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني: عبد الله بن الزبير .

[ ص: 142 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية